سورة إبراهيم
مكية إلا آيتين (1)، إحدى وخمسون آية بصري، اثنتان كوفي، عد الكوفي ﴿بخلق جديد﴾ (2) آية.
في حديث أبي: " من قرأ سورة إبراهيم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام ومن لم يعبدها " (3).
الصادق (عليه السلام): " من قرأ سورة إبراهيم والحجر في ركعتين جميعا في كل جمعة لم يصبه فقر ولا جنون ولا بلوى " (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿الر كتب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد (1) الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد (2) الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلل بعيد (3) وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم (4)﴾
﴿من الظلمات إلى النور﴾ من الضلالة إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان ﴿بإذن ربهم﴾ بتسهيله وتيسيره، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل للحجاب، والمراد: ما يمنحهم سبحانه من التوفيق والألطاف ﴿إلى صراط العزيز﴾ بدل من قوله: ﴿إلى النور﴾ بتكرير العامل ﴿الله﴾ بالجر عطف بيان ل? ﴿العزيز الحميد﴾، لأنه جرى مجرى الأعلام، لاختصاصه بالمعبود الذي تحق له العبادة، كما غلب النجم للثريا، وقرئ بالرفع (5) على " هو الله "، و " الويل ": نقيض الوأل وهو النجاة، وهو اسم معنى كالهلاك، إلا أنه لا يشتق منه فعل، إنما يقال: " ويلا له " فينصب نصب المصادر، ثم يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات فيقال: " ويل له " كما يقال: سلام عليك، والمعنى: أنهم يولولون ﴿من عذاب شديد﴾ ويضجون منه فيقولون: " يا ويلاه " كقوله تعالى: ﴿دعوا هنالك ثبورا﴾ (6).
﴿الذين يستحبون﴾ مبتدأ خبره ﴿أولئك في ضلل بعيد﴾، ويجوز أن يكون مجرورا صفة ل? " الكافرين " ومنصوبا على الذم أو مرفوعا على: أعني ﴿الذين يستحبون﴾، أو: هم ﴿الذين يستحبون﴾، والاستحباب: استفعال من المحبة ومعناه: الإيثار ﴿ويبغونها عوجا﴾ أي: ويطلبون لسبيل الله اعوجاجا، وأن يدلوا الناس على أنها سبيل ناكبة عن الحق غير مستوية، والأصل: " يبغون لها " فحذف الجار وأوصل الفعل ﴿في ضلل بعيد﴾ أي: ضلوا عن طريق الحق ووقعوا دونه بمراحل، ووصف الضلال بالبعيد مجاز، وإنما البعد في الحقيقة للضال، لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق، فهو نحو قولهم: جد جده.
﴿إلا بلسان قومه﴾ أي: بلغة قومه ﴿ليبين لهم﴾ أي: ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه ﴿فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء﴾ هو مثل قوله: ﴿فمنكم كافر ومنكم مؤمن﴾ (7) لأنه سبحانه لا يضل إلا من يعلم أنه لن يؤمن، ولا يهدي إلا من يعلم أنه يؤمن، والمراد بالإضلال: التخلية ومنع الألطاف، والمراد بالهداية: التوفيق واللطف، فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان.
﴿ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (5) وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبنائكم ويستحيون نساءكم وفي ذا لكم بلاء من ربكم عظيم (6) وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد (7) وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغنى حميد (8)﴾
﴿أن أخرج﴾ هي " أن " المفسرة، لأن الإرسال فيه معنى القول، فكأنه قال: أرسلناه وقلنا له: ﴿أخرج قومك﴾، ويجوز أن تكون " أن " الناصبة للفعل والتقدير: بأن أخرج قومك، ويجوز أن يوصل " أن " بفعل الأمر، لأن الغرض وصلها بما يكون معه في تأويل المصدر وهو الفعل، والأمر وغيره سواء في الفعلية ﴿وذكرهم بأيام الله﴾ أي: وأنذرهم بوقائع الله الواقعة على الأمم قبلهم، ومنه: " أيام العرب " لحروبها وملاحمها، كيوم بعاث (8) ويوم النسار (9) ويوم الفجار (10) ونحوها، وعن ابن عباس: هي نعماؤه وبلاؤه (11) ﴿لكل صبار﴾ يصبر على بلاء الله ﴿شكور﴾ يشكر نعمه.
﴿إذ أنجاكم﴾ ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أي: إنعامه ﴿عليكم﴾ ذلك الوقت، ويجوز أن يكون بدلا من ﴿نعمة الله﴾ أي: ﴿اذكروا﴾ وقت إنجائكم وهو بدل الاشتمال.
﴿وإذ تأذن ربكم﴾ من جملة ما ﴿قال موسى لقومه﴾ أي: واذكروا حين تأذن ربكم، وتأذن وآذن بمعنى، مثل توعد وأوعد وتفضل وأفضل، ولابد في تفعل من زيادة معنى ليس في " أفعل "، كأنه قال: وإذ آذن ربكم إيذانا بليغا ينتفي عنده الشكوك، والمعنى: وإذ تأذن ربكم فقال: ﴿لئن شكرتم﴾ ما خولتم (12) من نعمة الإنجاء وغيرها ﴿لأزيدنكم﴾ نعمة إلى نعمة ﴿ولئن كفرتم﴾ وغمطتم (13) ما أنعمت به عليكم ﴿إن عذابي لشديد﴾ لمن كفر نعمتي.
