سورة ص

مكية (1) وهي ثمان وثمانون آية كوفي، ست بصري، عد الكوفي (ذي الذكر) (2) و (غواص) (3).

وفي حديث أبي: " من قرأ سورة ص أعطي من الأجر بوزن كل جبل سخره الله لداود حسنات " (4).

وعن الباقر (عليه السلام): " من قرأها في ليلة الجمعة أعطي من خير الدنيا والآخرة ما لم يعط أحد من الناس إلا نبي مرسل أو ملك مقرب، وأدخله الله الجنة، وكل من أحب من أهل بيته ? (5)

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ص والقرءان ذي الذكر (1) بل الذين كفروا في عزة وشقاق (2) كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص (3) وعجبوا أن جآءهم منذر منهم وقال الكفرون هذا سحر كذاب (4) أجعل الالهة إلها واحدا إن هذا لشىء عجاب (5) وانطلق الملا منهم أن امشوا واصبروا على ءالهتكم إن هذا لشىء يراد (6) ما سمعنا بهذا في الملة الأخرة إن هذآ إلا اختلق (7) أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب (8)﴾

إن جعلت (ص) حرفا من حروف المعجم ذكر على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز، فقوله: (والقرءان ذي الذكر) قسم محذوف الجواب لدلالة التحدي عليه، فكأنه قال: والقرآن ذي الذكر إنه لكلام معجز، وإن جعلت (ص) خبر مبتدأ محذوف على أنها اسم للسورة، فكأنه قال: هذا (ص) أي السورة التي أعجزت الفصحاء والقرآن ذي الذكر، كما تقول: هذا حاتم والله، تريد: هذا هو المشهور بالجود والله، وإن جعلتها قسما فكمثله، كأنه قال: أقسمت بصاد والقرآن ذي الذكر إنه لمعجز، وإن جعلتها مقسما به وعطفت عليها (والقرءان ذي الذكر) جاز أن تريد بالقرآن القرآن كله، وأن تريد السورة بعينها فيكون معناه: أقسم بالسورة الشريفة وبالقرآن ذي الذكر، كما تقول: مررت بالرجل الكريم وبالنفس الشريفة، ولا تريد بالنفس غير الرجل، والذكر: الشرف، أو الذكرى والموعظة، أو ذكر ما يحتاج إليه من الشرائع وغيرها من التوحيد وذكر الأنبياء وأخبار الأمم وأحوال القيامة.

(بل الذين كفروا) من أهل مكة (في عزة) أي: في تكبر عن قبول الحق (وشقاق) وخلاف وعداوة شديدة.

(كم أهلكنا) وعيد لذوي العزة والشقاق (فنادوا) فدعوا واستغاثوا عند وقوع الهلاك بهم (ولات) هي لاء المشبهة ب? " ليس "، زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على " رب " و " ثم " للتأكيد، وتغير بذلك حكمها حيث لم تدخل إلا على الأحيان، ولم يبرز إلا اسمها أو خبرها وامتنع بروزهما جميعا، فتقديره: ولات الحين (حين مناص) أي: وليس الحين حين مناص، ولو رفع لكان تقديره: ولات حين مناص حاصلا لهم، والمناص: الملجأ.

(وقال الكفرون) ولم يقل: وقالوا، إظهارا للغضب عليهم، ودلالة على أن هذا القول لا يجسر عليه إلا الكافر المتمادي للكفر.

(أجعل الآلهة إلها وحدا) ومعنى الجعل: التصير في القول على سبيل الدعوى، كأنهم قالوا: أجعل الجماعة واحدا في قوله وزعمه: (إن هذا لشىء) بليغ في العجب.

و (الملا): أشراف قريش، يريد: وانطلقوا عن مجلس أبي طالب لما أتوه وهم خمسة وعشرون رجلا فيهم الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم، وأبو جهل، وأبي ابن خلف، وأخوه أمية وعتبة وشيبة، والنضر بن الحارث، فقالوا: أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فإنه سفه أحلامنا وشتم آلهتنا، فقال أبو طالب: يا بن أخي، هؤلاء قومك يسألونك فيقولون: دعنا وآلهتنا ندعك وإلهك، فقال (عليه السلام): أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب والعجم؟فقال أبو جهل: لله أبوك نعطيك ذلك وعشر أمثالها، فقال: قولوا: لا إله إلا الله، فقاموا قائلين بعضهم لبعض: (امشوا واصبروا) فلا حيلة لكم في أمر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

وروي: أنه (عليه السلام) استعبر ثم قال: يا عم، والله لو وضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو أقتل دونه، فقال له أبو طالب: امض لأمرك، فوالله لا أخذلك أبدا (6).

و (أن) هي المفسرة بمعنى: " أي "، لأن انطلاقهم من مجلس التقاول يتضمن معنى القول (إن هذا) الأمر (لشىء يراد) أي: يريده الله تعالى وما أراد الله كونه فلا مرد له، ولا ينفع فيه إلا الصبر، وقيل: معناه: أن هذا الأمر الذي نراه من زيادة أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لشيء من نوائب الدهر يراد بنا ولا انفكاك لنا منه (7) ومعنى (واصبروا على آلهتكم): اصبروا على عبادتها والتمسك بها حتى لا تزالوا عنها.

(ما سمعنا بهذا) في ملة عيسى التي هي آخر الملل، لأن النصارى يقولون: ثالث ثلاثة ولا يوحدون، أو: في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا، أو: ما سمعنا بهذا كائنا في الملة الآخرة، على أن يكون (في الملة الآخرة) حالا من (هذا) فلا يتعلق بـ (ما سمعنا) كما في الوجهين، والمعنى: أنا لم نسمع من أهل الكتاب ولا الكهان أنه يحدث التوحيد في الملة الآخرة.

