سورة سبأ
مكية (1) وهي أربع وخمسون آية.
وفي حديث أبي: " من قرأ سورة سبأ لم يبق نبي ولا رسول إلا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ الحمدين جميعا - سبأ وفاطر - في ليلته لم يزل في ليلته في حفظ الله وكلاءته، فإن قرأهما في نهاره لم يصبه فيه مكروه، وأعطي من خير الدنيا والآخرة ما لم يخطر على قلبه ولم يبلغه مناه " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الارض وله الحمد في الأخرة وهو الحكيم الخبير (1) يعلم ما يلج في الارض وما يخرج منها وما ينزل من السمآء ومآ يعرج فيها وهو الرحيم الغفور (2) وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم علم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الارض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتب مبين (3) ليجزى الذين ءامنوا وعملوا الصلحت أولئك لهم مغفرة ورزق كريم (4) والذين سعو في ءايتنا معجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم (5)﴾
(ما في السموات وما في الأرض) كله نعمة من الله سبحانه، فكأنه سبحانه وصف نفسه بالإنعام بجميع النعم الدنيوية، فمعناه: أنه المحمود على نعم الدنيا (وله الحمد في الآخرة) إيذان بأنه المحمود على نعم الآخرة، وهي الثواب الدائم والنعيم المقيم (وهو الحكيم) الذي أحكم أمور الدارين (الخبير) بكل كائن وبكل ما سيكون.
(يعلم ما يلج في الأرض) من مطر أو كنز أو ميت (وما يخرج منها) من نبات أو جوهر أو حيوان (وما ينزل من السماء) من ملك أو مطر أو رزق (وما يعرج فيها) أي: ما يصعد من الملائكة وأعمال العباد، وهو مع كثرة نعمه وسبوغ فضله (الرحيم الغفور) لعباده المقصرين في أداء الواجب من شكره.
قال منكر البعث: (لا تأتينا الساعة) وهو نفي أو استبطاء على طريق الهزء (قل بلى وربى) أوجب ما بعد النفي ببلى على معنى: أن ليس الأمر إلا إتيانها، ثم أكده بالقسم بالله عز وجل، ثم أكد التوكيد القسمي بما أتبعه من وصف المقسم به بأنه (علم الغيب) لا يفوته (مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض) فيندرج تحته علمه بوقت قيام الساعة.
ثم أتبع القسم الحجة القاطعة وهو (ليجزى) لأنه ركب في العقول أن المحسن لابد له من ثواب، والمسيء مستوجب العقاب، فاتصل (ليجزى) بقوله: (لتأتينكم) تعليلا له، وقرئ: (علم الغيب) و " علام الغيب ? (4) بالجر صفة لـ (ربي) وقرئ: " علم ? (5) بالرفع على المدح، (ولا أصغر من ذلك) إشارة إلى (مثقال)، وارتفع (أصغر) على أصل الابتداء، وهو كلام منقطع عما قبله، ولا يجوز أن يكون (أصغر) عطفا على (مثقال) لأن حرف الاستثناء تأباه.
(سعو في آيتنا) أي: عملوا بجهدهم في إبطال حججنا وبيناتنا مقدرين إعجاز ربهم، أو: ظانين أنهم يفوتونه.
وقرئ: " معجزين ? (6) وقد مر ذكره في سورة الحج (7).
وقرئ: (أليم) بالرفع والجر (8)، والرجز أسوأ العذاب، والجر في (أليم) أبين صفة لـ (رجز).
﴿ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدى إلى صراط العزيز الحميد (6) وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد (7) أفترى على الله كذبا أم به ى جنة بل الذين لا يؤمنون بالأخرة في العذاب والضلل البعيد (8) أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السمآء والأرض إن نشأ نخسف بهم الارض أو نسقط عليهم كسفا من السمآء إن في ذلك لأية لكل عبد منيب (9)﴾
(يرى) في موضع الرفع، أي: ويعلم (الذين أوتوا العلم) وهم أصحاب رسول الله، أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا (الذي أنزل إليك.
الحق) وهما مفعولان لـ (يرى) وهو فصل.
وقيل: (ويرى) في موضع النصب عطفا على (ليجزى) (9)، أي: وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علما لا يتخالجه ريب، و (الذي أنزل إليك) هو القرآن، (ويهدى) القرآن (إلى صراط العزيز) الذي لا يغالب، (الحميد) على جميع أفعاله وهو الله سبحانه.
والعامل في (إذا) ما دل عليه قوله: (إنكم لفي خلق جديد) وقد مر نظيره، و " الممزق " مصدر أو مكان.
وأسقطت الهمزة في قوله: (افترى) دون قوله: (السحر) وكلتاهما همزة وصل؛ لأن القياس طرحها، ولكن لم تطرح هناك لخوف التباس الاستفهام بالخبر، لكون همزة الوصل مفتوحة، وهي مكسورة هنا فلا التباس، أي: أهو مفتر على الله (كذبا) فيما ينسب إليه (أم به جنة) جنون يوهمه ذلك، ثم قال: ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء، بل هؤلاء الكافرون بالبعث واقعون (في) عذاب النار (والضلل) عن الحق وذلك أجن الجنون، ولما كان العذاب من لوازم الضلال جعلا كأنهما مقترنان.
ووصف الضلال بـ (البعيد) من الإسناد المجازي؛ لأن " البعيد " صفة الضال إذا بعد عن الجادة.
