سورة البلد

مكية (1)، عشرون آية.

في حديث أبي: " ومن قرأها أعطاه الله الأمن من غضبه يوم القيامة " (2).

وعن الصادق (عليه السلام): " من كان قراءته في الفريضة (لا أقسم بهذا البلد) كان في الدنيا معروفا أنه من الصالحين، وكان في الآخرة معروفا أن له من الله مكانا، وكان من رفقاء النبيين والشهداء والصالحين " (3).

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لا أقسم بهذا البلد (1) وأنت حل بهذا البلد (2) ووالد وما ولد (3) لقد خلقنا الانسن في كبد (4) أيحسب أن لن يقدر عليه أحد (5) يقول أهلكت مالا لبدا (6) أيحسب أن لم يره أحد (7) ألم نجعل له عينين (8) ولسانا وشفتين (9) وهدينه النجدين (10) فلا اقتحم العقبة (11) ومآ أدراك ما العقبة (12) فك رقبة (13) أو إطعم في يوم ذى مسغبة (14) يتيما ذا مقربة (15) أو مسكينا ذا متربة (16) ثم كان من الذين ءامنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة (17) أولئك أصحب الميمنة (18) والذين كفروا بايتنا هم أصحب المشمة (19) عليهم نار مؤصدة (20)﴾

أقسم سبحانه بـ (البلد) الحرام، وهو مكة، وبـ (والد وما ولد) وهو آدم وذريته من الأنبياء والأوصياء وأتباعهم، وقيل: هو إبراهيم وولده (4)، وقيل: هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن ولده (5).

أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه، وحرم أبيه إبراهيم، ومنشأ أبيه إسماعيل، وبمن ولده وبه، وقيل: هو كل والد وولده (6).

وجواب القسم: (لقد خلقنا الانسن في كبد) أي: نصب وشدة، فهو مغمور في مكابدة المشاق والشدائد.

واعترض بقوله: (وأنت حل بهذا البلد) بين القسم وجوابه، يعني: ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك تستحل بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في غير الحرم، وقد استحلوا إخراجك وقتلك، وقيل: إنه وعد له بفتح مكة (7)، أي: وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر، بأن يفتحه الله عليك ويحله لك.

والكبد: أصله من قولك: كبد الرجل كبدا فهو كبد: إذا وجعت كبده، ثم استعمل في كل تعب ومشقة.

والضمير في (أيحسب) لبعض صناديد قريش الذين كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكابد منهم ما يكابد، والمعنى: أيظن هذا المتعزز القوي في قومه (أن لن يقدر) على الانتقام منه وعلى مكافأته أحد؟(يقول أهلكت مالا لبدا) كثيرا، يريد: كثرة ما أنفقه فيما كانوا يسمونها مكارم الأخلاق.

(أيحسب أن لم يره أحد) حين كان ينفق ما ينفق رياء الناس؟يعني: أن الله كان يراه، وقيل: هو أبو الأشد، رجل من جمح وكان قويا، بحيث يقف على أديم عكاظي فيجره العشرة من تحته فيقطع ولا يبرح من مكانه (8).

(ألم نجعل له عينين) يبصر بهما المرئيات.

(ولسانا) يترجم به عما في ضميره (وشفتين) يطبق بهما على فيه، ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب وغير ذلك.

(وهدينه النجدين) أي: طريقي الخير والشر، وقيل: الثديين (9).

(فلا اقتحم العقبة) أي: فلم يشكر تلك الأيادي والنعم بالأعمال الصالحة من: فك الرقاب، وإطعام اليتامى والمساكين، مع الإيمان الذي هو أصل كل طاعة، وأساس كل خير، بل غمط النعم وكفر بالمنعم؟والمعنى: أن الإنفاق على هذا الوجه هو الإنفاق النافع المرضي عند الله، لا أن يهلك مالا لبدا في الرياء والفخار.

وقوله: (ثم كان من الذين ءامنوا) يدل على أن المعنى: فلا اقتحم العقبة ولا أمن، والاقتحام: الدخول بشدة ومشقة، والقحمة: الشدة، وجعل سبحانه الأعمال الصالحة عقبة، وعملها اقتحاما لها لما في ذلك من معاناة الشدة ومجاهدة النفس، وعن الحسن: عقبة والله شديدة: مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان (10).

وفك الرقبة: تخليصها من رق أو غيره.

وقرئ: " فك رقبة أو أطعم ? (11) على الإبدال من: (اقتحم العقبة).

وقوله: (ومآ أدراك ما العقبة) اعتراض، والمعنى: أنك لم تدر كنه ثوابها وكنه صعوبتها على النفس؟وكل واحدة من: (مسغبة) و (مقربة) و (متربة) مفعلة من: سغب إذا جاع، وقرب في النسب، وترب إذا افتقر والتصق بالتراب، ووصف " اليوم " بـ (ذى مسغبة) كما قيل: هم ناصب: ذو نصب.

وقوله: (ثم كان من الذين ءامنوا) إنما جاء بـ (ثم) لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت، لأن الإيمان هو السابق المقدم على غيره، ولا يثبت عمل صالح إلا به (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) أي: وصى بعضهم بعضا بالصبر على الإيمان والثبات عليه، أو: بالصبر عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن والبلايا بأن يكونوا متراحمين، أو: بما يؤدي إلى رحمة الله تعالى، أو: بالرحمة على أهل الحاجة.

و (الميمنة) و (المشئمة): اليمين والشمال، أو: اليمن والشؤم، أي: أصحاب اليمن والبركة على نفوسهم، وأصحاب الشؤم عليها.

وقرئ: (مؤصدة) بالهمزة وترك الهمز (12)، من: أوصدت الباب وآصدته: إذا أطبقته، يعني: أن أبوابها عليهم مطبقة لا يخرج منها غم، ولا يدخل فيها روح إلى آخر الأبد.


1- الحجر: 2.

2- قاله ابن عباس وقتادة. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 605.

3- الحاقة: 5.

4- أنظر شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 2 ص 335 و 337 ح 1096 و 1099 وما بعده من طرق عن علي (عليه السلام).

5- أخرجه الحاكم الحسكاني في الشواهد: ج 2 ص 336 ح 1098 وفيه: " عمر بن صهيب عن أبيه "، وابن عساكر في تاريخ دمشق: ج 3 ص 342 برقم 1389، وأبو يعلى الموصلي في المسند: ج 1 ص 377 ح 225، وأبو نعيم في معرفة الصحابة: ص 21 ط. حجر، وابن حجر في المطالب العالية: ج 4 ص 323 ح 4511، وابن أبي عاصم في الأحاد والمثاني: ص 15 (مخطوط)، والهيثمي في مجمع الزوائد: ج 9 ص 136 وعزاه إلى الطبراني وأبي يعلى وقال: رجاله ثقات.

6- قرأه نافع وابن عامر وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 689.

7- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 362: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي إحدى وعشرون آية بلا خلاف. وفي الكشاف: ج 4 ص 761: مكية، وآياتها (21)، نزلت بعد الأعلى.

8- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 765 مرسلا. وقد تقدم حديث الصادق (عليه السلام) في فضلها في حديثه عن فضل سورة الشمس.

9- الشمس: 4.

10- قاله مقاتل والكلبي. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 494.

11- كذا في الكشاف أيضا، والمراد ورد ذلك في خبر، قال في مجمع البيان: " في الشواذ: قراءة النبي (صلى الله عليه وآله) وقراءة علي بن أبي طالب... ".

12- حكى القراءة عنهم ابن جني في المحتسب: ج 2 ص 364.