ما (هذا إلا اختلق) أي: افتعال وكذب.

ثم أنكروا أن يختص (عليه السلام) بشرف النبوة من بين رؤسائهم، وينزل عليه الكتاب دونهم (بل هم في شك من) القرآن المنزل، ووصفهم له بالاختلاق مخالف لاعتقادهم فيه، وإنما يقولونه على سبيل الحسد (بل) لم (يذوقوا) عذابي بعد، فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد. (8)

﴿أم عندهم خزآبن رحمة ربك العزيز الوهاب (9) أم لهم ملك السموات والارض وما بينهما فليرتقوا في الاسبب (10) جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب (11) كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد (12) وثمود وقوم لوط وأصحب ليكة أولئك الاحزاب (13) إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب (14) وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق (15) وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب (16)﴾

أي: ليس (عندهم خزآئن) الرحمة، وما بأيديهم مفاتيح النبوة فيضعوها حيث شاؤوا ويختاروا لها من شاؤوا.

(أم لهم ملك السموت والأرض) حتى يتكلموا في التدابير الربانية والأمور الإلهية التي يختص بها رب العزة.

ثم تهكم بهم سبحانه فقال: فإن كان إليهم تدبير الخلائق وعندهم الحكمة التي بها يعرفون من هو أحق بالنبوة (فليرتقوا في الأسبب) فليصعدوا في معارج السماء وطرقها التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا (9) عليه، ويدبروا أمر العالم، وينزلوا الوحي إلى من يختارونه.

ثم أخبر عن حاله (10) وما لهم فقال: (جند ما هنالك) يريد: ما لهم إلا جند من الكفار المتحزبين على الله (11) (مهزوم) مكسور عما قريب فلا تبال بهم، و " ما " مزيدة، وفيها معنى الاستعظام، كما في قول امرئ القيس: وحديث ما على قصره (12) إلا أنه على سبيل الهزء، و (هنالك) إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم، كما يقول لمن ينتدب لأمر ليس من أهله: لست هنالك، وقيل: إشارة إلى مصارعهم، وجاء تأويله يوم بدر (13).

(ذو الأوتاد) مستعار لثبات ملكه، كما قال الأسود: ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة * في ظل ملك ثابت الأوتاد (14) وقيل: كان يعذب الناس بالأوتاد (15).

(أولئك الأحزاب) وقصد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم، وأنهم الذين وجد منهم التكذيب، وذكر تكذيبهم على وجه الإبهام في الجملة الخبرية، ثم أوضح ذلك في الجملة الاستثنائية، بأن كل واحد من الأحزاب (كذب) جميع (الرسل) لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوا جميعهم (فحق عقاب) أي: فوجب لذلك أن أعاقبهم حق عقابهم.

(وما ينظر) أي: وما ينتظر هؤلاء، يعني كفار مكة (إلا صيحة وحدة) ما لتلك الصيحة (من فواق) قرئ بفتح الفاء وضمها (16)، أي: ما لها من توقف مقدار فواق، وهو ما بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع، يعني: إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا المقدار من الوقت، وعن ابن عباس: ما لها من رجوع وترداد (17)، من أفاق المريض: إذا رجع إلى الصحة، وفواق الناقة: ساعة يرجع الدر إلى ضرعها، يريد: أنها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد.

(عجل لنا قطنا) أي: نصيبنا من العذاب الذي وعدته، أو: عجل لنا صحيفة أعمالنا ننظر فيها، والقط: القسط من الشيء، لأنه قطعة منه، من قطه: إذا قطعه، ولذلك قيل لصحيفة الجائزة: قط؛ لأنها قطعة من القرطاس.

﴿اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب (17) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق (18) والطير محشورة كل له أواب (19) وشددنا ملكه وءاتينه الحكمة وفصل الخطاب (20) * وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب (21) إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنآ إلى سوآء الصراط (22) إن هذآ أخي له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة وا حدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب (23) قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ى وإن كثيرا من الخلطآء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين ءامنوا وعملوا الصلحت وقليل ما هم وظن داوود أنما فتنه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب (24) فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن ماب (25)﴾

(ذا الأيد) ذا القوة على العبادة، المضطلع بأعباء النبوة، وقيل: ذا القوة على الأعداء (18)، لأنه رمى بحجر من مقلاعه صدر الرجل فأنفذه من ظهره فأصاب آخر فقتله، يقال: فلان أيد وذو أيد وذو آد، وأياد كل شيء: ما يتقوى به (إنه أواب) تواب رجاع عن كل ما يكره الله إلى ما يحب، وقيل: مسبح مطيع (19).

(يسبحن) حال، واختير على " مسبحات " وإن كان في معناه ليدل على حدوث التسبيح من الجبال حالا بعد حال.

وكان داود إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه الطير فسبحت، فذلك حشرها: كل واحد من الجبال والطير (له) لأجل داود، اي: لأجل تسبيحه؛ لأنها كانت تسبح بتسبيحه وضع " الأواب " موضع " المسبح " إما لأنها كانت ترجع التسبيح، والمرجع: رجاع لأنه يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع، وإما لأن " الأواب " وهو التواب يكثر الرجوع إلى مرضاة الله ويديم تسبيحه وذكره، وقيل: الضمير في (له) " لله " أي: كل من داود والجبال والطير لله مسبح يرجع التسبيح (20).

(وشددنا ملكه) قويناه (وءاتينه الحكمة) وهي الزبور وعلم الشرائع، وقيل: كل كلام وافق الحق فهو حكمة (21)، و (فصل الخطاب) فصل بمعنى: مفصول ك? " ضرب الأمير "، وهو الكلام البين الملخص الذي تبينه من يخاطب به ولا يلتبس عليه، أو بمعنى: " فاصل " ك? " صوم " و " زور "، أي: الفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد، وهو كلامه في القضايا والحكومات وتدابير الملك.

