سورة الفجر
مكية (1)، ثلاثون آية كوفي، تسع وعشرون بصري، عد الكوفي: (في عبدى) (2).
في حديث أبي: " من قرأها في ليال عشر غفر له، ومن قرأها في سائر الأيام كانت له نورا يوم القيامة " (3).
وعن الصادق (عليه السلام): " اقرؤوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم فإنها سورة حسين بن علي عليه الصلاة والسلام، من قرأها كان مع الحسين (عليه السلام) يوم القيامة في درجته من الجنة " (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿والفجر (1) وليال عشر (2) والشفع والوتر (3) والليل إذا يسر (4) هل في ذا لك قسم لذى حجر (5) ألم تر كيف فعل ربك بعاد (6) إرم ذات العماد (7) التى لم يخلق مثلها في البلد (8) وثمود الذين جابوا الصخر بالواد (9) وفرعون ذى الأوتاد (10) الذين طغوا في البلد (11) فأكثروا فيها الفساد (12) فصب عليهم ربك سوط عذاب (13) إن ربك لبالمرصاد (14) فأما الانسن إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربى أكرمن (15) وأمآ إذا ما ابتلله فقدر عليه رزقه فيقول ربى أهنن (16) كلا بل لا تكرمون اليتيم (17) ولا تحضون على طعام المسكين (18) وتأكلون التراث أكلا لما (19) وتحبون المال حبا جما (20) كلا إذا دكت الأرض دكا دكا (21) وجآء ربك والملك صفا صفا (22) وجاىء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الانسن وأنى له الذكرى (23) يقول يليتنى قدمت لحياتى (24) فيومئذ لا يعذب عذابه أحد (25) ولا يوثق وثاقه أحد (26) يأيتها النفس المطمئنة (27) ارجعى إلى ربك راضية مرضية (28) فادخلى في عبدى (29) وادخلى جنتى (30)﴾
الفجر: شق عمود الصبح، أقسم عز اسمه به كما أقسم بالصبح في قوله: (والصبح إذا أسفر) (5).
(والصبح إذا تنفس) (6)، (وليال عشر) يعني: عشر ذي الحجة، وقيل: هي العشر الأواخر من شهر رمضان (7)، وإنما نكرت لأنها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي العشر وبعض منها، أو: مخصوصة بفضائل ليست لغيرها.
(الشفع والوتر) إما الأشياء كلها شفعها ووترها، وإما شفع هذه الليالي ووترها، أو: (الشفع): يوم النحر لأنه عاشر أيامها (والوتر) عرفة لأنها تاسع أيامها، أو: (الشفع): يوم التروية (والوتر): يوم عرفة، وروي ذلك عن الأئمة (عليهم السلام)، وقرئ: (والوتر) بفتح الواو (8) وهما لغتان في العدد، وفي " الترة " الكسر لا غير.
(والليل إذا يسر) إذا يمضي، كقوله: (والليل إذا أدبر) (9) ويحذف ياء " يسري " في الدرج اجتزاء عنها بالكسرة، فأما في الوقف فيحذف الياء والكسرة، وقيل: معنى " يسري ": يسرى فيه (10).
(هل في ذلك) أي: هل في ما أقسمت به من هذه الأشياء (قسم) أي: مقسم به (لذى حجر) يريد: لذي عقل لأن العقل يحجر عن القبيح، ولذلك سمي عقلا ونهية لأنه يعقل وينهى، أي: هل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم عليه؟وجواب القسم محذوف، وهو: ليعذبن، يدل عليه قوله: (ألم تر كيف فعل ربك) إلى قوله: (سوط عذاب)، وقيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح: عاد، كما قيل لبني هاشم: هاشم، ثم قيل للأولين منهم: عاد الأولى، وإرم تسمية لهم باسم جدهم، ولمن بعدهم: عاد الأخيرة، ف? " إرم " في قوله: (بعاد إرم) عطف بيان ل? " عاد "، وقيل: إرم: بلدتهم التي كانوا فيها (11)، ويدل عليه قراءة من قرأ: " بعاد إرم " على الإضافة (12)، وتقديره: بعاد أهل إرم، و (ذات العماد) إذا كانت صفة للقبيلة فالمعنى: أنهم كانوا بدويين أهل عمد، أو: طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة، وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى: أنها ذات أساطين.
وروي أنه كان لعاد ابنان: شداد وشديد، فملكا وقهرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا، وسمع بذكر الجنة فقال: أبني مثلها، فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة، وهي مدينة عظيمة، قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة، ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا (13).
وعن عبد الله بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له في الصحاري، فوقع عليها، فحمل ما قدر عليه مما ثم، وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه، فبعث إلى كعب فسأله فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير، على حاجبيه خال وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل (14).
(لم يخلق مثلها) أي: مثل عاد (في البلد) عظم أجرام وقوة، أو: لم يخلق مثل مدينة شداد في جميع البلاد.
(جابوا الصخر) أي: قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتا، كقوله: (وتنحتون من الجبال بيوتا) (15).
وقيل لفرعون: " ذو الأوتاد " لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا، أو: لتعذيبه بالأوتاد كما فعل بآسية.