﴿إن تكفروا أنتم و﴾ الناس جميعهم فمضرة كفرانكم عائدة عليكم، و ﴿الله﴾ غني عن شكركم ﴿حميد﴾ مستوجب للحمد بكثرة أنعمه وإن لم يحمده حامد.
﴿ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب (9) قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين (10)﴾
﴿والذين من بعدهم﴾ مبتدأ وخبره ﴿لا يعلمهم إلا الله﴾ وهي جملة اعتراضية، أو: ﴿والذين﴾ في محل جر عطفا على ﴿قوم نوح﴾، و ﴿لا يعلمهم إلا الله﴾ اعتراض، والمعنى: أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: كذب النسابون (14)، وقيل: إن بين عدنان (15) وإسماعيل ثلاثين أبا لا يعرفون (16) ﴿فردوا أيديهم في أفواههم﴾ أي: فعضوا على أصابع أيديهم من شدة الغيظ والضجر لما جاءت به الرسل، كقوله: ﴿عضوا عليكم الأنامل من الغيظ﴾ (17)، أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم: ﴿إنا كفرنا بما أرسلتم به﴾ أي: هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطا لهم من التصديق، أو وضعوا أيديهم على أفواههم يقولون للأنبياء: اسكتوا، وقيل: الأيدي جمع يد وهي: النعمة، بمعنى الأيادي، أي: ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم والشرائع التي أوحيت إليهم في أفواههم، لأنهم إذا لم يقبلوها فكأنهم ردوها في أفواههم ورجعوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل (18) ﴿شك... مريب﴾ موقع في الريبة، أو ذي ريبة.
﴿أفي الله شك﴾ دخلت همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام في المشكوك فيه، وأنه لا يحتمل الشك لافي الشك ﴿يدعوكم ليغفر لكم﴾ أي: لأجل المغفرة، كما تقول: دعوته ليأكل معي، أو يدعوكم إلى الإيمان ليغفر لكم ﴿ويؤخركم إلى أجل مسمى﴾ أي: إلى وقت بين مقداره وسماه يبلغكموه: إن آمنتم وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت ﴿إن أنتم﴾ أي: ما أنتم ﴿إلا بشر مثلنا﴾ لافضل لكم علينا، فلم خصصتم بالنبوة؟﴿بسلطان مبين﴾ بحجة واضحة، أرادوا بذلك ما اقترحوه من الآيات تعنتا (19) وعنادا.
﴿قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (11) وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون (12)﴾
﴿إن نحن إلا بشر مثلكم﴾ تسليم لقولهم، يعنون: أنهم مثلهم في البشرية وحدها ﴿ولكن الله يمن على من يشاء من عباده﴾ بالنبوة، ولا يخصهم بتلك الكرامة إلا لخصائص فيهم ليست في أبناء جنسهم ﴿وما﴾ صح ﴿لنا أن نأتيكم﴾ بالآية التي اقترحتموها ﴿إلا﴾ بمشيئة ﴿الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون﴾ أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل وقصدوا بذلك أنفسهم، أي: ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاداتكم وعنادكم، وأي عذر ﴿لنا﴾ في ﴿ألا نتوكل على الله وقد﴾ فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا إلى السبيل الذي يجب عليه سلوكه في الدين.
﴿وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين (13) ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد (14) واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد (15) من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد (16) يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ (17) مثل الذين كفروا بربهم أعملهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شئ ذلك هو الضلل البعيد (18)﴾ أي: ﴿لنخرجنكم من﴾ بلادنا، إلا أن ترجعوا إلى أدياننا ومذاهبنا ﴿لنهلكن الظالمين﴾ حكاية تقتضي إضمار القول أو أجري الإيحاء مجرى القول، والمراد ب? " الأرض ": أرض الظالمين وديارهم.
وفي الحديث: " من آذي جاره ورثه الله داره " (20).
﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما قضى الله به من الهلاك للظالمين (21) وإسكان المؤمنين ديارهم، أي: ذلك الأمر حق ﴿لمن خاف مقامي﴾ أي: موقفي وهو موقف الحساب، لأنه موقف الله الذي يقف فيه عباده، أو على إقحام المقام.
﴿واستفتحوا﴾ واستنصروا الله على أعدائهم، أو استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم، من الفتاحة وهي الحكومة، ومنه: ﴿ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق﴾ (22)، وهو عطف على ﴿أوحى إليهم﴾، ﴿وخاب كل جبار عنيد﴾ معناه: فنصروا وظفروا وخاب كل جبار عنيد وهم قومهم.
﴿من ورائه﴾ من بين يدي هذا الجبار نار ﴿جهنم﴾ يلقى فيها ما يلقى ﴿ويسقى من ماء صديد﴾ هو عطف بيان، كأنه قال: ويسقى من ماء، فأبهمه إبهاما ثم بينه بقوله: ﴿صديد﴾ وهو ما يسيل من جلود أهل النار من الدم والقيح.