وعن علي (عليه السلام): هو قوله: " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " (22)، وهو من الفصل بين الحق والباطل، ويدخل فيه قول بعضهم: هو قوله: " أما بعد ".

(وهل أتك نبؤا الخصم) ظاهره الاستفهام، ومعناه: الدلالة على أنه من الأنباء العجيبة التي حقها أن لا تخفى، والخصم: الخصماء، وهو يقع على الواحد والجمع كالضيف؛ لأنه مصدر في الأصل، أي: فريقان خصيمان، ومثله قوله: (هذان خصمان اختصموا) (23)، وانتصب (إذ) بمحذوف تقديره: وهل آتاك نبأ تحاكم الخصم حين (تسوروا المحراب) أي: تصعدوا سوره ونزلوا إليه، والسور: الحائط المرتفع، ونظيره: " تسنمه " إذا علا سنامه، و " تفزعه " إذا فزعه.

(إذ دخلوا) بدل من (إذ) الأولى، (خصمان) خبر مبتدأ محذوف أي: نحن خصمان (ولا تشطط) أي: ولا تجر، قال: ألا يا لقومي قد أشطت عواذلي (24) (أخي) بدل من (هذآ) أو خبر لـ (إن)، والمراد أخوة الدين أو أخوة الصداقة والألفة والخلطة (أكفلنيها) وملكنيها، وحقيقته: اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي (وعزني) أي: غلبني في مخاطبة الحجاج والجدال، أو أراد: خطبت المرأة وخطبها هو، فخاطبني خطابا أي: غالبني في الخطبة فغلبني حيث زوجها دوني، وعلى هذا فيكون " النعجة " مستعارة من المرأة، كما استعير لها " الشاة " في نحو قوله: يا شاة ما قنص لمن حلت له * حرمت علي وليتها لم تحرم (25) (لقد ظلمك) جواب قسم محذوف، و " سؤال " مصدر مضاف إلى المفعول، كقوله: من دعاء الخير، وقد ضمن معنى الإضافة فعدي تعديتها، كأنه قال: " بإضافة نعجتك إلى نعاجه " على وجه السؤال والطلب.

وما في قوله: (وقليل ما هم) الإبهام، وفيه تعجب من قلتهم (وظن داوود) لما كان غلبة الظن كالعلم استعيرت له، أي: وعلم داود وأيقن (أنما فتنه) أي: اختبرناه وابتليناه لا محالة بامرأة أوريا، قيل: إن أهل زمان داود كانوا قد اعتادوا أن ينزل بعضهم لبعض عن امرأته إذا أعجبته، فاتفق أن عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له: أوريا فأعجبته، فسأله النزول له عنها، فاستحيا أن يرده ففعل، فتزوجها، فقيل له: إنك على (26) ارتفاع منزلتك وكثرة نسائك لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة النزول عنها (27).

وقيل: خطبها أوريا ثم خطبها داود فآثره أهلها (28).

وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنه قال: " لا أوتى برجل يزعم أن داود تزوج امرأة أوريا إلا جلدته حدين: حدا للنبوة وحدا للإسلام " (29).

وروي: أن التحاكم كان بين ملكين (30)، وقيل: كانا من الإنس، وكانت الخصومة على الحقيقة بينهما: إما كانا خليطين في الغنم، وإما كان أحدهما موسرا وله نسوان كثيرة من السراري والمهائر، والثاني معسرا ماله إلا امرأة واحدة فاستنزله عنها (31)، وإنما فزع لدخولهما عليه في غير وقت الحكومة أن يكونا مغتالين، وإنما عوتب على عجلته في الحكم قبل تثبت، وكان من حقه حين سمع الدعوى من أحدهما أن يسأل الآخر عنده فيها.

وعن مجاهد: مكث ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لصلاة مكتوبة، أو لحاجة لابد منها (32)، وقد يعبر عن السجود بالركوع.

﴿يداوود إنا جعلنك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26) وما خلقنا السمآء والأرض وما بينهما بطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار (27) أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصلحت كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (28) كتب أنزلنه إليك مبرك ليدبروا ءايته ى وليتذكر أولوا الالبب (29)﴾

أي: (جعلنك خليفة) ممن كان قبلك من الأنبياء، أو: استخلفناك على الملك في الأرض (بما نسوا) أي: بنسيانهم (يوم الحساب)، أو: لهم عذاب يوم القيامة بسبب نسيانهم، وهو ضلالهم عن سبيل الله.

(بطلا) أي: خلقا باطلا لا لغرض صحيح وحكمة بالغة، أو: مبطلين عابثين ذوي باطل، أو وضع (بطلا) موضع " عبثا "، كما وضع " هنيئا " موضع المصدر وهو صفة، أي: وما خلقناهما وما بينهما للعبث ولكن للحق المبين، وهو أنا خلقنا نفوسا أودعناها العقل والتمييز، وعرضنا للمنافع العظيمة، بالتكليف، وأعددنا لها الجزاء على حسب أعمالها (ذلك) إشارة إلى خلقها باطلا، والظن بمعنى المظنون، أي: خلقها للعبث لا للحكمة، والغرض الصحيح مظنون (الذين كفروا)، ولما كان إنكارهم للبعث مؤديا إلى أن خلقها عبث جعلوا كأنهم يظنون ذلك، لأن الجزاء هو الذي ساق إليه الحكمة في خلق العالم، فمن أنكره فقد أنكر الحكمة، ومن أنكر الحكمة في خلق العالم فقد أظهر أنه لا يقدره حق قدره.

