سورة الأعراف / 188 و 189

﴿كأنك حفى عنها﴾ أي: كأنك عالم بها، وأصله: كأنك أحفيت في السؤال عنها حتى علمتها، أي: استقصيت وألحفت، وقيل: إن ﴿عنها﴾ يتعلق ب? ﴿يسئلونك﴾ أي: يسألونك عنها كأنك حفي أي: عالم بها (1)، وقيل: كأنك حفي بالسؤال عنها تحبه وتؤثره (2)، يعني: أنك تكره السؤال عنها لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله به ﴿ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ أنه المختص بالعلم بها (3) ﴿قل لا أملك لنفسي﴾ هو إظهار العبودية، أي: أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضرر ﴿إلا ما شاء﴾ ربي ومالكي من النفع لي والدفع عني ﴿ولو كنت أعلم الغيب﴾ لكانت حالي على خلاف ما هي عليه، فكنت أستكثر المنافع وأجتنب المضار ولم أكن غالبا مرة ومغلوبا أخرى في الحروب ورابحا وخاسرا في المتاجر ﴿إن أنا إلا﴾ عبد أرسلت بشيرا ونذيرا، وما من شأني علم الغيب.

﴿هو الذي خلقكم من نفس وا حدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشيها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صلحا لنكونن من الشاكرين (189) فلما آتاهما صلحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون (190) أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون (191) ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون (192) وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون (193)﴾ ﴿خلقكم﴾ خطاب لبني آدم ﴿من نفس وا حدة﴾ وهي نفس آدم (عليه السلام) ﴿وجعل منها زوجها﴾ وهي حواء خلقها من جسد آدم من ضلع من أضلاعه أو من جنسها كقوله: ﴿جعل لكم من أنفسكم أزواجا﴾ (4)، ﴿ليسكن إليها﴾ ليطمئن إليها ويأنس بها، لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آنس، وذكر ﴿ليسكن﴾ ذهابا إلى معنى النفس ليتبين أن المراد بها آدم، ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها، والتغشي كناية عن الجماع، وكذلك الغشيان والإتيان ﴿حملت حملا خفيفا﴾ وهو الماء الذي حصل في رحمها خف عليها ولم تستثقله ﴿فمرت به﴾ أي: استمرت بالحمل على الخفة وقامت به وقعدت كما كانت قبل ذلك، لم يمنعها الحمل عن شئ من التصرف ﴿فلما أثقلت﴾ أي: حان وقت ثقل حملها كما يقال: أقربت (5) ﴿دعوا الله﴾ أي: دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما الذي هو الحقيق بأن يلتجأ إليه فقالا: ﴿لئن آتيتنا صلحا﴾ لئن وهبت لنا ولدا سويا قد صلح بدنه وبرئ، وقيل: ولدا ذكرا (6) لأن الذكورة من الصلاح والجودة، والضمير في ﴿آتيتنا﴾ و ﴿لنكونن﴾ لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما ﴿فلما آتاهما﴾ ما طلباه من الولد الصالح السوي ﴿جعلا له شركاء﴾ أي: جعل أولادهما له شركاء، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك ﴿فيما آتاهما﴾ أي: آتي أولادهما (7)، وقد دل على ذلك قوله: ﴿فتعالى الله عما يشركون﴾ حيث جمع الضمير، ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله: تسميتهم أولادهم بعبد العزى وعبد مناة وعبد يغوث وما أشبه ذلك مكان عبد الله وعبد الرحمن، وقرئ: " جعلا له شركا " (8) أي: ذوي شرك وهم الشركاء.

وفي الآية وجه آخر: وهو أن يكون الخطاب لقريش وهم آل قصي، أي: خلقكم من نفس قصي وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي وعبد الدار (9).

سورة الأعراف / 192 - 195 ﴿أيشركون مالا﴾ يقدر على خلق شئ ﴿وهم يخلقون﴾ لأن عبدتهم يخلقونهم فهم أعجز من عبدتهم ﴿ولا يستطيعون﴾ لعبدتهم ﴿نصرا ولا أنفسهم ينصرون﴾ فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث ﴿وإن تدعوهم إلى الهدى﴾ أي: إلى ما هو هدى، أو إلى أن يهدوكم (10) ﴿لا يتبعوكم﴾ إلى مرادكم وطلبتكم، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله ﴿سواء عليكم أدعوتموهم أم﴾ صمتم عن دعائهم في أنه لا فلاح معهم.