﴿يتجرعه﴾ يتكلف جرعه ﴿ولا يكاد يسيغه﴾ دخل " كاد " للمبالغة، أي: ولا يقارب أن يسيغه فكيف يكون الإساغة، كقوله: ﴿لم يكد يربها﴾ (23) أي: لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها ﴿ويأتيه الموت من كل مكان﴾ كأن أسباب الموت قد أحاطت به من كل الجهات ﴿وما هو بميت﴾ فيستريح ﴿ومن ورائه عذاب غليظ﴾ أي: ومن بين يديه عذاب أشد مما قبله وأغلظ.
﴿مثل الذين كفروا بربهم﴾ مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه (24)، والتقدير: فيما نقص عليكم مثل الذين كفروا، وقوله: ﴿أعملهم كرماد﴾ جملة مستأنفة على تقدير جواب سائل يقول: كيف مثلهم؟فقيل: أعمالهم كرماد، أو يكون ﴿أعملهم﴾ بدلا من ﴿مثل الذين كفروا﴾ والتقدير: مثل أعمال الذين كفروا ﴿كرماد اشتدت به الريح﴾ فذرته وسفته ﴿في يوم عاصف﴾ جعل العصف لليوم وهو لما فيه، كما تقول: يوم ماطر، و ﴿أعملهم﴾ هي: المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام وعتق الرقاب وإغاثة الملهوفين وإكرام الأضياف وغير ذلك من صنائعهم، شبهت في حبوطها وذهابها هباء منثورا لبنائها على غير أساس من معرفة الله تعالى والإيمان به برماد طيرته الريح العاصف ﴿لا يقدرون﴾ يوم القيامة منها ﴿على شئ﴾ كما لا يقدر من الرماد المطير على شئ لا يرون بشئ منها ثوابا.
﴿ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد (19) وما ذلك على الله بعزيز (20) وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شئ قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص (21)﴾
﴿بالحق﴾ بالحكمة والغرض الصحيح ولم يخلقهما عبثا ولا شهوة، وقرئ: " خالق السماوات والأرض " (25) ﴿إن يشأ يذهبكم﴾ أي: يعدمكم ﴿و﴾ يخلق مكانكم خلقا آخرين.
﴿وما ذلك على الله﴾ بممتنع متعذر، بل هو عليه هين يسير، لأنه قادر لذاته، لا اختصاص له بمقدور دون مقدور.
﴿وبرزوا لله﴾ ويبرزون يوم القيامة لله، أي: يظهرون من قبورهم ويخرجون منها لحكم الله وحسابه، و ﴿الضعفاء﴾: الأتباع والعوام، والذين ﴿استكبروا﴾: سادتهم وكبراؤهم الذين استتبعوهم واستغووهم وصدوهم عن اتباع الأنبياء واستماع كلامهم، و " التبع ": جمع التابع، مثل: خادم وخدم وغائب وغيب ﴿قالوا لو هدانا الله لهديناكم﴾ أي: لو هدانا الله إلى طريق الخلاص من العقاب لهديناكم إلى ذلك ﴿سواء علينا أجزعنا أم صبرنا﴾ مستويان علينا الجزع والصبر ﴿مالنا من محيص﴾ أي: منجى ومهرب.
﴿وقال الشيطان لما قضى الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطن إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم (22) وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلم (23)﴾ يقول ﴿الشيطان﴾ وهو إبليس، يقوم خطيبا في الأشقياء من الجن والإنس إذا ﴿قضى الامر﴾ أي: قطع وفرغ من الأمر وهو الحساب: ﴿إن الله وعدكم وعد الحق﴾ وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفي لكم بما وعدكم ﴿ووعدتكم﴾ خلاف ذلك ﴿فأخلفتكم﴾ ولم أوف لكم بما وعدتكم ﴿وما كان لي عليكم من سلطن﴾ أي: تسلط وقهر، فأقسركم على الكفر والمعاصي وأكرهكم عليها ﴿إلا أن دعوتكم﴾ إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني، وليس الدعاء من جنس السلطان، ولكنه كقولهم: ما تحيتهم إلا الضرب ﴿فلا تلوموني ولوموا أنفسكم﴾ حيث اغتررتم بي وأطعتموني إذ دعوتكم ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم ﴿ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي﴾ لا ينجي بعضنا بعضا من عذاب الله ولا يغيثه، والإصراخ: الإغاثة، و " ما " في ﴿بما أشركتمون﴾ مصدرية، يعني: ﴿كفرت﴾ اليوم بإشراككم إياي ﴿من قبل﴾ هذا اليوم أي: في الدنيا، ونحوه: ﴿ويوم القيمة يكفرون بشرككم﴾ (26)، ومعنى كفره بإشراكهم إياه: تبرؤه منه واستنكاره له، وقيل: تعلق ﴿من قبل﴾ ب? ﴿كفرت﴾ (27)، و " ما " موصولة أي: كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو الله جل جلاله، تقول: شركت زيدا، ثم تقول: أشركنيه فلان أي: جعلني له شريكا، وهذا آخر قول إبليس، وقوله: ﴿إن الظالمين﴾ قول الله عز وجل، ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس.