(أم) منقطعة، ومعنى الاستفهام فيها الإنكار، والمعنى: أنه لو بطل الجزاء لاستوت عند الله حال الصالح والطالح، والمحسن والمسيء، ومن سوى بينهم لم يكن حكيما.

وقرئ: " لتدبروا ? (33) على الخطاب، وتدبر الآيات: التفكر فيها والاتعاظ بمواعظها، والمبارك: الكثير النفع والخير.

﴿ووهبنا لداوود سليمن نعم العبد إنه أواب (30) إذ عرض عليه بالعشي الصفنت الجياد (31) فقال إنى أحببت حب الخير عن ذكر ربى حتى توارت بالحجاب (32) ردوها على فطفق مسحا بالسوق والأعناق (33) ولقد فتنا سليمن وألقينا على كرسيهى جسدا ثم أناب (34) قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغى لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب (35) فسخرنا له الريح تجرى بأمره ى رخآء حيث أصاب (36) والشيطين كل بنآء وغواص (37) وءاخرين مقرنين في الأصفاد (38) هذا عطآؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب (39) وإن له عندنا لزلفى وحسن ماب (40)﴾

أي: (نعم العبد) هو المخصوص بالمدح محذوف، وعلل كونه ممدوحا بكونه أوابا رجاعا إلى الله عز اسمه في أموره، أو مؤوبا مرجعا لتسبيحه وتقديسه لأن كل مؤوب أواب، و (الصفنت): الخيل القائمة على ثلاث قوائم، الواضعة طرف السنبك الرابع على الأرض (الجياد) السريعة المشي، الواسعة الخطو، جمع سبحانه بين وصفيها المحمودين واقفة وجارية، وضمن (أحببت) معنى فعل متعد ب? " عن "، فكأنه قال: أنبت حب الخير عن ذكر ربي أو: جعلت حب الخير مغنيا عن ذكر ربي، والخير: المال كما في قوله: (وإنه لحب الخير لشديد) (34) وقوله: (إن ترك خيرا) (35).

والمال هنا: الخيل التي شغلته، وسمى الخيل خيرا كأنها نفس الخير لتعلق الخير بها، كقوله (عليه السلام): " الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة " (36).

وقال (عليه السلام) في زيد الخيل حين وفد عليه وأسلم: " أنت زيد الخير " (37).

(حتى توارت بالحجاب) الضمير للشمس أي: غربت، وهو مجاز عن تواري الملك بحجابه، ويدل عليه مرور ذكر " العشي "، ولا بد للمضمر من جري ذكر أو دليل ذكر، وقيل: الضمير لـ (الصفنت) أي: حتى توارت بحجاب الليل يعني: الظلام (38).

(فطفق مسحا) أي: فجعل يمسح مسحا، أي: يمسح بالسيف سوقها وأعناقها يعني: يقطعها، يقال: مسح علاوته: إذا ضرب عنقه، ومسح المسفر الكتاب إذا قطع أطرافه بسيفه، وقيل: مسحها بيده استحسانا لها وإعجابا بها ثم جعلها مسبلة في سبيل الله (39)؛ والسوق: جمع الساق، كأسد في جمع الأسد، واتصل قوله: (ردوها على) بمحذوف تقديره: " قال: ردوها علي "، فأضمر ما هو جواب له، كأن قائلا قال: فماذا قال سليمان؟لأنه موضع مقتض للسؤال اقتضاء ظاهرا، وهو اشتغال نبي الله بأمر الدنيا حتى تفوته الصلاة عن وقتها.

وقيل: إنما ذبحها تقربا إلى الله تعالى ليتصدق بلحومها (40)، وقيل: معناه: أنه سأل الله تعالى أن يرد الشمس عليه فردها عليه حتى صلى العصر، والهاء في (ردوها) للشمس (41).

(فتنا سليمن) اختبرناه وشددنا المحنة عليه، واختلف في الجسد الذي ألقي على كرسيه، فقيل: إنه قال ذات يوم: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تلد كل امرأة منهن غلاما، يضرب بالسيف في سبيل الله، ولم يقل إن شاء الله، فطاف عليهن فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة وجاءت بشق ولد، فهو الجسد الذي ألقي على كرسيه (42).

وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال " والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا " (43)، (ثم أناب) إلى الله وفزع إلى الصلاة والدعاء على وجه الانقطاع إلى الله سبحانه، وقيل: إنه ولد له ابن فاسترضعه في المزن - وهو السحاب - إشفاقا عليه من كيد الشيطان، فلم يشعر إلا وقد وضع على كرسيه ميتا، تنبيها له على أن الحذر لا ينفع من القدر (44).

قدم الاستغفار على استيهاب الملك جريا على عادة الأنبياء في تقديم أمر الدين على أمور الدنيا (ملكا لا ينبغى) أي: لا يتكون ولا يتسهل، ومعنى (من بعدي): دوني، طلب من ربه سبحانه ملكا زائدا على الممالك، زيادة تبلغ حد الإعجاز، ليكون دليلا على صحة نبوته، فذلك معنى قوله: (لا ينبغى لأحد من بعدي)، وقيل: كان ملكا عظيما فخاف أن يعطى غيره مثله فلا يحافظ على حدود الله فيه، كما قالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها) (45) (46).

(رخآء) أي: لينة طيبة لا تزعزع (47)، وقيل: مطيعة له (48) (تجرى) إلى حيث يشاء، وقوله: (حيث أصاب) معناه: حيث قصد وأراد.

و (الشيطين) عطف على (الريح)، و (كل بناء) بدل من (الشيطين) (وءاخرين) عطف على (كل) داخل في حكم البدل، وهو بدل الكل من الكل.

