سورة الأعراف / 141 و 145

﴿وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبنائكم ويستحيون نساءكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم (141) ووا عدنا موسى ثلثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين (142)﴾ وقرئ: " أنجاكم " (1)، ﴿يسومونكم سوء العذاب﴾ أي: يبغونكم شدة العذاب، من سام السلعة: إذا طلبها، وهي جملة في موضع الحال من المخاطبين أو من آل فرعون، أو جملة مستأنفة لا محل لها (2) ﴿وفى ذلكم﴾ إشارة إلى الإنجاء أو العذاب (3)، والبلاء: النعمة أو المحنة، وقرئ: " يقتلون " بالتخفيف (4) كان موسى (عليه السلام) وعد بني إسرائيل بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة، ثم أنزل عليه التوراة في العشر وكلمه فيها (5)، وعن الحسن: كان الموعد أربعين ليلة فأجمل في سورة البقرة وفصل هاهنا (6)، و ﴿ميقات ربه﴾ ما وقت له من الوقت (7) وضربه له، و ﴿أربعين ليله﴾ نصب على الحال، أي: تم الميقات بالغا هذا العدد ﴿وقال موسى﴾ وقت خروجه إلى الميقات، و ﴿هارون﴾ جر عطف بيان لـ ﴿لأخيه﴾، ﴿أخلفني في قومي﴾ كن خليفتي فيهم ﴿وأصلح﴾ وكن مصلحا أو أصلح ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل في حال غيبتي، ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تطعه ولا تتبعه.

وفي هذا دلالة على أن منزلة الإمامة غير داخلة في النبوة، إذ لو كانت داخلة فيها لما احتاج هارون إلى استخلاف موسى إياه في القيام بأمر أمته مع كونه نبيا.

﴿ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تريني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تريني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين (143)﴾ سورة الأعراف / 143 ﴿لميقاتنا﴾ أي: لوقتنا الذي وقتنا له وحددناه، ومعنى اللام الاختصاص، فكأنه قال: واختص مجيئه لميقاتنا، كما تقول: أتيته لخمس خلون من الشهر ﴿وكلمه ربه﴾ من غير واسطة كما يكلم الملك، وتكليمه أن ينشئ الكلام منطوقا به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطا في اللوح، لأن الكلام عرض لابد له من محل يقوم به، وروي: أنه (عليه السلام) كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة (8) ﴿قال رب أرني أنظر إليك﴾ المفعول الثاني محذوف، يعني: أرني نفسك أنظر إليك، أي: اجعلني متمكنا من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك وأراك (9)، وإنما طلب الرؤية لقومه حين قالوا له: ﴿لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة﴾ (10) ولذلك دعاهم سفهاء وضلالا، وقال لما أخذتهم الرجفة: ﴿أتهلكنا بما فعل السفهاء منا﴾ (11)، ولم يسأل ذلك إلا بعد أن أنكر عليهم ونبههم على الحق فلجوا وتمادوا في لجاجهم، فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة الرؤية عليه وهو قوله: ﴿لن تريني﴾ ليتيقنوا وتزول شبهتهم، ومعنى ﴿لن﴾: تأكيد النفي الذي يعطيه " لا "، وذلك أن " لا " لنفي المستقبل، تقول: لا أفعل غدا، فإذا أكدت النفي قلت: لن أفعل غدا (12)، والمعنى: أن فعله ينافي حالي، كقوله سبحانه: ﴿لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له﴾ (13)، فقوله: ﴿لا تدركه الابصار﴾ (14) نفي للرؤية فيما يستقبل، وقوله: ﴿لن تريني﴾ تأكيد وبيان أن الرؤية منافية لصفاته ﴿ولكن انظر إلى الجبل﴾ معناه: أن النظر إلي محال فلا تطلبه ولكن عليك بنظر آخر وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يرجف بك وبمن طلبت الرؤية لأجلهم كيف أفعل به، وكيف أجعله دكا بسبب طلبك الرؤية لتستعظم ما أقدمت عليه بما أريك من عظم أثره، كأنه جل جلاله حقق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله: ﴿وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا﴾ (15)، ﴿فإن استقر مكانه﴾ كما كان مستقرا ثابتا ﴿فسوف تريني﴾ تعليق لوجود الرؤية بوجود مالا يكون من استقرار الجبل مكانه حين يدكه دكا ويسويه بالأرض ﴿فلما تجلى ربه للجبل﴾ أي: ظهر له اقتداره وتصدى له أمره وإرادته ﴿جعله دكا﴾ أي: مدكوكا، مصدر بمعنى مفعول، والدك والدق مثلان، وقرئ: " دكاء " (16)، والدكاء: الربوة الناشزة من الأرض لا تبلغ أن تكون جبلا، أو يريد أرضا دكاء: مستوية، من قولهم: ناقة دكاء: مستوية السنام (17) ﴿وخر موسى صعقا﴾ من هول ما رأى، وصعق من باب فعلته ففعل، تقول: صعقته فصعق وأصله من الصاعقة، ومعناه: خر مغشيا عليه غشية كالموت ﴿فلما أفاق﴾ من صعقته ﴿قال سبحانك﴾ أنزهك مما لا يجوز عليك ﴿تبت إليك﴾ من طلب الرؤية ﴿وأنا أول المؤمنين﴾ بأنك لا ترى.

