الآيات 37-44

قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى، إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمِّكَ مَا يُوحَى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي، إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى، وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي، اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي، اذْهَبَا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾

إلا أن في تفصيلها خلافا لا نطول بذكره. لما أخبر الله تعالى موسى بأنه قد آتاه ما طلبه وأعطاه سؤله، عدد ما تقدم ذلك من نعمه عليه ومننه لديه. فقال " ولقد مننا عليك مرة أخرى " والمن نعمة يقطع صاحبها بها عن غيره باختصاصها به. يقال: من عليه يمن منا إذا أنعم عليه نعمة يقطعه إياها. واصله القطع، ومنه قوله " لهم اجر غير ممنون " (1) اي غير مقطوع. وحبل منين: أي منقطع. والمرة الكرة الواحدة من المر، وذلك أن نعمة الله (عز وجل) عليه مستمرة، فذكره الإجابة مرة وقبلها مرة أخرى. وقوله (إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى) أي كانت هذه النعمة عليك حين أوحينا إلى أمك ما يوحى، قال قوم: أراد انه ألهمها ذلك. وقال الجبائي: رأت في المنام أن اقذفيه في التابوت، ثم اقذفيه في اليم، والقذف هو الطرح، واليم البحر قال الراجز: كنازح اليم سقاه اليم (2) وقيل: المراد به ههنا النيل. وقوله " فليلقه اليم بالساحل " جزاء وخبر أخرج مخرج الامر ومثله " اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم " والتقدير فاطر حيه في اليم فليلقه اليم بالساحل. وقوله " يأخذه عدو لي وعدو له " يعني فرعون. وكان عدو الله بكفره وحدانيته وادعائه الربوبية، وكان عدو موسى، لتصوره أن ملكه ينقرض على يده. وقوله " وألقيت عليك محبة مني " معناه إني جعلت من رآك أحبك حتى أحبك فرعون، فسلمت من شره، واحبتك امرأته آسية بنت مزاحم فتبنتك. وقوله " ولتصنع على عيني) قال قتادة: معناه لتغذى على محبتي وإرادتي، وتقديره وأنا أراك، يجري امرك على ما أريد بك من الرفاهة في غذائك، كما يقول القائل لغيره: أنت مني بمرءا ومستمع أي انا مراع لاحوالك. وقوله " إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله " قيل إن موسى امتنع أن يقبل ثدي مرضعة الا ثدي أمه لما دلتهم عليهم أخته، فلذلك قال (فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن). وقوله " وقتلت نفسا فنجيناك من الغم " وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أن قتله النفس كان خطأ. وقال جماعة من المعتزلة: انه كان صغيرة. وقال أصحابنا: انه كان ترك مندوب إليه، لان الله تعالى قد كان حكم بقتله لكن ندبه إلى تأخير قتله إلى مدة غير ذلك، وإنما نجاه من الفكر في قتله، كيف لم يؤخره إلى الوقت الذي ندبه إليه. وقال قوم: أراد نجيناك من القتل لأنهم طلبوه ليقتلوه بالقبطي. وقوله (وفتناك فتونا) أي اختبرناك اختبارا. والمعنى انا عاملناك معاملة المختبر حتى خلصت للاصطفاء بالرسالة، فكل هذا من أكبر نعمه. وقيل: الفتون وقوعه في محنة بعد محنة حتى خلصه الله منها: أولها - أن أمه حملته في السنة التي كان فرعون بذبح فيها الأطفال، ثم القاؤه في اليم، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم جره لحية فرعون حتى هم بقتله، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، فدرأ الله بذلك عنه قتل فرعون، ثم مجئ رجل من شيعته يسعى ليخبره بما عزموا عليه من قتله. وذلك عن ابن عباس فالمعنى على هذا وخلصناك من المحن تخليصا. وقيل: معناه أخلصناك إخلاصا. ذكره مجاهد. وقوله " فلبثت سنين في أهل مدين " يعني أقمت سنين عند شعيب، يعني أحوالا أجيرا له ترعى غنمه، فمننا عليك وجعلناك نبيا حتى " جئت على قدر " أي في الوقت الذي قدر لارسالك، قال الشاعر:

نال الخلافة إذ كانت له قدرا * كما اتى ربه موسى على قدر (3)

وقال الجبائي معنى " وفتناك فتونا " أي شددنا عليك التعب في أمر المعاش حتى رعيت لشعيب عشر سنين، ويؤكده قوله " فلبثت سنين في أهل مدين " وهي مدينة شعيب " ثم جئت على قدر يا موسى " وقوله " واصطنعتك " أي اصطفيتك وأخلصتك بالألطاف التي فعلتها بك، اخترت عندها الاخلاص لعبادتي. وقوله " لنفسي " أي لتنصرف على إرادتي ومحبتي يقال: اصطنعه يصطنعه اصطناعا، وهو (افتعال) من لصنع، والصنع اتخاذ الخير لصاحبه. ووجه قوله " لنفسي " يعني محبتي، لان المحبة لما كانت أخص شئ بالنفس حنس أن يجعل ما اختص بها مختصا بالنفس على هذا الوجه. وقوله " اذهب أنت وأخوك بآياتي " أي بعلاماتي وحججي " ولا تنيا " أي لا تفترا، يقال: ونى في الامر يني ونيا إذا فتر فيه، فهو وان ومتوان. وقيل: معناه لا تضعفا قال العجاج:

فما ونى محمد مذ أن غفر * له إلا له ما مضى وما غبر (4)

وقوله " في ذكري. اذهبا إلى فرعون انه طغى " أي عتا وخرج عن الحد في المعاصي " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " معناه ادعواه إلى الله والى الايمان به وبما جئتما به، على الرجاء والطمع، لا على اليأس من فلاحه. فوقع التعبد لهما على هذا الوجه، لأنه أبلغ في دعائه إلى الحق، بالحرص الذي يكون من الراجي للامر. وقال السدي: معنى قوله " فقولا له قولا لينا " أي كنياه. وقيل: انه كانت كنية فرعون أبا الوليد. وقيل: أبا مرة. قيل: معناه وقراه وقارباه. وقوله " لعله يتذكر " معناه ليتذكر " أو يخشى " معناه أو يخاف. والمعنى أنه يكون أحدهما إما التذكر أو الخشية. وقيل المعنى على رجائكما أو طمعكما، لأنهما لا يعلمان هل يتذكر أولا. و (لعل) للترجي إلا أنه يكون لترجي المخاطب تارة ولترجي المخاطب أخرى.


1- مر تخريجه في 1 / 307 من هذا الكتاب.

2- مر تخريجه في 6 / 344 من هذا الكتاب.

3- تفسير الشوكاني 3 / 355 والقرطبي 11 / 198.

4- سورة 3 آل عمران آية 64.