كانوا يبنون له ما يشاء من الأبنية الرفيعة، ويغوصون له في البحر على اللالئ والجواهر، فيستخرجون ما شاء منها، وهو أول من استخرج الدر من البحر، وكان يقرن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والأغلال، ويجمع بين اثنين وثلاثة منهم في سلسلة يؤدبهم إذا تمردوا، والصفد: القيد، وسمي به العطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه، وفرقوا بين الفعلين فقالوا: صفده: قيده، وأصفده: أعطاه.

هذا الذي أعطيناك من الملك والبسط (عطآؤنا.

بغير حساب) أي: جما كثيرا لا يقدر على حسبه وحصره، أو: لا يحاسب يوم القيامة على ما تعطي وتمنع، (فامنن) فأعط منه ما شئت من المنة وهي العطاء (أو أمسك) مفوضا إليك التصرف فيه، أو: فامنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق وأمسك من شئت منهم في الوثاق (بغير حساب) لا حساب عليك في ذلك.

(وإن له عندنا) النعمة الباقية في الآخرة، وهي الزلفة والقربى وحسن المآب.

﴿واذكر عبدنآ أيوب إذ نادى ربه أنى مسني الشيطن بنصب وعذاب (41) اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب (42) ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الالبب (43) وخذ بيدك ضغثا فاضرب بهى ولا تحنث إنا وجدنه صابرا نعم العبد إنه أواب (44)﴾

(أيوب) عطف بيان، و (إذ) بدل الاشتمال منه، (أنى) أي: بأني (مسني) حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه، ولو لم يحك لقال: بأنه مسه، وقرئ: (بنصب) بضم النون، وبفتح النون والصاد (49)، وضمها (50)، والنصب والنصب: التعب والمشقة، كالرشد والرشد، والنصب: تثقيل " نصب "، والعذاب الأليم يريد مرضه وما كان يقاس فيه من أنواع الوصب.

وقيل: النصب: الضر في البدن، والعذاب: في ذهاب الأهل والمال (51)، وإنما نسبه إلى الشيطان لما كان يوسوس به إليه من تعظيم ما نزل به من البلاء ويغريه على الجزع، فالتجأ إلى الله سبحانه في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء.

(اركض برجلك) على تقدير القول، أي: قلنا له: ادفع برجلك الأرض هذا ما تغتسل به (52) وتشرب منه فيبرأ باطنك وظاهرك، وقيل: إنه نبعت عينان فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى، فذهب الداء من ظاهره وباطنه بإذن الله (53).

(رحمة منا وذكرى) مفعول لهما، والمعنى: أن الهبة كانت للرحمة له ولتذكير أولي الألباب، لأنهم إذا سمعوا بذلك رغبوا في الصبر على البلاء.

(وخذ) معطوف على (اركض)، (ضغثا) هو ملء الكف من الشماريخ (54)، وذلك أنه حلف على امرأته لقول أنكره منها لئن عوفي ليضربنها مائة جلدة، فاضربها دفعة واحدة (ولا تحنث) في يمينك (إنا وجدنه) علمناه (صابرا) على البلاء الذي ابتليناه به.

﴿واذكر عبدنآ إبراهيم وإسحق ويعقوب أولى الأيدي والأبصر (45) إنآ أخلصنهم بخالصة ذكرى الدار (46) وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار (47) واذكر إسمعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار (48) هذا ذكر وإن للمتقين لحسن ماب (49) جنت عدن مفتحة لهم الأبواب (50) متكين فيها يدعون فيها بفكهة كثيرة وشراب (51) وعندهم قصرات الطرف أتراب (52) هذا ما توعدون ليوم الحساب (53) إن هذا لرزقنا ماله من نفاد (54)﴾

(إبرهيم وإسحق ويعقوب) عطف بيان لـ (عبدنآ) ومن قرأ " عبدنا ? (55) جعل (إبرهيم) وحده عطف بيان، وعطف (إسحق ويعقوب) على " عبدنا "، (أولى الأيدي والأبصر) أولي الأعمال الدينية والفكر العلمية، كان الذين لا يعملون أعمال الآخرة ولا يتفكرون أفكار ذوي الديانات في حكم الزمنى، الذين لا يقدرون على إعمال جوارحهم، والمسلوبي العقول الذين لا استبصار بهم، والأبصار: جمع البصر وهو العقل.

(إنآ أخلصنهم) جعلناهم لنا خالصين (بخالصة) بخصلة خالصة لا شوب فيها، ثم فسرها بـ (ذكرى الدار) شهادة لذكرى الدار بالخلوص والصفاء، وأن الكدورة منتفية عنها.

وقرئ: " بخالصة ذكرى " على الإضافة (56)، والمعنى: بما خلص من ذكرى الدار، على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بهم آخر، إنما همهم ذكرى الدار لا غير، ومعنى (ذكرى الدار): ذكرهم الآخرة دائما ونسيانهم إليها ذكر الدنيا، أو: تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها وتزهيدهم في الدنيا كما هو شأن الأنبياء، وقيل: ذكرى الدار: الثناء الجميل في الدنيا، ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم (57) والمعنى: أخلصناهم بسبب هذه الخصلة وبأنهم من أهلها، أو: أخلصناهم بتوفيقهم لها.

(لمن المصطفين) أي: المختارين من بين أبناء جنسهم (الأخيار) جمع خير أو خير على التخفيف، كأموات في جمع " ميت " أو " ميت ".

(واليسع) كان حرف التعريف دخل على " يسع "، وقرئ: " والليسع ? (58) كان حرف التعريف دخل على " اليسع " فيعل من " اللسع "، والتنوين في (وكل) عوض عن المضاف إليه، أي: وكلهم من الأخيار.