﴿ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (24) تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (25) ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار (26) يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء (27) ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار (28) جهنم يصلونها وبئس القرار (29) وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار (30)﴾
﴿ضرب الله مثلا﴾ أي: اعتمد مثلا ووضعه، و ﴿كلمة﴾ منصوبة بفعل مضمر، أي: جعل ﴿كلمة طيبة كشجرة طيبة﴾، وهو تفسير لقوله: ﴿ضرب الله مثلا﴾ كما تقول: أكرم الأمير زيدا: كساه حلة وحمله على فرس، ويجوز أن ينتصب ﴿مثلا﴾ و ﴿كلمة﴾ ب? ﴿ضرب﴾ أي: ضرب كلمة طيبة مثلا، بمعنى: جعلها مثلا، ثم قال: ﴿كشجرة﴾ على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: هي كشجرة طيبة ﴿أصلها ثابت﴾ في الأرض: ضارب بعروقه فيها ﴿وفرعها في السماء﴾ أي: في جهة العلو والصعود، أي: وفروعها، على الاكتفاء بلفظ الجنس، والكلمة الطيبة: كلمة التوحيد (28)، وقيل: هي كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والتوبة والاستغفار (29)، وأما الشجرة: فكل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة والتين والرمان وغير ذلك، وعن ابن عباس: شجرة في الجنة (30).
وعن الباقر (عليه السلام): " الشجرة: رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفرعها: علي (عليه السلام)، وعنصر (31) الشجرة: فاطمة (عليها السلام)، وثمرها: أولادها، وأغصانها (32) وورقها: شيعتها (33) " (34).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله): " أنا شجرة، وفاطمة فرعها، وعلي لقاحها، والحسن والحسين ثمرها، وشيعتنا أوراقها " (35).
﴿تؤتى أكلها كل حين﴾ تعطي ثمرها كل وقت وقته الله لإثمارها ﴿بإذن ربها﴾ بتيسير خالقها وتكوينه ﴿كشجرة خبيثة﴾ كمثل شجرة، أي: صفتها كصفتها، والكلمة الخبيثة: كلمة الشرك، وقيل: كل كلمة قبيحة (36)، وأما الشجرة الخبيثة: فكل شجرة لا يطيب ثمرها كشجرة الحنظل والكشوث (37).
وعن الباقر (عليه السلام): " أنها بنو أمية " (38).
﴿اجتثت﴾ أي: استوصلت، وهي في مقابلة قوله: ﴿أصلها ثابت﴾، ﴿مالها من قرار﴾ أي: استقرار، يقال: قر قرارا مثل: ثبت ثباتا، شبه بها القول الذي لم يعضد بحجة فهو داحض غير ثابت يضمحل عن قريب، ونحوه: الباطل لجلج (39).
والقول ﴿الثابت﴾ الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه واطمأنت إليه نفسه، وتثبيتهم به في الدنيا أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا ﴿وفي الآخرة﴾ أنهم إذا سئلوا في القبر عن معتقدهم ودينهم ونبيهم يقول كل منهم: الله ربي وديني الإسلام ونبيي محمد (صلى الله عليه وآله)، فيقول له الملكان: نم قرير العين نوم الشاب الناعم ﴿ويضل الله الظالمين﴾ الذين لم يتمسكوا بحجة في دينهم، واقتصروا على تقليد شيوخهم في الدنيا، فلا يثبتون في مواقف الفتن، وتزل أقدامهم عن الحق، وهم في الآخرة أضل وأزل ﴿ويفعل الله ما يشاء﴾ ولا يشاء إلا ما توجبه الحكمة من تثبيت المؤمنين وتأييدهم وخذلان الظالمين.
﴿بدلوا نعمت الله كفرا﴾ أي: شكر نعمة الله كفرا بأن وضعوه مكانه، وقيل: هم الأفجران من قريش: بنو أمية وبنو المغيرة، فأما بنو أمية فمتعوا إلى حين، وأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر (40) ﴿وأحلوا قومهم﴾ ممن تابعهم على الكفر ﴿دار البوار﴾ أي: الهلاك.
﴿جهنم﴾ عطف بيان ل? ﴿دار البوار﴾.
وقرئ: ﴿ليضلوا﴾ بفتح الياء (41) وضمها، ولما كان الضلال والإضلال نتيجة اتخاذ " الأنداد " أدخل اللام وإن لم يكن غرضا على طريق التشبيه والتقريب ﴿تمتعوا﴾ إيذان بأنهم كأنهم مأمورون بالتمتع (42) لانغماسهم فيه، وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه.
﴿قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لابيع فيه ولا خلال (31) الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار (32) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار (33) وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الانسان لظلوم كفار (34)﴾ المقول محذوف، لأن جواب ﴿قل﴾ يدل عليه، والتقدير: ﴿قل لعبادي﴾ أقيموا الصلاة وأنفقوا ﴿يقيموا الصلاة وينفقوا﴾، وقيل: هو بمعنى: ليقيموا ولينفقوا وهو المقول (43)، وجاز حذف اللام لأن الأمر الذي هو ﴿قل﴾ عوض منه، ولو قيل ابتداء: ﴿يقيموا الصلاة وينفقوا﴾ لم يجز، وانتصب ﴿سرا وعلانية﴾ على الحال، بمعنى: مسرين ومعلنين، أو على الظرف أي: وقتي سر وعلانية، أو على المصدر أي: إنفاق سر وإنفاق علانية، والخلال: المخالة.