(أفلم يروا) أي: أعموا فلم ينظروا إلى (السمآء والأرض) وأنهما - حيثما كانوا - محيطتان بهم لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما؟وقيل: أفلم يتفكروا فيهما ولم يستدلوا بذلك على قدرتنا؟(10) ثم ذكر سبحانه قدرته على إهلاكهم بأن يخسف (بهم الارض) كما خسف بقارون، أو يسقط (عليهم) قطعة (من السمآء إن في ذلك) النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما لدلالة (لكل عبد) مطيع لله راجع إليه.
وقرئ: (إن نشأ) (نخسف) و (نسقط) بالياء (11) والنون في الجميع، وأدغم الكسائي الفاء في الباء في (نخسف بهم) (12) وليس بقوي.
﴿ولقد ءاتينا داوود منا فضلا يجبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد (10) أن اعمل سبغت وقدر في السرد واعملوا صلحا إنى بما تعملون بصير (11) ولسليمن الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير (12) يعملون له ما يشآء من محريب وتمثيل وجفان كالجواب وقدور راسيت اعملوا ءال داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور (13) فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته ى إلا دآبة الارض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين (14)﴾
(يا جبال) إما أن يكون بدلا من (فضلا) وإما من (آتينا) بتقدير قولنا: يا جبال، أو قلنا: يا جبال (أوبي) من التأويب، أي: رجعي معه التسبيح، ويجوز أن يكون الله سبحانه خلق فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع من الجبال التسبيح كما يسمع من المسبح؛ معجزة لداود.
وقرئ: (والطير) رفعا (13) ونصبا عطفا على لفظ الجبال ومحلها.
وجوزوا أن ينتصب بالعطف على (فضلا) بمعنى: وسخرنا له الطير، وعلى (14) أنه مفعول معه، (وألنا له الحديد) وجعلناه له لينا كالطين والشمع يصرفه بيده كيف شاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة.
(أن اعمل سابغات) أي: دروعا واسعة صافية، وهو أول من اتخذها، وكانت قبل صفائح (وقدر في السرد) أي: في نسج الدروع، فلا تجعل مساميرها دقاقا فتغلق، ولا غلاظا فتقصم الحلق (واعملوا) الضمير لداود وأهله (و) سخرنا (لسليمن الريح) وقرئ: " الريح " بالرفع (15)، أي: ولسليمان الريح مسخرة، أو: وله تسخير الريح (غدوها شهر) جريها بالغداة مسيرة شهر، وجريها بالعشي كذلك (وأسلنا له عين القطر) أي: أذبنا له معدن النحاس وأظهرناه له، ينبع كما ينبع الماء من العين، ولذلك سماه: " عين القطر " تسمية بما آل إليه، كما قال: (إني أراني أعصر خمرا) (16)، (و) سخرنا له (من الجن من يعمل) بحضرته ما يأمرهم به من الأعمال (ومن يزغ) أي: ومن يعدل منهم عما أمرناهم به من طاعة سليمان (نذقة من عذاب السعير) في الآخرة، وقيل: في الدنيا، وقد وكل الله به ملكا بيده سوط يضربه ضربة تحرقه (17).
والمحاريب: البيوت الشريفة، وقيل: هي المساجد والقصور يتعبد فيها (18)، (وتمثيل) قيل: كانت غير صور الحيوان، كصور الأشجار وغيرها، لأن التماثيل: كل ما صور على صورة غيره من حيوان وغير حيوان (19)، وروي ذلك عن الصادق (عليه السلام) (20).
وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه، وإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أضله النسران بأجنحتهما من الشمس (21).
والجوابي: الحياض الكبار لأن الماء يجيء فيها أي: يجمع، جعل الفعل لها مجازا وهي من الصفات الغالبة كالدابة، والقياس أن تثبت الياء، فيه، ومن حذف الياء في الوقف أو في الوصل والوقف فلأنه مشبه بالفاصلة (اعملوا) حكاية ما قيل لآل داود، وانتصب (شكرا) على أنه مفعول له، والمعنى: اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمه، وفيه دلالة على أن العبادة يجب أن تؤدى على وجه الشكر (22)، أو على الحال، أي: شاكرين أو على تقدير: اشكروا شكرا، لأن " اعملوا " فيه معنى الشكر من حيث إن العمل للمنعم شكرا له، و (الشكور): المتوفر على أداء الشكر، الباذل وسعه فيه، وقد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعتقادا واعترافا وكدحا.
(فلما) حكمنا على سليمان (الموت) ما دل الجن (على موته إلا دآبة الأرض) وهي الأرضة (تأكل منسأته) وهي العصا الكبيرة يسوق بها الراعي غنمه، من: نسأته إذا زجرته، وقرئ: " منسأته " بتخفيف الهمزة (23) (تبينت الجن) من تبين الشيء إذا ظهر وتجلى، و (أن) مع صلتها بدل من (الجن) وهو بدل الاشتمال، تقول: تبين زيد جهله.
أي: ظهر أن الجن (لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين)، أو: علم الجن كلهم علما بينا بعد التباس الأمر على عامتهم وتوهمهم أن كبارهم يعلمون الغيب، وعنهم (عليهم السلام): " تبينت الإنس " (24)، وهو قراءة أبي (25)، ويكون الضمير في (كانوا) للجن في قوله: (ومن الجن من يعمل بين يديه) أي: علمت الإنس أن لو كان الجن يصدقون فيما يوهمونهم من علمهم الغيب ما لبثوا، وفي قراءة ابن مسعود: " تبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون " (26).
وكان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة، وملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فمدة ملكه أربعون سنة.