(هذا ذكر) أي: نوع من الذكر وهو القرآن، ولما أجرى ذكر الأنبياء وأتمه قال: (هذا ذكر) كما يقال: هذا باب، ثم ذكر عقيبه الجنة وأهلها فقال: (وإن للمتقين لحسن مآب) أي: حسن منقلب ومرجع، ولما أتم ذكر الجنة وأراد أن يعقبه بذكر أهل النار قال: (هذا وإن للطغين لشر مآب)، وقيل: معناه: هذا ذكر جميل وشرف يذكرون به أبدا (59).

وعن ابن عباس: هذا ذكر من مضى من الأنبياء (60).

(جنت عدن) معرفة كقوله: (جنت عدن التي وعد الرحمن عباده) (61)، وهي عطف بيان لـ (حسن مآب)، و (مفتحة) حال، والعامل فيها ما في (للمتقين) من معنى الفعل، وفي (مفتحة) ضمير " الجنات "، و (الأبواب) بدل من الضمير تقديره: مفتحة هي الأبواب كقولهم: ضرب زيد اليد والرجل، وهو من بدل الاشتمال.

(أتراب) جمع ترب، كأنهن سمين أترابا لأن التراب مسهن في وقت واحد، وإنما جعلن على سن واحدة لأن التحاب بين الأقران أثبت، وقيل: هن أتراب لأزواجهن أسنانهن كأسنانهم (62).

وقرئ: (توعدون) بالتاء والياء (63) (ليوم الحساب) لأجل يوم الحساب، كما يقال: هذا ما تدخرونه ليوم الحساب، أي: ليوم تجزى كل نفس بما كسبت (إن هذا) الذي ذكرنا (لرزقنا) أي: عطاؤنا الجاري المتصل (ما له من نفاد) أي: فناء وانقطاع.

﴿هذا وإن للطغين لشر ماب (55) جهنم يصلونها فبئس المهاد (56) هذا فليذوقوه حميم وغساق (57) وءاخر من شكله ى أزواج (58) هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار (59) قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار (60) قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار (61) وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار (62) أتخذنهم سخريا أم زاغت عنهم ا لابصر (63) إن ذا لك لحق تخاصم أهل النار (64) قل إنمآ أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار (65) رب السموات والارض وما بينهما العزيز الغفر (66)﴾

أي: الأمر هذا، أو: هذا كما ذكر إن للذين طغوا على الله (لشر مآب)، (جهنم) عطف بيان له (فبئس المهاد) شبه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم.

أي: (هذا) حميم فليذوقوه، أو: العذاب هذا فليذوقوه ثم ابتدأ فقال: هو (حميم وغساق)، أو: ليذوقوا هذا (فليذوقوه) مثل قوله: (فإياى فارهبون) (64)، وقرئ: (وغساق) بالتشديد والتخفيف (65) حيث كان، وهو ما يغسق من صديد أهل النار أي: يسيل، يقال: غسقت العين إذا سالت دموعها، ويقال: الحميم يحرق بحره والغساق يحرق ببرده.

" وأخر ? (66) أي: ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق، أي: مثله في الفظاعة والشدة، (أزوج) أي: أجناس، وقرئ: (وآخر) أي: وعذاب آخر أو مذوق آخر، و (أزوج) صفة لـ (ءاخر) لأنه يجوز أن يكون ضروبا أو صفة للثلاثة وهي: (حميم) و (غساق) و (آخر من شكله).

(هذا فوج مقتحم معكم) هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار، أي: دخل النار في صحبتكم، وهو حكاية كلام الطاغين بعضهم لبعض أي: يقولون هذا، والمراد بالفوج: أتباعهم الذين اقتحموا معهم الضلالة، فيقتحمون معهم النار (لا مرحبا بهم) دعاء منهم على أتباعهم، أي: لا نالوا رحبا وسعة (إنهم) لازموا (النار) فيقول الأتباع: (بل أنتم) لا اتسعت لكم أماكنكم، أنتم حملتمونا على ما أوجب لنا النار، والضمير في (قدمتموه) للعذاب، تقول لمن تدعو له: مرحبا، أي: أتيت رحبا من البلاد لا ضيقا، أو: رحبت بلادك رحبا، ثم تدخل عليه " لا " في دعاء السوء، و (بهم) بيان للمدعو عليهم.

قال الأتباع أيضا: (ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا) أي: مضاعفا، ومعناه: ذا ضعف، وهو أن يزيد على عذابه ضعفه أي: مثله فيصير ضعفين كقوله: (ربنا ءاتهم ضعفين من العذاب) (67).

(لا نرى رجالا) يعنون فقراء المؤمنين الذين لا يؤبه بهم (من الأشرار) الذين لا خير فيهم، ولأنهم كانوا على خلاف دينهم فعدوهم أشرارا.

وعن الباقر (عليه السلام): " يعنونكم، لا يرون والله واحدا منكم في النار ".

(أتخذنهم سخريا) قرئ بلفظ الإخبار (68) على أنه صفة لـ (رجالا)، وبهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في الاستسخار منهم، وقوله: (أم زاغت عنهم الأبصر) فيه وجهان: أحدهما: أن يتصل بقوله: (ما لنا) أي: ما لنا لا نراهم في النار كأنهم ليسوا فيها، بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها، والثاني: أن يتصل بـ (أتخذنهم سخريا) ويكون (أم) متصلة بمعنى: أي الفعلين فعلنا بهم: الاستسخار منهم أم تحقيرهم وازدراءهم، وأن أبصارنا كانت تحتقرهم على معنى: إنكار الأمرين على أنفسهم، أو منقطعة بعد مضي (أتخذنهم سخريا) على الخبر أو على الاستفهام، كما يقول: إنها الإبل أم شاة، و: أزيد عندك أم عندك عمرو.