﴿إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين (194) ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون (195)﴾ ﴿إن الذين﴾ تعبدونهم وتسمونهم آلهة ﴿من دون الله عباد أمثالكم﴾ استهزاء بهم، أي: نهاية أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء، فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم لا تفاضل بينكم ﴿فادعوهم﴾ في مهماتكم ولصرف الأسواء عنكم، ثم أبطل أن يكونوا عبادا أمثالهم بقوله: ﴿ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها﴾ ثم قال: ﴿قل ادعوا شركاءكم﴾ واستعينوا بهم في عداوتي ﴿ثم كيدون?﴾ - ي جميعا أنتم وشركاؤكم ﴿فلا تنظرون﴾ - ي فإني لا أبالي بكم، وهذا لا يقوله إلا من هو واثق بعصمة الله، وكانوا قد خوفوه بآلهتهم فأمر أن يجيبهم بذلك.

﴿إن ولى الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصلحين (196) والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون (197) وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتريهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون (198) خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجهلين (199)﴾ ﴿إن﴾ ناصري وحافظي ودافع شركم عني ﴿الله الذي نزل﴾ القرآن وأعزني برسالته ﴿وهو يتولى الصلحين﴾ ومن عاداته أن ينصر المطيعين له الصالحين من عباده ﴿وتريهم ينظرون إليك﴾ أي: يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوروا أصنامهم بصورة من يقلب حدقته إلى الشئ ليراه ﴿وهم لا يبصرون﴾ وهم لا يدركون المرئي ﴿خذ العفو﴾ أي: خذ ما عفاك من أفعال الناس وأخلاقهم وما يأتي منهم من غير كلفة، ولا تداقهم، واقبل الميسور منهم (11)، ونحوه قوله (عليه السلام): " يسروا ولا تعسروا " (12)، أمر سبحانه بالتسامح وترك الاستقصاء في القضاء والاقتضاء ﴿وأمر بالعرف﴾ بالمعروف والجميل من الأفعال والحميد من الخصال ﴿وأعرض عن الجهلين﴾ ولا تكافئ السفهاء بمثل سفههم، وأعرض عما يسوؤك منهم.

وقيل: إنه لما نزلت الآية سأل جبرئيل، فقال: " لا أدري حتى أسأل "، ثم أتاه فقال: " يا محمد إن الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك " (13).

سورة الأعراف / 200 - 202 وعن الصادق (عليه السلام): " أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها " (14).

﴿وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم (200) إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون (201) وإخوانهم يمدونهم في الغى ثم لا يقصرون (202) وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلى من ربى هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (203)﴾ ﴿وإما﴾ ينخسنك ﴿من الشيطان﴾ نخس في القلب يوسوسك على خلاف ما أمرت به ﴿فاستعذ بالله﴾ ولا تطعه، وجعل النزغ نازغا مثل قولهم: جد جده، والنزغ والنسغ والنخس بمعنى، كأنه ينخس الإنسان حين يغريه على المعاصي، وقرئ: " طيف " (15) و ﴿طائف﴾ وهو مصدر قولهم: طاف به الخيال يطيف طيفا، أو هو تخفيف طيف فيعل من طاف يطيف كلين، أو من طاف يطوف كهين (16)، وهذا تأكيد وتقرير لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان، وأن المتقين هذه عادتهم ﴿إذا﴾ أصابهم أدنى لمة (17) ﴿من الشيطان تذكروا﴾ ما أمر الله به ونهى عنه فأبصروا الرشد ودفعوا الوسوسة ﴿و﴾ أما إخوان الشياطين الذين ليسوا بمتقين فإن الشياطين ﴿يمدونهم في الغى﴾ أي: يكونون مددا لهم ويزيدونهم فيه، وقرئ: " يمدونهم " (18) من الإمداد (19)، وفي الشواذ: " يمادونهم " (20) والمعنى: يعاونونهم ﴿ثم لا يقصرون﴾ أي: لا يمسكون عن إغوائهم حتى يصروا ولا يرجعوا، وقوله: ﴿وإخوانهم يمدونهم﴾ كقول الشاعر: قوم إذا الخيل جالوا في كواثبها (21)


1- قاله ابن عباس. راجع تفسيره: ص 143، وحكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 285.