﴿لقد كان لسبإ في مسكنهم ءاية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور (15) فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلنهم بجنتيهم جنتين ذواتى أكل خمط وأثل وشىء من سدر قليل (16) ذلك جزينهم بما كفروا وهل نجزى إلا الكفور (17) وجعلنا بينهم وبين القرى التي بركنا فيها قرى ظهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما ءامنين (18) فقالوا ربنا بعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلنهم أحاديث ومزقنهم كل ممزق إن في ذلك لأيت لكل صبار شكور (19) ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين (20)﴾
سبأ: أبو عرب اليمن كلهم (في مسكنهم) أي: بلدهم.
وقرئ: " مساكنهم ? (27) (جنتان) بدل من (ءاية) أو خبر مبتدأ محذوف، أي: الآية جنتان، ومعنى كونهما آية: أن أهلهما أعرضوا عن شكر الله عليهما فخربهم (28) الله وأبدلهم عنهما الخمط والأثل (29) آية وعبرة لهم ولغيرهم، وقيل: إن الآية أنه لم يكن في بلدهم بعوضة ولا ذباب ولا عقرب ولا حية، وكان الغريب إذا دخل في بلدهم وفي ثيابه قمل ماتت (30).
ولم يرد بستانين فحسب، وإنما أراد جماعتين من البستانين، جماعة عن يمين بلدهم وأخرى عن شمالها، وكل واحدة من الجماعتين في تقاربهما وتضامهما كأنهما جنة واحدة، أو: أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله، كما قال: (جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب) (31)، (كلوا من رزق ربكم) إما حكاية لما قال لهم أنبياء الله المبعوثون إليهم، أو: لما قال لهم لسان الحال (بلدة طيبة) أي: هذه البلدة بلدة طيبة مخصبة، نزهة أرضها عذبة ليست بسبخة، (ورب غفور) أي: ربكم الذي رزقكم وطلب شكركم غفور لمن شكره.
(فأعرضوا) عن الحق ولم يشكروا الله عز اسمه (فأرسلنا عليهم سيل العرم) والعرم: اسم الجرذ الذي نقب عليهم السكر، ضربت لهم (32) بلقيس الملكة بسد ما بين الجبلين بالصخر والقار، فحقنت به ماء العيون والأمطار، وتركت فيه خروقا على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم، فلما طغوا سلط الله على سدهم الخلد (33) فنقبه من أسفله فغرقهم، وقيل: العرم: جمع عرمة وهي الحجارة المركومة (34)، ويقال للكدس من الطعام: عرمة، والمراد: المسناة التي عقدوها سكرا.
وقيل: العرمة اسم واد كان يجتمع فيه السيول (35)، وقيل: العرم: المطر الشديد (36).
وقرئ: (أكل) بالضم والسكون (37)، وبالتنوين والإضافة (38)، ومن نون فالأصل.
ذواتي أكل أكل خمط، فحذف " أكل " المضاف، أو: وصف الأكل بالخمط، فكأنه قال: ذواتي أكل بشع، ومن أضاف فكأنه قال: ذواتي برير (39)، لأن أكل الخمط في معنى البرير، و " الأثل " و " السدر " معطوفان على (أكل) لا على (خمط)، لأن الأثل لا أكل له، وتسمية البدل (جنتين) لأجل المشاكلة، وفيه ضرب من التهكم، وعن الحسن: قلل السدر لأنه أكرم ما بدلوا (40).
وقرئ: (وهل نجزى) بالنون (41)، والمعنى: ومثل هذا الجزاء لا يستحقه إلا الكافر، وهو العقاب العاجل.
(وجعلنا بينهم وبين) قرى الشام (التي بركنا فيها) بالماء والشجر (قرى ظهرة) متواصلة، يرى بعضها من بعض لتقاربها، فهي ظاهرة لأعين الناظرين، أو راكبة متن الطريق ظاهرة للسائلة (42)، (وقدرنا فيها السير) من القرية إلى القرية مقدارا واحدا، كان الغادي منهم يقيل في قرية، والرائح يبيت في قرية إلى أن يبلغ الشام، لا يخاف جوعا ولا عطشا ولا عدوا، ولا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء.
(سيروا) أي: وقلنا لهم: سيروا ولا قول ثم، لكن لما سهلت لهم أسباب السير فكأنهم أمروا به، والمعنى: سيروا إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات، أو: سيروا فيها (ءامنين) لا يخافون وإن تطاولت مدة سفركم فيها وامتدت أياما وليالي.
(فقالوا ربنا بعد) وبعد على الدعاء، بطروا النعمة وملوا العافية فطلبوا الكد والتعب، وقرئ: " ربنا باعد بين أسفارنا ? (43) وهو قراءة الباقر (عليه السلام)، " ربنا " مبتدأ والمعنى خلاف الأول، وهو أنهم استبعدوا مسائرهم على قصرها لفرط تنعمهم (فجعلنهم أحاديث) يتحدث الناس بهم، وفرقناهم تفريقا اتخذه الناس مثلا مضروبا، يقولون: ذهبوا أيدي سبأ، وتفرقوا أيادي سبأ، قال كثير: أيادي سبأ يا عز ما كنت بعدكم * فلم يحل بالعينين بعدك منظر (44) (إن في ذلك لايت) وعبرا (لكل صبار) عن المعاصي (شكور) للنعم بالطاعات.
وقرئ: (صدق) بالتشديد والتخفيف (45)، فمن شدد فعلى: حقق عليهم إبليس ظنه، أو: وجده صادقا، ومن خفف فعلى: صدق في ظنه.