ويجوز أيضا أن تقدر همزة الاستفهام محذوفة فيمن قرأ بغير الهمزة؛ لأن " أم " تدل عليها، فلا تفترق القراءتان في المعنى.

(إن ذلك) الذي حكينا عنهم (لحق) لابد أن يتكلموا به، ثم بين بقوله: (تخاصم أهل النار) شبه ما يجري بينهم من التقاول بما يجري بين المتخاصمين فسماه تخاصما.

﴿قل هو نبؤا عظيم (67) أنتم عنه معرضون (68) ما كان لي من علم بالملا الاعلى إذ يختصمون (69) إن يوحى إلى إلا أنمآ أنا نذير مبين (70) إذ قال ربك للملئكة إنى خلق بشرا من طين (71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له سجدين (72) فسجد الملئكة كلهم أجمعون (73) إلا إبليس استكبر وكان من الكفرين (74) قال يإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين (75) قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (76) قال فاخرج منها فإنك رجيم (77) وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين (78) قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون (79) قال فإنك من المنظرين (80) إلى يوم الوقت المعلوم (81) قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين (83) قال فالحق والحق أقول (84) لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين (85) قل مآ أسلكم عليه من أجر ومآ أنا من المتكلفين (86) إن هو إلا ذكر للعلمين (87) ولتعلمن نبأه بعد حين (88)﴾

أي: هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولا وأن الله واحد وأمر القيامة نبأ عظيم لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة، وقيل: النبأ العظيم هو القرآن (69).

(ما كان لي من علم) بكلام (الملا الأعلى) وقت اختصامهم.

و (إذ قال) بدل من (إذ يختصمون).

و (الملا الأعلى) هم أصحاب القصة المذكورة بعد: عن الملائكة وآدم وإبليس، لأنهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم.

قرئ: " إنما ? (70) بالكسر على الحكاية، أي: ما (يوحى إلى إلا) هذا القول، وهو أن أقول لكم: (إلا أنمآ أنا نذير مبين)، وقرئ: (أنما) بالفتح أي: لأنما، ومعناه: ما يوحى إلي إلا للإنذار، فحذف اللام فوصل الفعل، ويجوز أن يكون مرفوع الموضع، أي: ما يوحى إلي إلا هذا القول، وهو أن أنذر وأبلغ ولا أفرط في ذلك.

(لما خلقت بيدي) لما توليت خلقه بنفسي من غير واسطة، وذلك أن الإنسان لما كان يباشر أكثر أعماله بيده غلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي بغيرها حتى قالوا في عمل القلب: هذا مما عملت يداك، وقالوا لمن لا يدين له: " يداك أوكتا وفوك نفخ " (71)، ومنه قوله تعالى: (مما عملت أيدينا) (72) (ولما خلقت بيدي).

وقيل: إن العرب تطلق لفظة " اليدين " للقدرة والقوة (73)، كما قال الشاعر: تحملت من عفراء ما ليس لي به * ولا للجبال الراسيات يدان (74) (أستكبرت) أو رفعت نفسك فوق قدرها أم كنت من الذين علت أقدارهم عن السجود؟(فاخرج منها) من الجنة، وقيل: من السموات (75)، وقيل: من الخلقة التي افتخرت بها فاسود وأظلم بعد أن كان أبيض نورانيا (76).

وقرئ: (فالحق) بالرفع والنصب (77)، فالرفع على أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي: فأنا الحق، أو مبتدأ محذوف الخبر أي: فالحق قسمي، والنصب على أنه مقسم به والتقدير: الحق لأملأن، نحو: الله لأفعلن (الحق أقول) اعتراض بين المقسم به والمقسم عليه، والمراد بالحق: إما اسمه جل وعز الذي في قوله: (أن الله هو الحق المبين) (78) أو: الحق الذي هو نقيض الباطل عظمه الله سبحانه بإقسامه به.

(منك) أي: من جنسك وهم الشياطين (وممن تبعك منهم) من ذرية آدم، والمعنى: (لأملأن جهنم) من المتبوعين والتابعين (أجمعين).

(مآ أسئلكم عليه) أي: على القرآن (من أجر) تعطونيه (ومآ أنا من المتكلفين) من الذي يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله.

وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم " (79).

وما (هو) يعني القرآن (إلا ذكر) للخلق أجمعين.

(ولتعلمن) خبر صدقه وحقيقة حقه، (بعد) الموت، أو بعد ظهور أمر الدين وفشو الإسلام.

1- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 109 مرسلا.

2- ثواب الأعمال للصدوق: ص 139 وزاد: " حتى خادمه الذي يخدمه وإن لم يكن في حد عياله ولا في حد من يشفع فيه ".

3- رواه البيهقي في دلائل النبوة: ج 2 ص 187.

4- قاله البغوي في تفسيره: ج 4 ص 49.

5- في نسخة: " يستولوا ".

6- في نسخة: " حالهم ".

7- في نسخة: " رسول الله ".

8- وصدره: وحديث الركب يوم هنا. والبيت من قصيدة له، يقول: إن اليوم الذي تحدثوا فيه وسروا به كان قصيرا لأن يوم السرور قصير بعكس يوم الكدر فهو طويل. انظر ديوان امرئ القيس: ص 103.

9- قاله قتادة. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 80.

10- للأسود بن يعفر الأيادي يندب قوما عاشوا ونعموا ثم صاروا إلى البلى والفناء، فكأنه يقول: لا أتمنى شيئا من الدنيا بعدهم. أنظر أمالي المرتضى: ج 1 ص 35.

11- قاله أنس والسدي. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 556.