﴿الله﴾ مبتدأ و ﴿الذي خلق﴾ خبره، و ﴿من الثمرات﴾ بيان للرزق، أي: " أخرج به... رزقا " هو ثمرات، ويجوز أن يكون ﴿من الثمرات﴾ مفعول " أخرج " و ﴿رزقا﴾ حالا من المفعول أو نصبا على المصدر ل? " أخرج " لأنه في معنى: رزق ﴿لتجري في البحر بأمره﴾ أي: بقوله: كن فيكون.
﴿دائبين﴾ يد أبان في سيرهما، لا يفتران في منافع الخلق وإصلاح ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات ﴿وسخر لكم الليل والنهار﴾ يتعاقبان لمعاشكم وسباتكم.
﴿وآتاكم من كل ما سألتموه﴾ من جميع ما سألتموه نظرا في مصالحكم، و ﴿من﴾ للتبعيض، وقيل: معناه: من كل شئ سألتموه ولم تسألوه (44)، فيكون ﴿ما﴾ موصوفة بالجملة وحذف " ولم تسألوه "، لأن ما أبقي يدل على ما ألقي، ومثله: ﴿سرا بيل تقيكم الحر﴾ (45) وحذف " والبرد "، وقرئ: " من كل " بالتنوين (46) وهو قراءة السيدين: الباقر والصادق (عليهما السلام)، وعلى هذا فيكون ﴿ما سألتموه﴾ نفيا ومحله نصب على الحال، أي: آتاكم من جميع ذلك غير سائليه، أو تكون ﴿ما﴾ موصولة بمعنى: ما آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال ﴿لا تحصوها﴾ أي: لا تعدوها ولا تطيقوا حصرها ﴿لظلوم﴾ للنعمة لا يشكرها ﴿كفار﴾ يكفرها، أو ظلوم في الشدة: يشكو ويجزع، كفار في النعمة: يجمع ويمنع.
﴿وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبنى أن نعبد الأصنام (35) رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم (36) ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (37) ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شئ في الأرض ولا في السماء (38) الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحق إن ربى لسميع الدعاء (39) رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء (40) ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (41)﴾ يريد ﴿البلد﴾ الحرام ﴿آمنا﴾ ذا أمن، ويقال: جنبه الشر وجنبه الخير وأجنبه، والمعنى: ثبتني ﴿وبنى﴾ على اجتناب عبادة ﴿الأصنام﴾ وأراد بنيه من صلبه.
﴿إنهن أضللن كثيرا من الناس﴾ فأعوذ بك لأن تعصمني وبني من ذلك، ومعنى إضلالهن الناس: أنهم ضلوا بسببهن فكأنهن أضللنهم، كما يقال: غرته الدنيا بمعنى: اغتر بها وبسببها ﴿فمن تبعني﴾ على ملتي ﴿فإنه منى﴾ أي: هو بعضي، لاختصاصه بي وملابسته لي، ونحوه قوله (صلى الله عليه وآله): " من غشنا فليس منا " (47) أي: ليس بعض المؤمنين، لأن الغش ليس من أفعالهم ﴿ومن عصاني فإنك غفور﴾ تستر على العباد معاصيهم ﴿رحيم﴾ بهم.
﴿من ذريتي﴾ أي: بعض أولادي وهو إسماعيل وأولاده ﴿بواد﴾ هو وادي مكة ﴿غير ذي زرع﴾ لا يكون فيه شئ من زرع قط ﴿عند بيتك المحرم﴾ الذي لم يزل ممنعا عزيزا يهابه كل جبار كالشئ المحرم الذي حقه أن يجتنب، أو جعل محرما على الطوفان ممنوعا منه كما سمي عتيقا لأنه أعتق منه، أو هو محرم محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكها، وما حوله حرم لحرمته ﴿ربنا ليقيموا الصلاة﴾ يتعلق اللام ب? ﴿أسكنت﴾ أي: ما أسكنتهم بهذا الوادي إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك ﴿فاجعل أفدة من﴾ أفئدة ﴿الناس﴾، و ﴿من﴾ للتبعيض ﴿تهوى إليهم﴾ أي: تسرع إليهم وتفزع، وقرئ: " تهوى إليهم " (48) من هوى يهوى: إذا أحب، ضمن معنى " تنزع " فعدي تعديته، وهي قراءة أهل البيت (عليهم السلام) ﴿وارزقهم من الثمرات﴾ مع سكناهم واديا ليس فيه شئ منها بأن تجلب إليهم من البلاد ﴿لعلهم يشكرون﴾ النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد يباب (49).