وقرئ: " صدق " بالتشديد " إبليس " بالنصب " ظنه " بالرفع (46)، والمعنى: وجد ظنه صادقا حين قال: (لاحتنكن ذريته إلا قليلا) (47) (ولا تجد أكثرهم شاكرين) (48) (ولاغوينهم أجمعين) (49)، والضمير في (عليهم) يعود إلى أهل سبأ، وقيل: يعود إلى الناس كلهم إلا من أطاع الله (50) وذلك قوله: (إلا فريقا من المؤمنين).
﴿وما كان له عليهم من سلطن إلا لنعلم من يؤمن بالأخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شىء حفيظ (21) قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الارض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير (22) ولا تنفع الشفعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير (23) قل من يرزقكم من السموات والارض قل الله وإنآ أو إياكم لعلى هدى أو في ضلل مبين (24) قل لا تسئلون عمآ أجرمنا ولا نسئل عما تعملون (25)﴾
.
أي: لم يكن لإبليس عليهم من سلطنة واستيلاء يتمكن بها من إجبارهم على الغي والضلال، كما قال: (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم) (51) وتمكينه من الاستغواء بالوسوسة لغرض صحيح وحكمة بالغة، وذلك أن يتميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها، وعلل ذلك بالعلم والمراد ما تعلق به العلم، والحفيظ: المحافظ، وفعيل ومفاعل متأخيان.
وأحد مفعولي (زعمتم) الضمير المحذوف الراجع منه إلى الموصول، والمفعول الثاني: إما أن يكون (من دون الله) أو (لا يملكون) أو محذوفا، فلا يصح الأول لأن قولك: " هم من دون الله " لا يلتئم كلاما، ولا الثاني لأنهم ما كانوا يزعمون ذلك، فبقي أن يكون محذوفا تقديره: زعمتموهم آلهة من دون الله، فحذف الموصوف لكونه مفهوما، وأقام صفته مقامه، فمفعولا (زعمتم) محذوفان كما ترى بسببين مختلفين.
ثم أخبر عن آلهتهم بأنهم (لا يملكون) زنة ذرة من خير وشر ونفع وضر (في السموات ولا في الأرض) وليس لهم في شيء منهما نصيب ولا (شرك) وليس لله (منهم من ظهير) على خلق شيء منهما.
يقال: الشفاعة لزيد على معنى: أنه الشافع، وعلى معنى أنه المشفوع له، فيحتمل قوله: (ولا تنفع الشفعة عنده إلا) كائنة (لمن أذن له) من الشافعين ومطلقة له، مثل: الملائكة والأنبياء والأولياء، أو: لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له أي: لشفيعه، وهذا تكذيب لقولهم: (هؤلاء شفعؤنا عند الله) (52)، واتصل قوله: (حتى إذا فزع عن قلوبهم) بما فهم من هذا الكلام من أن ثم انتظارا للإذن وفزعا من الراجين للشفاعة، والشفعاء هل يؤذن لهم أو لا يؤذن، وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد تربص وتوقف، فكأنه قال: يتربصون مليا فزعين (حتى إذا فزع عن قلوبهم) أي: كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بأن يأذن رب العزة في الشفاعة تباشروا بذلك، وسأل بعضهم بعضا: (ماذا قال ربكم؟قالوا) القول (الحق) وهو الإذن بأن يشفعوا لمن ارتضى.
وقرئ: (أذن له) أي: أذن الله له، و " أذن له ? (53) على البناء للمفعول، وقرئ: (فزع) على البناء للفاعل (54) وهو الله وحده (وهو العلى الكبير) ذو العلو والكبرياء، لا يملك أحد أن يتكلم في ذلك اليوم إلا بإذنه.
ثم أمره عز اسمه أن يقررهم بقوله: (من يرزقكم) ثم أمره أن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله: يرزقكم (الله) وذلك للإعلام بأنهم مقرون به بقلوبهم إلا أنه ربما لم يتكلموا به عنادا، وأمره أن يقول لهم بعد الإلزام: (وإنآ أو إياكم لعلى هدى أو في ضلل مبين) معناه: أن أحد الفريقين من الموحدين ومن المشركين لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال، وهذا من كلام المنصف الذي كل من سمعه قال للذي خوطب به: قد أنصفك صاحبك، وفي درجه بعد تقديم ما قدم من التقرير البليغ دلالة على من هو على الهدى ومن هو في الضلال المبين من الفريقين، ونحوه قول القائل لغيره: إن أحدنا لكاذب، وإن كان الكاذب معلوما، ومنه قول حسان: أتهجوه ولست له بكفء * فشركما لخيركما الفداء (55) (عمآ أجرمنا) من المعاصي (ولا نسئل عما) تعملونه، بل كل إنسان يسأل عما يعمله ويجازى على فعله دون فعل غيره.
﴿قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم (26) قل أروني الذين ألحقتم به ى شركآء كلا بل هو الله العزيز الحكيم (27) ومآ أرسلنك إلا كآفة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (28) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (29) قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون (30)﴾
.
(يفتح بيننا) أي: يحكم ويفصل بالحق (وهو الفتاح) الحاكم (العليم) بالحكم.
ومعنى قوله: (أروني) وقد كان يراهم ويعرفهم، أنه أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله، وينبئهم عن ضلالهم في ذلك، و (كلا) ردع لهم عن مذهبهم، ونبه على غلطهم الفاحش بقوله: (بل هو الله العزيز الحكيم) كأنه قال: أين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات إذ هي لله عز اسمه وحده.