12- وبالضم قرأه حمزة والكسائي. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 643.

13- تفسير ابن عباس: ص 381.

|

14- قاله مجاهد. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 83.

15- قاله ابن زيد والسدي. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 562.

16- قاله الجبائي. راجع التبيان: ج 8 ص 550.

17- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 80.

18- رواه عنه (عليه السلام) الزمخشري في الكشاف.

19- الحج: 19.

20- وعجزه: ويزعمن أن أودى بحقي باطلي. والبيت منسوب للأحوص. انظر الكامل للمبرد: ج 1 ص 109.

21- البيت لعنترة بن شداد من معلقته المشهورة أنظر ديوان عنترة: ص 17.

22- في بعض النسخ: " مع " بدل " على ".

23- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 80.

24- حكاه الزمخشري في الكشاف: ص 81.

25- رواه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 555، والماوردي البصري في تفسيره: ج 5 ص 89 باختلاف فيهما.

26- وهو المشهور بين جمهور المفسرين، وفي العيون: ج 1 ص 154 ح 1 عن الرضا (عليه السلام).

27- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 88.

28- حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 574.

29- وهي قراءة عاصم برواية أبي بكر عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 553.

30- العاديات: 8.

31- البقرة: 180.

32- أخرجه أحمد في مسنده: ج 2 ص 13 و 28، ومالك في موطئه: ج 2 ص 467 بالاسناد عن ابن عمر.

33- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 92. وزيد هذا هو زيد بن مهلهل بن يزيد الطائي من الشعراء الفرسان المخضرمين قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الأناة والحلم " أصابته الحمى فمات في أثرها. أنظر الأغاني لأبي فرج الإصفهاني: ج 6 ص 46 وما بعده.

34- حكاه ابن عيسى كما في تفسير الماوردي: ج 5 ص 93.

35- قاله ابن عباس. راجع التبيان: ج 8 ص 561.

36- قاله الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 92.

37- وهو قول البغوي في تفسيره: ج 4 ص 61.

38- قاله أنس. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 96.

39- أخرجه مسلم في صحيحه: ج 3 ص 1275 ح 1654 وما بعده، والنسائي في سننه: ج 7 ص 25 عن أبي هريرة مرفوعا.

40- قاله الشعبي كما في تفسير الماوردي: ج 5 ص 96.

41- البقرة: 30.

42- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 95.

43- زعزع الشيء: إذا حركه ليقلعه. (لسان العرب: مادة زعع).

44- قاله ابن عباس في تفسيره: ص 382.

45- قرأه عاصم الجحدري والسدي ويعقوب بن إسحاق. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 130.

46- أي: " بنصب " بضمتين، وهي قراءة أبي جعفر المدني والحسن. راجع المصدر السابق.

47- قاله السدي. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 101.

48- في نسخة: " هذا ماء تغتسل به ".

49- قاله الحسن البصري وقتادة. راجع التبيان: ج 8 ص 568.

50- الشماريخ: جمع الشمراخ وهو العثكول والعثكال: وهو ما عليه البسر من عيدان الكباسة، وهو في النخل بمنزلة العنقود في العنب، (الصحاح: مادتي عثكل وشمرخ) وفي الفارسية: خوشه خرما.

51- قرأه ابن كثير. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 554.

52- وهي قراءة نافع وحده. راجع المصدر السابق.

53- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 99.

54- أي بلامين الأولى ساكنة والثانية مفتوحة مشددة مع إسكان الياء، قرأه حمزة والكسائي. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 404.

55- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 100.

56- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف المتقدم.

57- مريم: 61.

58- قاله ابن عيسى. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 106.

59- وبالياء قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع التذكرة في القراءات: ج 2 ص 644.

60- النحل: 51.

61- وبالتخفيف قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 555.

62- الظاهر أن المصنف هنا اعتمد على قراءات ضم الهمزة من غير مد تبعا للزمخشري في الكشاف، وهي قراءة أبي عمرو وحده وفي رواية عن ابن كثير. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 555.

63- الأحزاب: 68.

64- قرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 556.

65- قاله مجاهد والسدي. راجع التبيان: ج 8 ص 579.

66- وهي قراءة أبي جعفر المدني. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 131.

67- وأصله: أن رجلا أراد أن يعبر بحرا على زق قد نفخ فيه فلم يحسن إحكامه حتى إذا توسط البحر انحل وكاؤه وخرجت منه الريح فغرق، فاستغاث فقيل له ذلك، ويضرب لمن يجني على نفسه. أنظر مجمع الأمثال للميداني: ج 2 ص 378.

68- يس: 71.

69- وهو قول علي بن عاصم. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 111.

70- لعروة بن حزام. والبيت واضح المعنى، وفي النسخ: " زلفاء " والصحيح ما أثبتناه. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 111.

71- قاله الحسن البصري. راجع التبيان: ج 8 ص 584.

72- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 107.

73- وبالنصب قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 557.

74- النور: 25.

75- أخرجه البيهقي في شعب الايمان: ج 4 ص 157 ح 4647، والصدوق في الخصال: ص 121 عن أبي عبد الله (عليه السلام).

76- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 3: وتسمى أيضا سورة الغرف، وهي مكية في قول مجاهد وقتادة والحسن، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، عدد آياتها خمس وسبعون آية في الكوفي، وثلاث وسبعون شامي، وسبعون حجازي وبصري. وفي الكشاف: ج 4 ص 110: مكية إلا قوله: (قل يا عبادي الذين أسرفوا) الآية، وتسمى سورة الغرف، وهي خمس وسبعون آية، وقيل: ثنتان وسبعون آية، نزلت بعد سورة سبأ.

77- الآية: 11.

78- الآية: 14.

79- الآية: 36.