سورة الأعراف / 143 - 145 وقيل (18): في الآية وجه آخر وهو أن يكون المراد بقوله: ﴿أرني أنظر إليك﴾ عرفني نفسك تعريفا واضحا جليا بإظهار بعض آيات الآخرة التي تضطر الخلق إلى معرفتك ﴿أنظر إليك﴾ أعرفك معرفة ضرورية كأني أنظر إليك، كما جاء في الحديث: " سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر " (19) بمعنى: ستعرفونه معرفة جلية هي في الجلاء مثل إبصاركم القمر إذا امتلأ واستوى بدرا، قال: ﴿لن تريني﴾ لن تطيق معرفتي على هذه الطريقة ولن تحتمل قوتك تلك الآية ﴿ولكن انظر إلى الجبل﴾ فإني أورد عليه آية من تلك الآيات ﴿فإن﴾ ثبت لتجليها و ﴿استقر مكانه فسوف﴾ تثبت لها وتطيقها ﴿فلما تجلى ربه﴾ فلما ظهرت للجبل آية من آيات ربه ﴿جعله دكا وخر موسى صعقا﴾ لعظم ما رأى ﴿فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك﴾ مما اقترحت ﴿وأنا أول المؤمنين﴾ بعظمتك وجلالك.

﴿قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين (144) وكتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار الفسقين (145)﴾ ﴿قال﴾ الله سبحانه ﴿يا موسى إني﴾ اتخذتك صفوة وفضلتك ﴿على﴾ أهل زمانك من ﴿الناس برسالاتي﴾ وهي أسفار التوراة، وقرئ: " برسالتي " على التوحيد (20)، ﴿وبكلامي﴾ وبتكليمي إياك ﴿فخذ ما آتيتك﴾ أي: أعطيتك من شرف النبوة والحكمة ﴿وكن من الشاكرين﴾ على النعمة في ذلك فهي من أجل النعم، وقيل: خر موسى صعقا يوم عرفة، وأعطي التوراة يوم النحر (21) ﴿وكتبنا له في الألواح﴾ يريد ألواح التوراة، واختلف في عددها وفي جوهرها: فقيل: كانت سبعة ألواح (22)، وقيل: عشرة (23)، وقيل: لوحين (24)، وأنها كانت من زمرد (25)، وقيل: من زبرجدة خضراء (26) أو ياقوتة حمراء (27)، وقيل: كانت من خشب نزل.


1- قرأه ابن عامر. راجع التبيان: ج 4 ص 530، وتفسير البغوي: ج 2 ص 195، وقال: وكذلك هو في مصاحف أهل الشام، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 4 ص 379.