(إلا كآفة للناس) أي: إلا رسالة عامة لهم محيطة بهم، لأنها إذا عمتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، قال الزجاج: معناه: أرسلناك جامعا للناس في الإنذار والإبلاغ (56)، فجعله حالا من الكاف، والتاء للمبالغة كتاء " الراوية " و " العلامة "، (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ما لهم في اتباعك من الثواب، وما عليهم من مخالفتك من العقاب، أو: لا يعلمون رسالتك لإعراضهم عن النظر في معجزتك.
(ميعاد يوم) أي: ميقات يوم ينزل بكم فيه ما وعدتموه، وهو إضافة تبيين ك? " سحق ثوب " و " باب ساج "، سألوا على طريق التعنت فأجيبوا على طريق التهديد أنهم مرصدون بيوم يفاجئهم، فلا يستطيعون تأخرا عنه ولا تقدما عليه.
﴿وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظلمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين (31) قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددنكم عن الهدى بعد إذ جآءكم بل كنتم مجرمين (32) وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننآ أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلل في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون (33) ومآ أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا بمآ أرسلتم به ى كافرون (34) وقالوا نحن أكثر أموالا وأولدا وما نحن بمعذبين (35)﴾
(الذي بين يديه) كتب الله المتقدمة، وقيل: هو يوم القيامة (57)، ومعناه: أنهم جحدوا أن يكون القرآن من قبل الله، وأن يكون للبعث والجزاء حقيقة، ثم أخبر سبحانه عن عاقبة أمرهم بأن قال: (ولو ترى) يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أو: أيها السامع موقفهم في الآخرة وهم يراجعون المجادلة بينهم، لرأيت أمرا عجيبا، فحذف جواب (لو).
و (الذين استضعفوا) هم الأتباع، و (الذين استكبروا) هم الرؤساء والقادة.
وقوله: (أنحن صددنكم عن الهدى) إنكار أن يكونوا هم الصادين لهم عن الإيمان، وإثبات أنهم هم الذين صدوا بأنفسهم عنه باختيارهم، كأنهم قالوا: أنحن أجبرناكم وحلنا بينكم وبين اختياركم؟بل أنتم آثرتم الضلال على الهدى، وأمر الشهوة على أمر النهي فكنتم مجرمين كافرين، وقوله: (بعد إذ جآءكم) أضيف (بعد) إلى (إذ) اتساعا مع كونها من الظروف اللازمة، كما أضيفت هي إلى الجملة التي هي (جآءكم) فقد اتسع في الزمان ما لم يتسع في غيره، فأضيف إليه الزمان وأضيف إلى الجمل نحو: " حينئذ " و " يومئذ "، و " جئتك أوان الحجاج أمير " و " حين خرج زيد ".
ثم كر المستضعفون على المستكبرين بقولهم: (بل مكر الليل والنهار) فأبطلوا إضرابهم بإضرابهم، كأنهم قالوا: ما كان الإجرام من جهتنا بل من جهة مكركم لنا دائبا ليلا ونهارا، وحملكم إيانا على الكفر واتخاذ الأنداد.
والمعنى: مكركم في الليل والنهار، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به في إضافة المكر إليه، أو: جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي.
والضمير في (وأسروا) ضمير الجنس المشتمل على النوعين من المستكبرين والمستضعفين، وهم الظالمون في قوله سبحانه: (إذ الظللمون موقوفون) فندم الرؤساء على ضلالهم وإضلالهم، والأتباع على ضلالهم.
والمعنى: أخفوا الندامة، وقيل: أظهروها (58)، وهو من الأضداد، وقد فسر على الوجهين بيت امرئ القيس: تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا * علي حراصا لو يسرون مقتلي (59) (في أعناق الذين كفروا) أي: في أعناقهم فجاء بالمظهر للتنويه بذمهم.
﴿قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون (36) ومآ أموا لكم ولا أولدكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من ءامن وعمل صلحا فأولئك لهم جزآء الضعف بما عملوا وهم في الغرفت ءامنون (37) والذين يسعون في ءايتنا معجزين أولئك في العذاب محضرون (38) قل إن ربى يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ى ويقدر له ومآ أنفقتم من شىء فهو يخلفه وهو خير الرازقين (39) ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملئكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون (40) قالوا سبحنك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون (41) فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون (42)﴾
(وما أموالكم) التي خولتموها (ولا أولادكم) التي رزقتموها بالجماعة التي (تقربكم عندنا) قربة، والزلفى والزلفة كالقربى والقربة، ومحل (زلفى) نصب على المصدر، فهو كقوله: (والله أنبتكم من الأرض نباتا) (60)، (إلا من ءامن) استثناء من " كم " في (تقربكم) والمعنى: إن الأموال لا تقرب أحدا إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله، والأولاد لا تقرب أحدا إلا من رشحهم للصلاح وعلمهم الدين (فأولئك لهم جزاء الضعف) بأن يضاعف لهم حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة عشرا فصاعدا إلى سبعمائة وأكثر، و " جزاء الضعف " من إضافة المصدر إلى المفعول.
وأصله: فأولئك لهم أن يجازوا الضعف، ثم جزاء الضعف ثم جزاء الضعف.
وقرئ: " جزاء الضعف ? (61) على: فأولئك لهم الضعف جزاء، وقرئ: " في الغرفة " على التوحيد (62)، و (في الغرفت) على الجميع (63)، وهي البيوت فوق الأبنية (ءامنون) من الغير (64) والآفات والموت والحزن.
(والذين يسعون) يجتهدون (في) إبطال (ءايتنا معجزين) لأنبيائنا، ومعجزين: مثبطين غيرهم عن طاعتهم (أولئك) محصلون في العذاب أحضروا فيه.
