سورة الأعراف / 172 و 178

﴿وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (171)﴾

﴿نتقنا الجبل فوقهم﴾ قلعناه ورفعناه كقوله: ﴿ورفعنا فوقهم الطور﴾ (1)، والظلة: كل ما أظلك من سقيفة أو سحاب ﴿وظنوا أنه واقع بهم﴾ وعلموا أنه ساقط عليهم، وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة، فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم، وكان فرسخا في فرسخ، وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم، فلما نظروا إلى الجبل خروا سجدا على أحد شقي وجوههم ينظرون إلى الجبل فرقا (2) من سقوطه (3) ﴿خذوا ما آتيناكم بقوة﴾ على إرادة القول، أي: وقلنا: خذوا، أو قائلين: خذوا ما آتيناكم من الكتاب بقوة أي: بجد وعزم على احتمال تكاليفه ﴿واذكروا ما فيه﴾ من الأوامر والنواهي ولا تنسوه.

﴿وإذ أخذ ربك من بني ادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيمة إنا كنا عن هذا غافلين (172) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون (173) وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون (174)﴾ وقرئ: " ذرياتهم " (4)، ومن أفرد فللاستغناء عن جمعه لوقوعه على الجمع، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿وكنا ذرية من بعدهم﴾، ﴿من ظهورهم﴾ بدل من ﴿بني آدم﴾ بدل البعض من الكل، ومعنى أخذ ذرياتهم من ظهورهم: إخراجهم من أصلابهم، وقوله: ﴿وأشهدهم على أنفسهم﴾ وقوله: ﴿ألست بربكم قالوا بلى شهدنا﴾ من باب التمثيل، والمعني في ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته، وشهدت بها عقولهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهداية، فكأنه ﴿أشهدهم على أنفسهم﴾ وقررهم وقال لهم: ﴿ألست بربكم﴾، وكأنهم ﴿قالوا بلى﴾ أنت ربنا ﴿شهدنا﴾ على أنفسنا وأقررنا بربوبيتك ﴿أن تقولوا﴾ مفعول له، أي: نصبنا الأدلة التي تشهد العقول على صحتها كراهة أن تقولوا ﴿يوم القيمة إنا كنا عن هذا غافلين﴾ لم ننبه عليه ﴿أو﴾ كراهة أن ﴿تقولوا﴾: ﴿إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم﴾ فاقتدينا بهم، لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم معهم، فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على تقليد الآباء والاقتداء بهم، سورة الأعراف / 175 كما لا عذر لآبائهم في الشرك وقد نصبت الأدلة لهم على التوحيد ﴿أفتهلكنا بما فعل المبطلون﴾ أي: كانوا السبب في شركنا لتأسيسهم الشرك لنا وتقدمهم فيه (5) ﴿وكذلك﴾ أي: ومثل ذلك التفصيل البليغ ﴿نفصل الآيات﴾ لهم ﴿ولعلهم يرجعون﴾ وإرادة أن يرجعوا عن شركهم نفصلها، وقرئ: " أن يقولوا " بالياء (6).

﴿واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين (175) ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هويه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون (176) ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون (177) من يهد الله فهو المهتدى ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون (178)﴾ ﴿واتل عليهم﴾ على اليهود خبر ﴿الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها﴾ هو عالم من علماء بني إسرائيل أوتي علم بعض كتب الله (7)، وقيل: هو من الكنعانيين (8)، واسمه بلعم بن باعورا (9) ﴿فانسلخ منها﴾ من الآيات بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره ﴿فأتبعه الشيطان﴾ فلحقه الشيطان وأدركه وصار قرينا له، أو فأتبعه خطواته ﴿فكان من الغاوين﴾ أي: من الضالين الكافرين.

قال الباقر (عليه السلام): " الأصل فيه بلعم ثم ضربه الله مثلا لكل مؤثر هواه على هدى الله من أهل القبلة " (10).

