سورة الأعراف / 169 و 170

هو تفعل من الإيذان وهو الإعلام، ومعناه: ﴿و﴾ أذكر ﴿إذ﴾ عزم ﴿ربك﴾ لأن العازم على الأمر يحدث به نفسه ويؤذنها بفعله، وأجري مجرى فعل القسم كـ " علم الله " و " شهد الله "، ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله: ﴿ليبعثن﴾، فكأنه قال: ﴿وإذ﴾ كتب ﴿ربك﴾ على نفسه وأوجب ﴿ليبعثن﴾ على اليهود ﴿إلى يوم القيمة من يسومهم سوء العذاب﴾ فكانوا يؤدون الجزية إلى المجوس إلى أن بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) ثم ضربها عليهم فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر، ومعنى ﴿ليبعثن﴾: ليسلطن عليهم كقوله: ﴿بعثنا عليكم عبادا لنا﴾ (1)، ﴿وقطعناهم في الأرض أمما﴾ أي: فرقناهم في البلاد فرقا وجماعات شتى، فلا يكاد يخلو بلد من فرقة منهم ﴿منهم الصالحون﴾ وهم الذين آمنوا بالله ورسوله (2) ﴿ومنهم دون ذلك﴾ أي: ومنهم ناس دون ذلك الوصف أي: منحطون عنه، فقوله: ﴿دون ذلك﴾ في محل الرفع لأنه صفة لموصوف محذوف، ونحوه قوله: ﴿وما منا إلا له مقام معلوم﴾ (3) أي: وما منا أحد إلا له مقام ﴿وبلوناهم بالحسنات والسيئات﴾ بالنعم والنقم والمنح والمحن ﴿لعلهم يرجعون﴾ ينتهون فينيبون (4).

﴿فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون (169) والذين يمسكون بالكتب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين (170)﴾ ﴿فخلف من بعدهم﴾ أي: من بعد المذكورين ﴿خلف﴾ وهم الذين كانوا في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال الفراء: يقال: " خلف صدق " و " خلف سوء " بالسكون (5)، قال لبيد: وبقيت في خلف كجلد الأجرب (6) ﴿ورثوا الكتاب﴾ بقيت التوراة في أيديهم بعد سلفهم يقرؤونها ويدرسونها ولا يعملون بها ﴿يأخذون عرض هذا الأدنى﴾ أي: متاع هذا الشئ الأدنى، يريد الدنيا وما يتمتع به منها، وفي قوله: ﴿هذا الأدنى﴾ تحقير وتخسيس، وهو: إما من الدنو بمعنى القرب، وإما من الدناءة وسقوط الحال، والمراد: ما كانوا يأخذونه من الرشى في الأحكام وعلى تحريف الكلم للتسهيل على العامة ﴿ويقولون سيغفر لنا﴾ أي: لا يؤاخذنا الله بما أخذنا ﴿وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه﴾ الواو للحال، أي: يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم ﴿ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب﴾ ألم يؤخذ على هؤلاء المرتشين الميثاق في التوراة أن لا يكذبوا على الله ولا يضيفوا (7) إليه إلا ما أنزله، كأنه قيل: ألم يقل لهم: ﴿أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه﴾ وقرأوا ما فيه فهم ذاكرون لذلك ﴿والدار الآخرة خير﴾ من ذلك العرض الحقير ﴿للذين يتقون﴾ محارم الله ﴿أفلا تعقلون﴾ قرئ بالياء (8) والتاء ﴿والذين يمسكون بالكتب﴾ مرفوع بالابتداء وخبره: ﴿إنا لا نضيع أجر المصلحين﴾ (9)، والمعنى: لا نضيع أجرهم، وضع الظاهر موضع المضمر، لأن المصلحين في معنى ﴿الذين يمسكون بالكتب﴾، ويجوز أن يكون مجرورا عطفا على " الذين يتقون " ويكون قوله: ﴿إنا لا نضيع﴾ اعتراضا (10).


1- الاسراء: 5.

2- في نسخة: ورسله.

3- الصافات: 164.

4- في نسخة: يتنبهون فينتهون.

5- انظر معاني القرآن للفراء: ج 1 ص 399.

6- وصدره: ذهب الذين يعاش في أكنافهم. والبيت من الكامل، والمعنى: ذهب الكرام الذين ينتفع بهم، وبقيت في قوم لاخير فيهم كجلد الأجرب، وجلد الأجرب من الجمال لا ينتفع به. انظر ديوان لبيد: ص 55، وخزانة الأدب: ج 2 ص 249، والكامل للمبرد: ج 3 ص 1394، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 310، ولسان العرب: مادة " خلف ".

7- في بعض النسخ: ينسبوا.

8- وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحمزة والكسائي. انظر الكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 429، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 397 و 428.

9- وهو مذهب المشهور. انظر على سبيل المثال إعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 160، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 382.

10- راجع الكشاف: ج 2 ص 175.