2- نسب السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 587 هذا القول إلى مقاتل، وذكره السيوطي في الدر المنثور: ج 3 ص 621 عن مجاهد وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

3- قال الجبائي: وفي الآية دليل على بطلان قول الرافضة من أن الأئمة معصومون منصوص عليهم واحدا بعد الآخر إلى يوم القيامة، لأن على هذا لابد أن يعلم آخر الأئمة ان القيامة تقوم بعده ويزول التكليف عن الخلق، وذلك خلاف قوله: * (قل إنما علمها عند الله) *. قال الشيخ الطوسي (قدس سره): وهذا الذي ذكره باطل، لأنه لا يمتنع أن يكون آخر الأئمة يعلم أنه لا إمام بعده وإن لم يعلم متى تقوم الساعة، لأنه لا يعلم متى يموت، فهو يجوز أن يكون موته عند قيام الساعة إذا أردنا بذلك أنه وقت فناء الخلق، وإن قلنا: إن الساعة عبارة عن وقت قيام الناس في الحشر فقد زالت الشبهة، لأنه إذا علم أنه يغني الخلق بعده لا يعلم متى يحشر الخلق، على أنه قد روي أن بعد موت آخر الأئمة يزول التكليف لظهور أشراط الساعة وتواتر أماراتها نحو طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وغير ذلك ومع ذلك فلا يعلم وقت قيام الساعة، ولهذا قال الحسن وجماعة من المفسرين: بادروا بالتوبة قبل ظهور الست: طلوع الشمس من مغربها والدجال والدابة...، وغير ذلك مما قدمناه، فعلى هذا سقط السؤال. انظر التبيان: ج 5 ص 49.

4- النحل: 72.

5- أقربت الحامل: قرب ولادها فهي مقرب. (أقرب الموارد: مادة قرب).

6- وهو قول الحسن. راجع تفسيره: ج 1 ص 395، وحكاه عنه ابن كثير في تفسيره: ج 2 ص 263.

7- وهو مذهب الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 187.

8- وهي قراءة نافع وعاصم برواية أبي بكر وعكرمة والأعرج. راجع التبيان: ج 5 ص 51، وإعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 167، وتفسير البغوي: ج 2 ص 221، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 299.

9- قال هذا الوجه سعيد بن جبير والحسن وعكرمة. راجع تفسير الحسن البصري: ج 1 ص 396، والتبيان: ج 5 ص 55، وتفسير البغوي: ج 2 ص 221، والدر المنثور: ج 3 ص 626.

10- انظر الكشاف: ج 2 ص 188.

11- وهو اختيار الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 396، وأبي عبيدة في مجاز القرآن: ج 1 ص 236، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 189.

12- مسند أحمد: ج 4 ص 417، السنن الكبرى للبيهقي: ج 8 ص 155.

13- أخرجه الطبري في تفسيره: ج 6 ص 154 من طريق سفيان بن عيينة عن أمي، والسيوطي في الدر المنثور: ج 3 ص 628 وعزاه إلى ابن مردويه عن جابر وقيس بن سعد بن عبادة، والسمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 590 باسناده عن سفيان عن أبي هريرة.

14- رواه الزمخشري في كشافه: ج 2 ص 190، والقرطبي في تفسيره: ج 7 ص 345.

15- وهي قراءة ابن كثير والبصريين (أبي عمرو ويعقوب) والكسائي. راجع التبيان: ج 5 ص 64، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 590، وتفسير البغوي: ج 2 ص 224، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 301، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 430، وفي تفسير القرطبي: ج 7 ص 349: هذه قراءة أهل البصرة وأهل مكة.

16- راجع تفصيل ذلك في إعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 171، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 398. .

17- يقال: أصابته من الجن لمة أي مس. (القاموس المحيط: مادة لمم).

18- قرأه نافع وحده. راجع التبيان: ج 5 ص 65، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 590، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 301، وفي إعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 172، وتفسير البغوي: ج 2 ص 225: هي قراءة أهل المدينة.

19- قال النحاس: وجماعة من أهل اللغة ينكرون هذه القراءة منهم أبو حاتم وأبو عبيد، قال أبو حاتم: لا أعرف لها وجها إلا أن يكون المعنى: يزيدونهم من الغي، وهذا غير ما يسبق إلى القلوب. انظر إعراب القرآن: ج 2 ص 172.

20- وهي قراءة عاصم والجحدري. راجع إعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 172، ومختصر شواذ القرآن لابن خالويه: ص 53.

21- وعجزه: فوارس الخيل لا ميل ولا قدم. لم نعثر على قائله فيما توفرت لدينا من مصادر، وأنشده الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 191.