الآيات 61-66

قوله تعالى: ﴿قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى، فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى، قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى، فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى، قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى، قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾

القراءة:

قرأ " فيسحتكم " - بضم الياء وكسر الحاء - أهل الكوفة إلا أبا بكر. الباقون بفتح الياء والحاء. وهما لغتان. يقال: سحت وأسحت إذا استأصل. وقرأ أبو عمرو " إن هذين " بتشديد (إن) ونصب (هذين). وقرأ نافع وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم - بتشديد (ان) والألف في (هذان). وقرأ ابن كثير (ان) مخففة (هذان) مشددة النون. وقرأ ابن عامر بتخفيف نون (إن) وتخفيف نون (هذان). وقرأ أبو عمرو وحده " فاجمعوا " بهمزة الوصل. الباقون بقطع الهمزة من أجمعت الامر إذا عزمت عليه، قال الشاعر:

يا ليت شعري والمنى لا تنفع * هل اغدون يوما وأمري مجمع (1)

وقيل: إن جمعت وأجمعت لغتان في العزم على الامر يقال: جمعت الامر، وأجمعت عليه، بمعنى أزمعت عليه وفى الكلام حذف، لان تقديره انهم حضروا واجتمعوا يوم الزينة، فقال لهم حينئذ موسى يعني للسحرة الذين جاؤوا بسحرهم " لا تفتروا على الله " اي لا تكذبوا عليه كذبا بتكذيبي، وتقولوا إن ما جئت به السحر. والافتراء اقتطاع الخبر الباطل بادخاله في جملة الحق وأصله القطع من فرآه يفريه فريا. وافترى افتراء، والافتراء والافتعال والاختلاق واحد وقوله " فيسحتكم بعذاب " قال قتادة وابن زيد والسدي معناه فيستأصلكم بعذاب. والسحت استقصاء الشعر في الحلق: سحته سحتا واسحته اسحاتا لغتان، قال الفرزدق:

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع * من المال إلا مسحتا أو مجلف (2)

وينشد (مسحت) بالرفع على معنى لم يدع أي لم يبق. ومن نصب قال أو مجلف، كذلك روي مسحتا ومجلف. وسئل الفرزدق على ما رفعت إلا مسحتا أو مجلف. فقال للسائل على ما يسؤك وينؤك. ويقال: سحت شعره إذا استقصى حلقه. والمعنى إن العذاب إذا أتى من قبل الله أخذهم وأهلكهم عن آخرهم. وقوله " وقد خاب من افترى " أي انقطع رجاء من افترى الكذب. والخيبة الامتناع على الطالب ما أمل، والخيبة انقطاع الرجاء يقال: رجع بخيبة، وهو إذا رجع بغير قضاء حاجته. وأشد ما يكون إذا أمل خيرا من جهة، فانقلب شرا منها. وقوله " فتنازعوا أمرهم " معناه اختلفوا فيما بينهم. والتنازع محاولة كل واحد من المختلفين نزع المعنى عن صاحبه، تنازعا في الامر تنازعا، ونازعه منازعة. وقوله " وأسروا النجوى " أي اخفوها فيما بينهم. قال قتادة: انهم قالوا: إن كان هذا ساحرا فسنغلبه، وإن كان من السماء، فله أمره. وقال: وهب بن منية: لما قال لها " ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى " قالوا " ما هذا بقول ساحر. وقيل: اسرارهم كان أنهم قالوا: ان غلبنا موسى اتبعناه. وقيل أسروا النجوى دون موسى وهارون بقوله " إن هذين لساحران.... " الآية. وهو قول السدي. وقوله " ان هذان لساحران " قيل فيه أوجه:

أولها: إنه ضعف عمل (إن) لأنها تعمل وليست فعلا لشبهها بالفعل، وليست بأصل في العمل، كما انها لما خففت لم تعمل أصلا.

الثاني: " إن هذان " أشبه (الذين) في البناء، لان أصله الذي فزادوا نونا للجمع، وتركوه على حالة واحدة في النصب والجر والرفع. فكذلك كان أصله (هذا) فيه ألف مجهولة فزادوا نونا للتثنية وتركوها على حالة واحدة في الأحوال الثلاثة.

الثالث: إن (ان) بمعنى (إنه) إلا انها حذفت الهاء.