﴿إنك تعلم ما نخفي وما نعلن﴾ أي: تعلم السر كما تعلم العلن علما لا تفاوت فيه، فلا حاجة بنا إلى الدعاء والطلب وإنما ندعوك إظهارا للعبودية لك، وافتقارا إلى ما عندك، واستعجالا لنيل مواهبك ﴿وما يخفى على الله﴾ الذي هو علام الغيوب ﴿من شئ في﴾ كل مكان من ﴿الأرض و... السماء﴾ و ﴿من﴾ للاستغراق.
﴿على الكبر﴾ أي: مع الكبر، كقول الشاعر: إني على ما ترين من كبري * أعلم من حيث يؤكل الكتف (50) وهو في موضع الحال، أي: وهب لي وأنا كبير أو في حال الكبر ﴿إن ربى لسميع الدعاء﴾ أي: مجيبه وقابله، وهو إضافة الصفة إلى مفعولها، والأصل: لسميع الدعاء.
﴿ومن ذريتي﴾ أي: وبعض ذريتي عطفا على الضمير المنصوب في ﴿اجعلني﴾، ﴿وتقبل﴾ دعائي أي: عبادتي، أو: وأجب دعائي، لأن قبول الدعاء: الإجابة، وقبول الطاعة: الإثابة.
﴿ربنا اغفر لي ولولدي﴾ في هذا دلالة على أن أبويه لم يكونا كافرين وإنما كان آزر عمه أو جده لأمه على الخلاف فيه، لأنه سأل المغفرة لهما ﴿يوم يقوم الحساب﴾ وهو يوم القيامة، وقرئ: " ولولدي " (51) وهو قراءة أهل البيت (عليهم السلام)، وهما إسماعيل وإسحاق، و ﴿يقوم الحساب﴾ معناه: يثبت، وهو مستعار من قيام القائم على الرجل، يدل عليه قولهم: قامت الحرب على ساق، ويجوز أن يسند إلى ﴿الحساب﴾ قيام أهله إسنادا مجازيا، أو أن يكون مثل ﴿وسل القرية﴾ (52).
﴿ولا تحسبن الله غفلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار (42) مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء (43) وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال (44) وسكنتم في مسكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال (45)﴾ هذا وعيد للظالم وتسلية للمظلوم ﴿تشخص فيه الابصار﴾ أي: أبصارهم لا تقر في أماكنها من هول ما ترى في ذلك اليوم.
﴿مهطعين﴾ مسرعين إلى الداعي، وقيل: الإهطاع: أن تقبل ببصرك على ما ترى تديم النظر إليه لا تطرف (53) ﴿مقنعي رؤوسهم﴾ رافعي رؤوسهم ﴿لا يرتد إليهم طرفهم﴾ لا ترجع إليهم أعينهم، فلا يغمضونها لكنها مفتوحة ممدودة من غير تحريك الأجفان ﴿وأفئدتهم هواء﴾ أي خلاء: خالية عن العقول، وصفت الأفئدة بالهواء إذا كان صاحبها لا قوة في قلبه ولا جرأة، قال حسان: فأنت مجوف نخب هواء (54) وعن ابن جريج (55): هواء صفر من الخير خاوية منه (56).
﴿يوم يأتيهم العذاب﴾ مفعول ثان ل? ﴿أنذر﴾ وهو يوم القيامة ﴿أخرنا إلى أجل قريب﴾ ردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد من الزمان قريب نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع رسلك، ويجوز أن يكون المراد يوم هلاكهم بالعذاب العاجل أو يوم موتهم معذبين فيسألون يومئذ تأخيرهم إلى أجل كما في قوله: ﴿لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق﴾ (57)، ﴿أولم تكونوا أقسمتم﴾ على إرادة القول، أي: حلفتم ﴿مالكم من﴾ انتقال إلى دار أخرى، أو قلتم ذلك بلسان الحال حيث بنيتم شديدا وأملتم بعيدا، و ﴿مالكم﴾ جواب القسم وإن جاء بلفظ الخطاب.
يقال: سكن الدار وسكن فيها، من السكنى أو من السكون، أي: اطمأننتم فيها طيبي النفوس سائرين سيرة من قبلكم في الظلم ﴿وتبين لكم﴾ بالإخبار والمشاهدة ﴿كيف﴾ أهلكناهم ﴿وضربنا لكم الأمثال﴾ فلم تعتبروا.
﴿وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال (46) فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام (47) يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار (48) وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد (49) سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار (50) ليجزى الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب (51) هذا بلغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله وا حد وليذكر أولوا الألباب (52)﴾
﴿وقد مكروا مكرهم﴾ العظيم ﴿وعند الله مكرهم﴾ يمكن أن يكون مضافا إلى الفاعل كالأول، والمعنى: وعند الله مكرهم يجازيهم عليه، وأن يكون مضافا إلى المفعول، والمعنى: وعند الله مكرهم الذي يمكرهم به وهو عذابهم الذي يأتيهم من حيث لا يشعرون ﴿وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال﴾ أي: وإن كان مكرهم لعظمه وكبره يكاد يزيل الجبال عن أماكنها، وعلى هذا تكون ﴿إن﴾ هي المخففة من الثقيلة، واللام في ﴿لتزول﴾ هي الفارقة، وقد جعلت ﴿إن﴾ نافية واللام مؤكدة لها، كقوله: ﴿وما كان الله ليضيع إيمنكم﴾ (58)، أي: وما كان مكرهم لتزول منه ما هو مثل الجبال من دلائل النبي (صلى الله عليه وآله) وشرائعه في الثبات والتمكن.