وكرر قوله: (قل إن ربى يبسط الرزق لمن يشآء) لأن الأول خوطب به الكفار، والثاني وعظ للمؤمنين، فكأنه قال: ليس إغناء الكفار لكرامتهم، وإغناء المؤمنين يجوز أن يكون زيادة في سعادتهم بأن ينفقوها في سبيل الله، ويدل عليه قوله: (ومآ أنفقتم من شىء فهو يخلفه) أي: يعوضه، ويعقبكم (65) خلفه إما عاجلا بزيادة النعمة، وإما آجلا بالثواب الذي كل خلف دونهم (66).
(ويوم يحشرهم جميعا) الغرض من سؤال الملائكة أن يقول ويقولوا، ويسأل ويجيبوا، فيكون تقريع الكفار أبلغ وتعييرهم أشد، ويكون اقتصاص ذلك زجرا للسامع ولطفا له، ونحوه قوله: (يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) (67) والموالاة مفاعلة من الولي وهو القرب، كما أن المعاداة مفاعلة من العدو وهي البعد، والولي يقع على الموالي والموالى جميعا، والمعنى: أنت الذي تواليه من دونهم إذ لا موالاة بيننا وبينهم، فبينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا لعبادتهم لهم (بل كانوا يعبدون الجن) يريدون الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله.
﴿وإذا تتلى عليهم ءايتنا بينت قالوا ما هذآ إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد ءابآؤكم وقالوا ما هذآ إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جآءهم إن هذآ إلا سحر مبين (43) ومآ ءاتينهم من كتب يدرسونها ومآ أرسلنآ إليهم قبلك من نذير (44) وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار مآ ءاتينهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير (45) قل إنمآ أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد (46) قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله وهو على كل شىء شهيد (47) قل إن ربى يقذف بالحق علم الغيوب (48)﴾
(هذا) الأول إشارة إلى رسول الله، والثانية إلى القرآن، والثالثة إلى الحق، والحق أمر النبوة كله ودين الإسلام كما هو، وفي قوله: (وقال الذين كفروا) ولم يقل " قالوا "، وفي قوله: (للحق لما جآءهم) وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه وما في " لما " من المبادهة بالكفر، دليل على أن الكلام صدر عن إنكار عظيم وغضب شديد، كأنه قال: وقال أولئك الكفرة المتمردون بجرأتهم على الله ومكابرتهم لمثل ذلك الحق الواضح قبل أن يختبروه ويتدبروه: (إن هذا إلا سحر مبين) فقضوا بأنه سحر ظاهر.
(وما ءاتينهم) كتبا يدرسونها فيها برهان على صحة الشرك، ولا (أرسلنآ إليهم) نذيرا ينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا كما قال: (أم أنزلنا عليهم سلطنا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون) (68) أو أراد: ليس لهم عهد بإنزال الكتاب ولا بعث رسول، فهم أميون أهل جاهلية لا ملة لهم، كما قال: (أم ءاتينهم كتبا من قبله فهم به مستمسكون) (69) ثم توعدهم على تكذيبهم فقال: (وكذب الذين من قبلهم) كما كذبوا، وما بلغ هؤلاء (معشار) ما آتينا أولئك من طول الأعمار وكثرة الأموال وعظم الأجسام، فحين كذبوا (رسلي) جاءهم نكيري، أي: عقوبتي وتغييري لأحوالهم بالتدمير والاستئصال، ولم يغن عنهم ما استظهروا به من القوة والثروة، فما بال هؤلاء لا يحذرون أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك من النقمة؟(قل إنما أعظكم) بخصلة (واحدة)، وفسرها بقوله: (أن تقوموا لله مثنى) على أنه عطف بيان لها، وأراد بقيامهم: إما القيام عن مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتفرقهم عنه، وإما القيام الذي لا يراد به المثول على القدمين ولكن الانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمة، والمعنى: إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق، وهي أن تقوموا لوجه الله خالصا اثنين اثنين وواحدا واحدا (ثم تتفكروا) في أمر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وما جاء به بعدل وإنصاف من غير عناد ومكابرة.
وأراد بقوله: (ما بصاحبكم من جنة) أن هذا الأمر العظيم الذي تحته ملك الدنيا والآخرة جميعا لا يتصدى لادعاء مثله إلا أحد رجلين: إما مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان فعجز، وإما عاقل كامل مرشح للنبوة مؤيد من عند الله بالآيات والحجج، وقد علمتم أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) ما به من جنون، بل علمتموه أرجح الناس عقلا، وأصدقهم قولا، وأجمعهم للمحامد.
و (ما) للنفي، ويكون استئناف كلام تنبيها من الله على طريقة النظر في أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويجوز أن يكون المعنى: (ثم تتفكروا) فتعلموا ما بصاحبكم من جنة.
ويجوز أن يكون (ما) استفهامية بمعنى: أي شيء به من جنة؟وهل رأيتم من منشئه إلى مبعثه وصمة فيه تنافي النبوة؟(إن هو إلا نذير) أي: مخوف (بين يدي عذاب شديد) يوم القيامة.