الرابع: انه لما حذفت الألف من (هذا) صارت ألف التثنية عوضا منها، فلم تزل على حالها. وهي لغة بني الحارث بن كعب، وخثعم، وزبيد، وجماعة من قبائل اليمن. وقال بعض بني الحارث بن كعب:

واطرق اطراق الشجاع ولو يرى * مساغا لناباه الشجاع لصمما (3)

وقال آخر:

إن أباها وأبا أباها * قد بلغا في المجد غايتاها (4)

وقال آخر:

تزود منا بين أذناه ضربة * دعته إلى هابي التراب عقيم (5)

الخامس: وقال المبرد وإسماعيل بن إسحاق القاضي: أحسن ما قيل في ذلك ان (ان) تكون بمعنى نعم ويكون تقديره نعم هذان لساحران، فيكون ابتداء وخبرا قال الشاعر:

ظل العواذل بالضحى * يلحينني والومهنه

ويقلن شيب قد علاك * وقد كبرت فقلت انه (6)

ووجه قراءة حفص انه جعل (إن) بمعنى (ما) وتقديره: ما هذان ساحران. وروي ان ابن مسعود قرأ (ان هذان ساحران) بغير لام. وقرأ أبي (إن هذان إلا ساحران). ومن جعل (ان) بمعنى (نعم) جعل حجته في دخول اللام في الخبر قول الشاعر:

خالي لانت ومن جرير خاله * ينل العلا وتكرم الأخوال (7)

وقال آخر:

أم الحليس لعجوز شهربة * ترضى من اللحم بعظم الرقبة (8)

هذه الآية حكاية عن قول فرعون أنه قال لهم " إن هذين " يعني موسى وهارون " لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى " قال مجاهد: معناه يذهبا بطريقة أولى العقل والاشراف والأنساب. وقال أبو صالح: ويذهبا بسراة الناس. وقال قتادة: ويذهبا ببني إسرائيل، وكانوا عددا يسيرا. وقال ابن زيد: معناه ويذهبا بالطريقة التي أنتم عليها في السيرة (وقيل: المعنى يذهبان بأهل طريقتكم المثلى. والأمثل الأشبه بالحق الثابت، والصواب الظاهر. وهو الأولى به) (9). وقال لهم فرعون أيضا " فاجمعوا كيدكم " فمن قطع الهمزة أراد فاعزموا على أمركم وكيدكم وسحركم. وقيل: جمع وأجمع لغتان في العزم على الشئ يقال: جمعت الامر وأجمعت عليه. " ثم ائتوا صفا " ومعناه مصطفين. وقال الزجاج: هو كقولهم: أتيت الصف أي الجماعة. ولم يجمع (صفا) لأنه مصدر. وقال قوم: إن هذا من قول فرعون للسحرة. وقال آخرون: بل هو من قول بعض السحرة لبعض. وقوله " وقد أفلح اليوم من استعلى " معناه قد فاز اليوم من علا على صاحبه بالغلبة. و " قالوا يا موسى اما أن تلقي واما أن نكون أول من القى " حكاية عما قالت السحرة لموسى فإنهم خيروه في الالقاء بين أن يلقوا أولا ما معهم أو يلقي موسى عصاه، ثم يلقون ما معهم، فقال لهم " بل ألقوا " أنتم ما معكم " فإذا حبالهم وعصيتهم " أي ألقوا ما معهم، فإذا حبالهم وعصيتهم. وحبال جمع حبل، وعصى جمع عصا، ويجع الحبل حبلا والعصى أعصيا ويثنى عصوان. وإنما أمرهم بالالقاء، وهو كفر منهم، لأنه ليس بأمر، وإنما هو تهديد. ومعناه الخبر، بان من كان إلقاؤه منكم حجة عنده ابتدأ بالالقاء، ذكره الجبائي. وقال قوم: يجوز أن يكون ذلك أمرا على الحقيقة أمرهم بالالقاء على وجه الاعتبار، لاعلى وجه الكفر. وقيل كان عدة السحرة سبعين ألفا - في قول القاسم بن أبي برة وقال ابن جريج: كانوا تسعمائة. وقوله " فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى " وإنما قال يخيل، لأنها لم تكن تسعى حقيقة، وإنما تحركت، لأنه قيل إنه كان جعل داخلها زئبق، فلما حميت بالشمس طلب الزئبق الصعود، فتحركت العصي والحبال، فظن موسى أنها تسعى. وقوله " يخيل إليه " قيل إلى فرعون. وقيل إلى موسى. وهو الأظهر. لقوله " فأوجس في نفسه خيفة موسى " وإنما خاف دخول الشبهة على قومه. وقيل خاف بطبع البشرية.


1- تفسير القرطبي 11 / 215 وتفسير الطبري 16 / 119.

2- تفسير القرطبي 11 / 217 والشوكاني 3 / 361.

3- تفسير القرطبي 11 / 217 ومجمع البيان 4 / 16.

4- تفسير القرطبي 11 / 218 ومجمع البيان 4 / 15.

5- تفسير الشوكاني 3 / 433 وتفسير القرطبي 11 / 219.

6- تفسير القرطبي 11 / 219.

7- ما بين القوسين كان في المطبوعة متأخرا عن موضعه مع أخطاء كثيرة فيه.

8- سورة 29 العنكبوت آية 17.

9- سورة 7 الأعراف آية 122.