(الذين طغوا) نصب على الذم، أو: رفع على: هم الذين طغوا، أو: جر صفة للمذكورين: عاد وثمود وفرعون.
يقال: صب عليه السوط وغشاه وقنعه، وذكر السوط إشارة إلى أن ما أجله بهم في الدنيا من العذاب بالقياس إلى ما أعده لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به، وكان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال: إن عند الله أسواطا كثيرة فأخذهم بسوط منها (16).
(المرصاد) المكان الذي يترقب (17) فيه الرصد، مفعال من: رصده.
وهذا مثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه، وعن عمرو بن عبيد: أنه قرأ هذه السورة عند المنصور حتى بلغ هذا الموضع فقال: (إن ربك لبالمرصاد) يا أبا جعفر.
عرض له في هذا النداء بأنه من جملة من توعد بذلك من الجبابرة (18).
وعن ابن عباس في هذه الآية: أن على جسر جهنم سبعة محابس، يسأل الله عز وجل العبد عند أولها عن شهادة لا إله إلا الله، وعند الثاني عن الصلاة، وعند الثالث عن الزكاة، وعند الرابع عن الصوم، وعند الخامس عن الحج، وعند السادس عن العمرة، فإن أجاب بها تامة جاز إلى السابع فيسأل عن المظالم، فإن خرج منها وإلا يقال: انظروا، فإن كان له تطوع أكمل به أعماله، فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة (19).
واتصل قوله: (فأما الانسن) بقوله: (إن ربك لبالمرصاد) كأنه قال: إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة، وهو مرصد بالعقوبة للعاصي، فأما الإنسان فلا يهمه إلا العاجلة، فإذا (ابتله ربه) وامتحنه و (أكرمه ونعمه) بما وسع عليه من المال (فيقول ربى أكرمن) وهو خبر المبتدأ الذي هو (الانسن)، ودخول الفاء لما في (أما) من معنى الشرط، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير، والتقدير: مهما يكن من شيء فالإنسان قائل: ربي أكرمني وقت الابتلاء، وسمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقديره: ابتلاء، لأن كل واحد منهما لاختبار العبد أيشكر أم يكفر عند البسط، أو يصبر أم يجزع عند التقتير، فالحكمة فيهما واحدة، ونحوه قوله تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) (20)، وقرئ: (قدر) بالتخفيف والتشديد (21)، وقرئ: " أكرمن " و " أهانن " بسكون النون في الوقف (22) في من ترك الياء في الدرج مكتفيا منها بالكسرة.
(كلا) ردع عن هذا القول، أي: ليس الأمر كما قال، فإني لا أغني المرء لكرامته علي ولا أفقره لمهانته عندي، ولكني أبسط الرزق لمن أشاء وأقدر بحسب ما توجبه الحكمة وتقتضيه المصلحة (بل) يفعلون ما يستحقون به الإهانة، فلا يؤدون ما يلزمهم في المال إذا أكرمتهم بالإكثار منه، من: إكرام اليتيم وحض الأهل على (طعام المسكين)، و " يأكلون " أكل الأنعام، ويحبونه فيبخلون به.
وقرئ: (تكرمون) وما بعده بالتاء على الخطاب (23).
وقرئ: " ولا يحاضون " (24)، أي: يحض بعضكم بعضا.
(أكلا لما) ذا لم، وهو الجمع بين الحلال والحرام، أي: يجمعون في أكلهم بين نصيبهم من الميراث ونصيب غيرهم، وكانوا لا يورثون النساء والصبيان ويأكلون تراثهم مع تراثهم، وقيل: (يأكلون التراث) فيما يشتهون أكلا واسعا، ولا يخرجون ما وجب عليهم فيه من الحقوق (25).
(حبا جما) أي: كثيرا شديدا مع الحرص والشره (26).
(كلا) ردع عن ذلك وإنكار لفعلهم، ثم أتى بالوعيد، وذكر تحسرهم عندما فرطوا فيه حين لا تنفع الحسرة.
و (يومئذ) بدل من (إذا دكت الأرض) وظرف لـ (يتذكر).
(دكا دكا) أي: دكا بعد دك، أي: كرر عليها دك جبالها وأنشازها حتى استوت قاعا صفصفا.
(وجآء ربك) هذا تمثيل لظهور آيات قهره وسلطانه، مثل ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور من سواه من جنوده وخواصه.
(والملك صفا صفا) أي: ينزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف، (وجاىء يومئذ بجهنم) كقوله: (وبرزت الجحيم) (27).
وعن أبي سعيد الخدري: أنها لما نزلت تغير وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعرف في وجهه، حتى اشتد على أصحابه، فأخبروا عليا (عليه السلام)، فجاء فاحتضنه من خلفه، ثم قبل بين عاتقيه ثم قال: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، ما الذي حدث اليوم؟فقال: جاء جبرائيل (عليه السلام) اليوم فأقرأني، وتلا الآية عليه، فقال له علي (عليه السلام): كيف يجاء بها؟قال: يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع، ثم أتعرض لجهنم فتقول: مالي ولك يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد حرم الله لحمك علي، فلا يبقى أحد إلا يقول: نفسي نفسي، وإن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أمتي أمتي (28).