﴿ولو شئنا لرفعناه بها﴾ أي: لعظمناه ورفعناه إلى منازل الأبرار من العلماء بتلك الآيات ﴿ولكنه أخلد إلى الأرض﴾ مال إلى الدنيا ورغب فيها، وإنما علق رفعه بمشيئة الله تعالى ولم يعلقه بفعله الذي يستحق به الرفع، لأن مشيئة الله رفعه تابعة للزومه الآيات فذكرت المشيئة والمراد ما هي تابعة له، فكأنه قيل: ولو لزمها لرفعناه بها، ألا ترى إلى قوله: ﴿ولكنه أخلد إلى الأرض﴾ فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله، فوجب أن يكون ﴿ولو شئنا﴾ في معنى ما هو فعله ﴿فمثله كمثل الكلب﴾ أي: فصفته كصفة الكلب في أخس أحواله، وهي حال دوام اللهث به واتصاله، سواء حمل عليه أي: شد عليه وهيج فطرد أو ترك غير محمول عليه، وذلك أن سائر الحيوان لا يكون منه اللهث إلا إذا هيج وحرك وإلا لم يلهث، والكلب يتصل لهثه في الحالتين جميعا، فكان حق الكلام أن يقال: ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض فحططناه، ولكن تمثيله بالكلب في أخس أحواله في معنى ذلك، ومحل الجملة الشرطية النصب على الحال، كأنه قيل: كمثل الكلب ذليلا دائم الذلة لاهثا في الحالين.


1- النساء: 154.

2- فرق: فزع. (لسان العرب: مادة فرق).

3- راجع قصة موسى (عليه السلام) وقومه في تاريخ الطبري: ج 1 ص 270 - 303.

4- وهي قراءة نافع وابن عامر والبصريان (أبو عمرو ويعقوب). راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 298، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 428.

5- قال في تفسير القرطبي: ج 7 ص 314: قلت: وفي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه تعالى أخرج الأشباح فيها الأرواح من ظهر آدم (عليه السلام)، وروى مالك في موطئه أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية * (وإذ أخذ ربك من بني ادم... غافلين) * فقال عمر: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسأل عنها فقال: إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون... إلى أن قال: قال أبو عمر: هذا حديث منقطع الاسناد لأن مسلم بن يسار لم يلق عمر، وقال فيه يحيى بن معين: مسلم بن يسار لا يعرف، بينه وبين عمر نعيم بن ربيعة، ذكره النسائي، ونعيم هذا غير معروف بحمل العلم. انتهى قوله. قال الشيخ الطوسي (قدس سره): فأما ما روي أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم وهم كالذر فان ذلك غير جائز، لأن الأطفال فضلا عمن هو كالذر لا حجة عليهم ولا يحسن خطابهم بما يتعلق بالتكليف، ثم إن الآية تدل على خلاف ما قالوه لأن الله تعالى قال: * (وإذ أخذ ربك من بني ادم) * وقال: * (من ظهورهم) * ولم يقل: من ظهره، وقال: * (ذريتهم) * ولم يقل: ذريته، ثم قال: * (أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) * فأخبر أن هذه الذرية قد كان قبلهم آباء مبطلون وكانوا هم بعدهم. على أن راوي هذا الخبر سليمان بن بشار الجهني، وقيل: مسلم بن بشار عن عمر بن الخطاب، وقال يحيى بن معين: سليمان هذا لا يدري أين هو. راجع التبيان: ج 5 ص 28 - 29.

6- وهي قراءة أبي عمرو وحده. راجع التبيان: ج 5 ص 26، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 298، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 4 ص 421.

7- وعليه مذهب الجمهور. انظر التبيان: ج 5 ص 31.

8- قاله علي بن أبي طلحة ومقاتل قال: هو من مدينة بلقاء. راجع تفسير البغوي: ج 2 ص 213. وقال ابن كثير في تفسيره: ج 2 ص 254: قال قتادة عن كعب: كان رجلا من أهل البلقاء يعلم الاسم الأكبر وكان مقيما ببيت المقدس مع الجبارين.

9- وهو قول ابن عباس وابن مسعود ومجاهد. راجع تفسير ابن عباس: ص 141، وتفسير مجاهد: ص 347، وتفسير الماوردي: ج 2 ص 279، وتفسير البغوي: ج 2 ص 213. وفي تفسير القمي: ج 1 ص 248: أنها نزلت في بلعم بن باعورا وكان من بني إسرائيل، وحدثني أبي عن الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام): أنه أعطي الاسم الأعظم، فكان يدعو به فيستجاب له، فمال إلى فرعون، فلما مر فرعون في طلب موسى وأصحابه قال فرعون لبلعم: ادعو الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا، فركب حمارته ليمر في طلب موسى وأصحابه، فامتنعت عليه حمارته، فأقبل يضربها فأنطقها الله عز وجل فقالت: ويلك على ما تضربني؟أتريد أجئ معك لتدعو على موسى نبي الله وقوم مؤمنين؟فلم يزل يضربها حتى قتلها وانسلخ الاسم الأعظم من لسانه.

10- التبيان: ج 5 ص 32.