(ما سألتكم) تقديره: أي شيء سألتكم (من أجر فهو لكم) وفيه معنيان: أحدهما: نفي مسألة الأجر رأسا كما يقول الرجل لصاحبه: إن أعطيتني شيئا فخذه، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئا، والمراد: لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئا من عرض الدنيا فتتهموني، والآخر: أن يريد بالأجر ما يريده في قوله: (قل ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا) (70) وفي قوله: (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (71)؛ لأن اتخاذ السبيل إلى الله يصيبهم، ونفعه عائد إليهم، وكذلك المودة في القربى؛ لأن ذخرها لهم دونه (إن أجرى إلا على الله) أي: ليس ثواب عملي إلا على الله فهو يثيبني عليه.
القذف: الرمي، وهو مستعار لمعنى الإلقاء، ومعنى (يقذف بالحق): يلقيه وينزله إلى أنبيائه، أو: يلقيه على الباطل (فيدمغه) ويزهقه (علم الغيوب) رفع محمول على محل (إن) مع اسمها، وهو خبر مبتدأ محذوف.
﴿قل جآء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد (49) قل إن ضللت فإنمآ أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحى إلى ربي إنه سميع قريب (50) ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب (51) وقالوا ءامنا به ى وأنى لهم التناوش من مكان بعيد (52) وقد كفروا به ى من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد (53) وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب (54)﴾
الحي: إما أن يبدأ فعلا أو يعيده، فإذا هلك لم يكن منه إبداء ولا إعادة، فجعلوا قولهم: " لا يبدئ ولا يعيد " مثلا للهلاك، ومنه قول عبيد: أقفر من أهله عبيد * فاليوم لا يبدي ولا يعيد (72) والمعنى: (جاء الحق) وهلك الباطل، وعن ابن مسعود قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد " (73).
(قل إن ضللت) عن الحق كما زعمتم (فإنمآ أضل على نفسي) أي: فإنما يرجع وبال الضلال علي لأن المأخوذ به دون غيري (وإن اهتديت) إلى الحق فبفضل (ربى) حيث أوحى (إلى) فله المنة بذلك علي.
(ولو ترى) جوابه محذوف والتقدير: لرأيت أمرا عظيما.
و (لو) و (إذ) والأفعال التي هي (فزعوا.
وأخذوا.
وحيل بينهم) كلها للمضي، والمراد بها الاستقبال؛ لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما قد كان ووجد لتحققه، ووقت الفزع: وقت البعث (فلا فوت) لا يفوت منهم أحد، والمكان القريب يعني به القبر، وقيل: هو فزعهم عند الموت ومعاينة ملائكة العذاب لقبض الأرواح (74)، وقيل: يوم بدر حين ضربت أعناقهم فلم يستطيعوا فرارا (75)، وقيل: هو جيش يخسف بهم بالبيداء، يؤخذون من تحت أقدامهم (76)، (وأخذوا) عطف على (فزعوا) أي: فزعوا وأخذوا فلا فوت لهم، أو: على (لا فوت) أي: إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا.
(وقالوا) أي: ويقولون في ذلك الوقت: (ءامنا به) أي: بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ لأن ذكره مر في قوله: (ما بصاحبكم من جنة)، (وأنى لهم التناوش) وهو التناول السهل لشيء قريب، وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا، مثلت حالهم بحال من يريد تناول الشيء من مكان بعيد مثل ما يتناوله الآخر من موضع قريب تناولا سهلا، وقرئ: " التناؤش ? (77) همزت الواو المضمومة كما همزت واو " أدؤر " (78)، وقيل: هو من " النأش " وهو الطلب (79)، قال رؤبة: إليك نأش القدر.
(80) النؤوش والنئيش: الحركة في الإبطاء، قال: تمنى نئيشا أن يكون أطاعني * وقد حدثت بعد الأمور أمور (81) أي: أخيرا، فنصبه على الظرف.
(ويقذفون) عطف على (كفروا) على حكاية الحال الماضية، أي: وكانوا يرمون محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بالظنون الكاذبة، ويأتون به (من مكان بعيد)، وهو قولهم: إنه ساحر وشاعر وكذاب ومجنون، وقد أتوا به من (مكان بعيد) أي: من جهة بعيدة من حاله، لأن أبعد شيء مما جاء به: السحر، والشعر، والجنون، وأبعد شيء من عادته الكذب، والزور.
(وحيل بينهم) أي: فرق بينهم وبين مشتهياتهم (كما فعل بأشياعهم) بأشباههم من كفرة الأمم وموافقيهم وأهل دينهم، أنهم كانوا (في شك مريب) أي: مشكك، كما قالوا: عجب عجيب.1- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 372: مكية في قول مجاهد وقتادة والحسن وغيرهم، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وقيل: إن آية واحدة منها مدنية وهي قوله: (وترى الذين أوتوا) الآية. وهي أربع وخمسون آية عند الكل إلا الشامي فإنها عنده خمس وخمسون آية. وفي الكشاف: ج 3 ص 566: مكية إلا آية 6 فمدنية وآياتها 54، نزلت بعد لقمان.
2- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 594 مرسلا.
3- ثواب الأعمال للصدوق: ص 137 وفيه: " يبلغ ".
4- قرأه حمزة والكسائي. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 621.
5- وهي قراءة نافع وابن عامر. راجع المصدر السابق.
6- قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع المصدر نفسه.
7- في ج 2 ص 565 فراجع.
8- وبالجر قرأه نافع وحمزة والكسائي وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 526.
9- قاله النحاس في إعراب القرآن: ج 3 ص 332.
10- قاله قتادة. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 434.
11- قرأهن بالياء جميعا حمزة والكسائي. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 622.
12- أنظر المصدر السابق.
13- قرأه الأعرج وعبد الوارث عن أبي عمرو. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 122.
14- في نسخة: " أو على ".
15- قرأه أبو بكر والمفضل. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 622.