2- وهو قول الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 151.

3- انظر الكشاف: ج 2 ص 151، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 355.

4- وهي قراءة نافع. راجع التبيان: ج 4 ص 530، وتفسير البغوي: ج 2 ص 195، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 425.

5- انظر تفسير القمي: ج 1 ص 239.

6- راجع تفسير الحسن البصري: ج 1 ص 388، وعنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 532.

7- ولا يخفى بأن بين " الميقات " و " الوقت " فرقا واختلافا، إذ ان الميقات ما قدر ليعمل فيه عمل من الأعمال، بينما الوقت: وقت الشئ وقدره مقدر أو لم يقدر، ولذلك قيل: مواقيت الحج وهي المواضع التي قدرت للإحرام فيها. ولتفصيل ذلك انظر معجم الفروق اللغوية: ص 525 - 526 برقم 2116 و 2117 ط جامعة المدرسين.

8- الكشاف: ج 2 ص 152.

9- قال الشيخ في التبيان: ج 4 ص 534 - 535: فإن قيل: على هذا ينبغي أن يجوزوا أن يسأل الله تعالى هل هو جسم أم لا... وغير ذلك مما لا يجوز عليه ؟! قلنا عنه جوابان: أحدهما: أنه يجوز ذلك إذا علم أن في ورود الجواب من جهة الله مصلحة وأنه أقرب إلى زوال الشبهة عن القوم بأن ذلك لا يجوز عليه تعالى كما جاز ذلك في مسألة الرؤية... والثاني انه إنما يجوز أن يسأل الله ما يمكن أن يعلم صحته بالسمع، وما يكون الشك فيه لا يمنع من العلم بصحة السمع، وإنما يمنع من ذلك سؤال الرؤية التي تقتضي الجسمية والتشبيه... إلى آخر قوله الشريف.

10- البقرة: 55.

11- الأعراف: 155.

12- انظر تفصيل ذلك في الكشاف: ج 2 ص 153 - 154.

13- الحج: 73.

14- الانعام: 103.

15- مريم: 90 - 91.

16- قرأه حمزة والكسائي. راجع تفسير البغوي: ج 2 ص 197، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 293، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 425، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 4 ص 384، وفي التبيان: ج 4 ص 533: هي قراءة أهل الحجاز إلا عاصما.

17- انظر لسان العرب: مادة " دكك "، ومفردات الراغب الأصفهاني: ص 171.

18- نسب هذا القول في مجمع البيان: ج 3 - 4 ص 475 إلى أبي القاسم البلخي.

19- مسند أبي عوانة: ج 1 ص 376، مسند أبي حنيفة: ص 19.

20- وهي قراءة نافع وابن كثير. راجع التبيان: ج 4 ص 538، وتفسير البغوي: ج 2 ص 198، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 293، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 280.

21- قاله ابن عباس على ما حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 259، والكلبي على ما حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 198.

22- قاله سعيد بن جبير عن ابن عباس كما في تفسير السمرقندي: ج 1 ص 569، وذكره السيوطي في الدر المنثور: ج 3 ص 549 عنه وعزاه لابن أبي حاتم.

23- رواه جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله) على ما ذكره السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 569، وأخرجه السيوطي في الدر المنثور: ج 3 ص 551 وعزاه لابن مردويه وأبي نعيم في الحلية وابن لآل في مكارم الأخلاق.

24- وهو قول الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 375 وقال: ويجوز في اللغة أن يقال للوحين: ألواح. وحكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 539.

25- قاله مجاهد وابن جريج. راجع تفسير الماوردي: ج 2 ص 260، وتفسير البغوي: ج 2 ص 199، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 281.

26- قاله أبو العالية والكلبي. راجع تفسير الماوردي: ج 2 ص 260، وتفسير البغوي: ج 2 ص 199.

27- وهو قول سعيد بن جبير على ما نسبه إليه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 260، والبغوي في تفسيره: ج 2 ص 199، والقرطبي أيضا في تفسيره: ج 7 ص 281.