(يومئذ يتذكر الانسن) ما فرط فيه، أو: يتعظ (وأنى له الذكرى) أي: ومن أين له منفعة الذكرى، لابد من تقدير حذف المضاف، وإلا فبين (يتذكر) وبين (أنى له الذكرى) تناقض.
(يقول يليتنى قدمت لحياتى) هذه، وهي حياة الآخرة، أو: وقت حياتي في الدنيا، كقولك: جئته لخمس ليال مضين من شهر كذا، وفيه أوضح دلالة على أنهم كانوا مختارين لأفعالهم غير مجبرين عليها، وإلا فما معنى التحسر.
وقرئ: " يعذب " و " يوثق " بالفتح (29)، والضمير للإنسان الموصوف، وقيل: هو أبي بن خلف، أي: لا يعذب أحد مثل عذابه، ولا يوثق أحد مثل وثاقه لتناهيه في كفره وعناده (30) أو: لا يحمل عذابه أحد، كقوله: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (31)، وقرئ بالكسر، والضمير لله، أي: لا يتولى عذاب الله أحد؛ لأن الأمر لله وحده في ذلك اليوم، أو: للإنسان أي: لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه.
(يأيتها النفس) على إرادة القول، أي: يقول الله للمؤمن: يا أيتها النفس إكراما له، كما كلم موسى (عليه السلام)، أو: على لسان ملك، و (المطمئنة) الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن، أو: المطمئنة إلى الحق التي سكنها روح العلم وثلج اليقين فلا يخالجها شك، وإنما يقال لها ذلك عند الموت، أو: عند البعث، أو: عند دخول الجنة، على معنى: (ارجعى إلى) موعد (ربك راضية) بما أوتيت (مرضية) عند الله.
(فادخلى في) جملة (عبدى) الصالحين، (وادخلى جنتى) معهم.
وقيل: النفس: الروح (32) والمعنى: فادخلي في أجساد عبادي، وقرأ ابن عباس: " في عبدي " (33)، وقال: ارجعي إلى صاحبك فادخلي في جسد عبدي (34).
1- أنظر تفسير ابن عباس: ص 510.
2- الأنبياء: 35.
3- قرأه ابن عامر وحده. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 765.
4- قرأه أبو عمرو برواية علي بن نصر وعباس وعبيد كلهم عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 684 - 685.
5- الظاهر أن المصنف رحمه الله قد اعتمد هنا على قراءة الياء على الغائب، وهي قراءة أبي عمرو وحده. راجع كتاب السبعة: ص 685.
6- قرأه ابن مسعود وزيد بن علي (عليه السلام) وابن المبارك والكسائي برواية الشيرازي عنه. راجع البحر المحيط: ج 8 ص 471.
7- قاله الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 751.
8- في نسخة: " والشدة ".
9- الشعراء: 91، والنازعات: 36.
10- أخرجه السيوطي في الدر: ج 8 ص 511 عن أبي سعيد وعزاه إلى ابن مردويه.
11- قرأه الكسائي وعاصم برواية المفضل عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 685.
12- قاله ابن عباس في تفسيره: ص 511.
13- الأنعام: 164، الإسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7.
14- قاله ابن عباس والضحاك وعكرمة. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 582.
15- حكاه عنه ابن خالويه في شواذ القرآن: ص 174.
16- تفسير ابن عباس: ص 511.
17- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 349: مكية في قول ابن عباس، وقال الضحاك: أنزلت حين افتتحت مكة، وهي عشرون آية بلا خلاف. وفي الكشاف: ج 4 ص 753: مكية، وآياتها (20) نزلت بعد ق.
18- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 757 مرسلا.
19- ثواب الأعمال للصدوق: ص 151.
20- قاله أبو عمران الجوني. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 587.
21- قاله الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 754.
22- قاله ابن عباس وعكرمة. راجع تفسير الطبري المتقدم.
23- قاله ابن عباس في تفسيره: ص 511.
24- قاله ابن عباس في تفسيره المتقدم.
25- قاله ابن عباس والضحاك. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 592.
26- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 756.
27- قرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 686.
28- قرأه ابن كثير وابن عامر ونافع والكسائي وعاصم برواية أبي بكر عنه راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 686.
29- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 356: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي خمس عشرة آية في الكوفي والبصري، وست عشرة في المدنيين. وفي الكشاف: ج 4 ص 758: مكية، وآياتها (15)، نزلت بعد القدر.
30- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 761 مرسلا.
31- ثواب الأعمال للصدوق: ص 151، وفيه بعد " وعروقه ": " وعصبه وعظامه "، وفيه " رحمة مني وفضلا عليه "، وكرر لفظة " هنيئا " مرتين.
32- قاله مجاهد والفراء. راجع إعراب القرآن للنحاس: ج 5 ص 235.
33- قاله الفراء في معاني القرآن: ج 3 ص 266.
34- وعجزه: كأن أثوابه مجت بفرصاد. لعبيد بن الأبرص الأسدي، وفيه يظهر مقام التمدح بشجاعته. وقد تقدم شرح البيت في ج 1 ص 160.