16- يوسف: 36.
17- قاله يحيى بن سلام. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 438.
18- قاله الحارث وقتادة وابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 354.
19- وهو قول الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 572.
20- أنظر الكافي: ج 6 ص 527 ح 7.
21- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 572.
22- ليس في نسخة: " وفيه دلالة... ".
23- وهي قراءة نافع وأبي عمرو. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 622.
24- أنظر التبيان: ج 8 ص 384.
25- نسبها إليه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 574.
26- أنظر المصدر السابق.
27- قرأه ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 528.
28- في بعض النسخ: " فخربهما ".
29- تعددت الأقوال في معنى الخمط، فعن الليث: هو ضرب من الأراك له حمل يؤكل، وقال الزجاج: إنه يقال لكل نبت قد أخذ طعما من مرارة حتى لا يمكن أكله، وقال الفراء: الخمط في التفسير ثمر الأراك وهو البرير، وقيل: شجر له شوك، وقيل: هو شجر قاتل أو سم قاتل، وقيل: هو الحمل القليل من كل شجرة. وأما الاثل فهو ضرب من الخشب كالطرفاء، وقيل: هو الطرفاء. انظر لسان العرب: مادة " خمط " و " أثل ".
30- قاله عبد الرحمن بن زيد. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 443.
31- الكهف: 32.
32- في نسخة: " عليهم ".
33- الخلد: ضرب من الجرذان أعمى. (الصحاح: مادة خلد).
34- قاله الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 576.
35- قاله ابن عباس وقتادة والضحاك. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 362.
36- وهو قول ابن عباس أيضا. راجع تفسير القرطبي: ج 14 ص 286.
37- وبسكون الكاف قرأه نافع وابن كثير وعباس عن أبي عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 528.
38- وبالإضافة هي قرارة أبي عمرو وحده. راجع المصدر السابق.
39- البرير: ثمر الأراك، واحدتها بريرة. (الصحاح: مادة برر).
40- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 576.
41- الظاهر من العبارة أن المصنف يميل إلى القراءة بالياء هنا، وهي قراءة الجمهور الا الكوفيين فقد قرؤوها بالنون.
42- في نسخة: " للسابلة ".
43- وهي قراءة محمد بن الحنفية وأبي العالية وأبي صالح ونصر بن عاصم ويعقوب ويروى عن ابن عباس، راجع تفسير القرطبي: ج 14 ص 290.
44- وهو من أبيات يرثي بها عبد العزيز بن مروان، ومعناه واضح. انظر ديوان كثير عزة: ص 100.
45- وبالتخفيف قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 529.
46- وهي قراءة أبي الهجهاج، قال أبو حاتم الرازي: لا وجه لهذه القراءة عندي. وقد أجازها الفراء والزجاج. ونسبها القرطبي إلى جعفر بن محمد (عليهما السلام) راجع إعراب القرآن للنحاس: ج 3 ص 343، وتفسير القرطبي: ج 14 ص 292.
47- الإسراء: 62.
48- الأعراف: 17.
49- الحجر: 39.
50- قاله مجاهد كما في تفسير القرطبي: ج 14 ص 292.
51- إبراهيم: 22.
52- يونس: 18.
53- قرأه حمزة والكسائي والأعشى. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 624.
54- قرأه ابن عامر وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 530.
55- والبيت من قصيدة طويلة يهجو بها أبا سفيان أنظر ديوان حسان: ج 1 ص 18.
56- معاني القرآن: ج 4 ص 254.
57- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 584.
58- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 585.
59- والبيت من معلقته المشهورة التي مطلعها: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * بسقط اللوى بين الدخول فحومل أنظر ديوان امرئ القيس: ص 39.
60- نوح: 17.
61- قرأه رويس. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 624.
62- وهي قراءة حمزة وحده. راجع المصدر السابق.
63- في نسخة: " الجمع ".
64- غير الدهر: أحواله المتغيرة من الصلاح إلى الفساد. (لسان العرب: مادة غير).
65- في نسخة: " ويعطيكم ".
66- في بعض النسخ: " دونه ".
67- المائدة: 116.
68- الروم: 35.
69- الزخرف: 21.
70- الفرقان: 57.
71- الشورى: 23.
72- لعبيد بن الأبرص الأسدي، ومعناه: أن الهالك لم يبق له إبداء ولا إعادة كما يقال: لا يأكل ولا يشرب. أنظر ديوان عبيد: ص 11.
73- رواه عنه مسلم في صحيحه: ج 3 ص 1408 ح 1781.
74- قاله قتادة. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 388.
75- قاله السدي. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 458.
76- وهو قول سعيد بن جبير. راجع المصدر السابق.
77- قرأه حمزة والكسائي وأبو عمرو. راجع التبيان: ج 8 ص 408.
|
78- في نسخة: " أذؤد "، وأخرى: " أدؤد "، وثالثة: " داؤد "، والظاهر أن الصحيح ما أثبتناه عن نسخة وما في الكشاف. والأدؤر والأدور: جمع دار كما في اللسان.
79- حكاه القيسي في الكشف: ج 2 ص 218.
80- والبيت: أقحمني جار أبي الخاموش * إليك نأش القدر النؤوش أنظر مجاز القرآن: ج 2 ص 151.
81- لنهشل بن حري من أبيات في عبد له قد عصاه فندم، يقول: أنه تمنى في الأخير وبعد الفوت أن لو أطاعني، فطاعته جاءت في وقت لا تنفعه بعد ما حدثت أمور وأمور. أنظر لسان العرب: مادة " نأش ".