وقرأ علي (عليه السلام) وعمر وابن مسعود: " وإن كاد مكرهم " (59).
﴿فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله﴾ مثل قوله: ﴿إنا لننصر رسلنا﴾ (60)، ﴿كتب الله لأغلبن أنا ورسلي﴾ (61)، وقدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا، ثم قال: ﴿رسله﴾ ليؤذن أنه إذا لم يخلف أحدا وعده فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته من عباده؟﴿يوم تبدل الأرض﴾ بدل من ﴿يوم يأتيهم﴾ أو على الظرف للانتقام، والمعنى: يوم تبدل هذه الأرض التي تعرفونها أرضا أخرى غيرها، وكذلك ﴿السماوات﴾، والتبديل: التغيير، وقد يكون في الذوات كقولك: بدلت الدراهم دنانير، ومنه: ﴿بدلناهم جلودا غيرها﴾ (62)، ﴿وبدلناهم بجنتيهم جنتين﴾ (63)، وقد يكون في الأوصاف كقولك: بدلت الحلقة خاتما: إذا أذبتها وسويتها خاتما فنقلتها من شكل إلى شكل.
واختلف في تبديل الأرض والسماوات، فقيل: تبدل أوصافها فتسير على الأرض جبالها، وتفجر بحارها، وتسوى فلا يرى فيها عوج ولا أمت (64) (65)، وقيل: تخلق أرض وسماوات أخر (66).
﴿مقرنين﴾ قرن بعضهم مع بعض ومع الشياطين، أو مغللين قرنت أيديهم إلى أرجلهم ﴿في الأصفاد﴾ أي: الأغلال.
﴿سرابيلهم﴾ أي: قميصهم ﴿من قطران﴾ وهو ما يطلى به الإبل الجربى فيحرق الجرب والجلد، وقرئ: " من قطران " (67)، والقطر: النحاس أو الصفر المذاب، والآني: المتناهي حره ﴿وتغشى وجوههم النار﴾ خص الوجوه لأن الوجه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه كالقلب في باطنه، ولذلك قال: ﴿تطلع على الأفئدة﴾ (68).
﴿ليجزى الله﴾ هو من صلة قوله: ﴿وترى المجرمين﴾ أي: يفعل بهم ما يفعل ليجزي الله ﴿كل نفس ما كسبت﴾.
﴿هذا بلغ للناس﴾ أي: كفاية للتذكير والموعظة، ويعني ب? ﴿هذا﴾ ما وصفه من قوله: ﴿فلا تحسبن الله﴾ إلى قوله: ﴿سريع الحساب﴾، ﴿ولينذروا به﴾ معطوف على محذوف، أي: لينصحوا ولينذروا به أي: بهذا البلاغ ﴿وليعلموا أنما هو إله وا حد﴾ لأن الخوف يدعو إلى النظر الموصل إلى التوحيد، وقيل: معناه: هذا القرآن عظة بالغة كافية للناس، أنزل ليبلغوا ولينذروا بما فيه من الوعيد، وليعلموا أنما هو إله واحد بالنظر في الأدلة المؤدية إلى التوحيد المثبتة في القرآن (69)، وليتذكر وليتعظ به ﴿أولوا الألباب﴾ ذوو العقول والنهى.
1- قال الشيخ الطوسي: قال قتادة: هي مكية إلا آيتين: قوله: * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله) * إلى قوله: * (وبئس القرار) *، وقال مجاهد: هي مكية وليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وهي اثنان وخمسون آية في الكوفي، وأربع في المدنيين، وآية في البصري. انظر التبيان: ج 6 ص 269. وقال الماوردي في تفسيره: ج 3 ص 120: هي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها مدنية وهي: * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا) * والتي بعدها. وقال الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 537: هي مكية إلا آيتي 28 و 29 فمدنيتان، وآياتها 52، نزلت بعد سورة نوح.
2- الآية: 19.
3- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 568 مرسلا.
4- تفسير العياشي: ج 2 ص 222 ح 1.
5- قرأه نافع وابن عامر والمفضل. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 481.
6- الفرقان: 13.
7- التغابن: 2.
8- وبعاث - بضم الباء -: موضع في نواحي المدينة على ليلتين منها، كانت به وقائع بين الأوس والخزرج في الجاهلية. راجع تفاصيل هذه الوقائع في كتاب أيام العرب في الجاهلية: ص 73 - 84.
9- النسار - بكسر النون -: اسم موضع، وقيل: هي جبال صغار، وقيل: هو ماء لبني عامر، وقيل غير ذلك، كانت عنده وقعة بين الرباب وبين هوازن وسعد بن عمرو بن تميم. راجع تفصيل هذه الوقعة في أيام العرب قبل الاسلام لأبي عبيدة: ج 2 ص 527 - 542.
.
10- وأيام الفجار عدة، فأولها ما بين كنانة وهوازن أثر حادثة حدثت في سوق عكاظ، وثانيها ما بين قريش وبني عامر في سوق عكاظ أيضا، وثالثها ما بين قريش وكنانة كلها وبين هوازن. انظر تفاصيلها في أيام العرب قبل الاسلام لأبي عبيدة: ص 503.
11- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 540.
12- خوله المال: أعطاه إياه. (لسان العرب: مادة خول).
13- غمط وغمط النعمة يغمطها غمطا: أي بطره وحقره. (الصحاح: مادة غمط).
14- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 542.
15- وعدنان هو أحد من تقف عندهم انساب العرب، والمؤرخون متفقون على أنه من أبناء إسماعيل بن إبراهيم (عليه السلام)، تقدم تفصيله في ج 1 ص 48 فراجع.
16- قاله ابن عباس. راجع الكشاف: ج 2 ص 542.
17- آل عمران: 119.
18- قاله مجاهد وقتادة. راجع تفسير الماوردي: ج 3 ص 125.
19- في نسخة: بغيا.
20- رواه الزمخشري الكشاف ج 2 ص 545.
21- في بعض النسخ: إهلاك الظالمين.
22- الأعراف: 89.
23- النور: 40.
24- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 547.
25- قرأه حمزة والكسائي. راجع التبيان: ج 6 ص 286.
26- فاطر: 14.
27- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 551.
28- وهو قول ابن عباس. راجع تفسيره: ص 213.
29- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 553.
30- حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 6 ص 291.
31- في نسخة: غصن.
32- ليس في بعض النسخ لفظة: " وأغصانها ".
33- في بعض النسخ: شيعتنا.
34- تفسير القمي: ج 1 ص 369، معاني الأخبار: ص 400 ح 61.
35- أمالي الطوسي: ج 2 ص 18 ح 20، تاريخ ابن عساكر: ج 4 ص 321.
36- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 553.
37- الكشوث: نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض. (الصحاح: مادة كشث).
38- تفسير القمي: ج 1 ص 369.
39- أي يردد من غير أن ينفذ. (الصحاح: مادة لجج).
40- وهو قول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) والصادق (عليه السلام) وابن عباس وعمر وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك. راجع تفسير القمي: ج 1 ص 371، وتفسير العياشي: ج 2 ص 230 ح 28، وتفسير الماوردي: ج 3 ص 136.
41- قرأه ابن كثير وأبو عمرو ورويس. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 482.
42- في نسخة: بالتمتيع، وفي نسخة أخرى زيادة: بالحاضر.
43- قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 3 ص 162 - 163.
44- قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 3 ص 163.
45- النحل: 81.
46- قرأه ابن عباس والحسن وسلام بن المنذر وقتادة والضحاك. راجع تفسير البغوي: ج 3 ص 36، وتفسير القرطبي: ج 9 ص 367.
47- مسند أحمد: ج 3 ص 498، سنن الدارمي: ج 2 ص 248.
48- وهي قراءة مجاهد على ما حكاه عنه القرطبي في تفسيره: ج 9 ص 373.
49- أرض يباب: أي خراب. (الصحاح: مادة يبب).
50- لم نعثر على قائله، يقول: إني مع ما ترين من هرمي وكبري الموجبين للخرف عادة، لكنني عارف بالأمور متفطن لها على بصيرة منها، وقوله: " أعلم من أين يؤكل الكتف " مثل يضرب للمجرب العارف بالأمور. راجع شرح شواهد الكشاف للأفندي: ص 458.
51- وهي قراءة إبراهيم النخعي ويحيى بن يعمر. راجع تفسير القرطبي: ج 9 ص 375.
52- يوسف: 82.
53- قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وأبو الضحى. راجع تفسير الطبري: ج 7 ص 468.
54- وصدره: ألا أبلغ أبا سفيان عني. والبيت من قصيدة طويلة قالها قبل فتح مكة، مدح بها النبي (صلى الله عليه وآله) وهجا أبا سفيان وكان قد هجا النبي (صلى الله عليه وآله) من قبل. راجع ديوان حسان: ج 1 ص 18.
55- هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، تقدمت ترجمته في ص 41 من سورة الأنفال.
56- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 564.
57- المنافقون: 10.
58- البقرة: 143.
59- راجع تفسير البغوي: ج 3 ص 40، والكشاف: ج 2 ص 566.
60- غافر: 51.
61- المجادلة: 21.
62- النساء: 56.
63- سبأ: 16.
64- الأمت: التلال الصغار. (الصحاح: مادة أمت).
65- وهو قول الحسن. راجع التبيان: ج 6 ص 309.
66- قاله ابن عباس وابن مسعود وأنس ومجاهد ومحمد بن كعب وكعب الأحبار وابن جبير وابن عيسى، ورووه عن علي (عليه السلام). راجع تفسير الطبري: ج 7 ص 482 - 483، وتفسير الماوردي: ج 3 ص 143 - 144.
67- قرأه سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس وعيسى. راجع تفسير الماوردي: ج 3 ص 145، وشواذ القرآن لابن خالويه: ص 74، والتبيان: ج 6 ص 311.
68- الهمزة: 7.
69- وهو قول ابن زيد. راجع التبيان: ج 6 ص 311.