سورة الزخرف

مكية (1)، وقيل: إلا آيات، وروي أن قوله: (وسئل من أرسلنا) (2) نزلت ببيت المقدس (3)، وقيل: إن قوله: (فإما نذهبن بك) (4) الآيات نزلت في حجة الوداع (5).

تسع وثمانون آية (حم) كوفي، (هو مهين) (6) بصري.

وفي حديث أبي: " من قرأ سورة الزخرف كان ممن يقال له يوم القيامة: (يعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) " (7).

وعن الباقر (عليه السلام): " من أدمن قراءة حم الزخرف آمنه الله في قبره من هوام الأرض، ومن ضمة القبر " (8).

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿حم (1) والكتب المبين (2) إنا جعلنه قرءا نا عربيا لعلكم تعقلون (3) وإنه في أم الكتب لدينا لعلى حكيم (4) أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين (5) وكم أرسلنا من نبى في الأولين (6) وما يأتيهم من نبى إلا كانوا به ى يستهزءون (7) فأهلكنآ أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين (8) ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن خلقهن العزيز العليم (9) الذي جعل لكم الارض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون (10)﴾

(الكتب المبين) القرآن، وهو البين للذين أنزل عليهم، لأنه بلغتهم، وقيل: الذي أبان طريق الهدى وما تحتاج إليه الأمة من الحرام والحلال وشرائع الإسلام (9).

و (إنا جعلنه) جواب القسم، وهو بمعنى " صيرناه " فتعدى إلى مفعولين، أو تعدى إلى مفعول واحد على معنى " خلقناه "، و (قرءنا عربيا) حال، و " لعل " مستعار بمعنى الإرادة لتلاحظ معناها ومعنى (10) الترجي، أي: خلقناه عربيا غير عجمي إرادة أن تعقله العرب، ولئلا يقولوا: (لولا فصلت ءايته) (11).

وقرئ: " إم الكتاب " بكسر الهمزة (12) وهو اللوح، كقوله: (بل هو قرءان مجيد في لوح محفوظ) (13) سمي بأم الكتاب لأنه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب، منه تنقل وتستنسخ (لعلى) أي: عال رفيع الشأن في الكتب لكونه معجزا من بينها، (حكيم) ذو حكمة بالغة، أي: منزلته عندنا منزلة كتاب هما صفتاه، وهو مثبت في أم الكتاب هكذا.

(أفنضرب عنكم الذكر) أي: أفننحي (14) عنكم الذكر ونذوده عنكم على سبيل المجاز، من قولهم: " ضرب الغرائب عن الحوض ? (15) والفاء للعطف على محذوف تقديره: أنهملكم فنضرب عنكم الذكر (صفحا) على وجهين: إما مصدر من: صفح عنه إذا أعرض، انتصب على أنه مفعول له على معنى: أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة إعراضا عنكم، وإما بمعنى الجانب فانتصب على الظرف كما تقول: فلان يمشي جانبا (أن كنتم) لان كنتم.

وقرئ " إن كنتم ? (16) وإنما استقام معنى الشرط وقد كانوا (مسرفين) على القطع، لأنه من الشرط الذي يصدر عن المدل أي: المظهر بصحة الأمر المتحقق لثبوته، كما يقول الأجير: إن كنت عملت لك فوفني حقي، وهو عالم بذلك ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق فعل من له شك في الاستحقاق مع وضوحه استجهالا له.

(وما يأتيهم) حكاية حال ماضية مستمرة، وهي تسلية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن استهزاء قومه.

الضمير في (أشد منهم) للمسرفين، لأنه صرف الخطاب عنهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخبره عنهم (ومضى مثل الأولين) أي: سلف في القرآن في مواضع منه ذكر قصتهم التي سارت مسير المثل، وهذا وعد لرسول الله ووعيد لهم.

(ليقولن خلقهن العزيز العليم) لينسبن خلقها إلى الله العزيز، وليسندنه إليه.

﴿والذي نزل من السمآء مآء بقدر فأنشرنا به ى بلدة ميتا كذا لك تخرجون (11) والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والانعم ما تركبون (12) لتستووا على ظهوره ى ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحن الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين (13) وإنآ إلى ربنا لمنقلبون (14) وجعلوا له من عباده ى جزءا إن الانسن لكفور مبين (15) أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين (16) وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم (17) أومن ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين (18) وجعلوا الملئكة الذين هم عبد الرحمن إنثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهدتهم ويسلون (19) وقالوا لو شآء الرحمن ما عبدنهم مالهم بذا لك من علم إن هم إلا يخرصون (20)﴾

(بقدر) بمقدار الحاجة ولم يكن طوفانا يضر بالبلاد والعباد.

و (الازوج): الأصناف و (ما تركبون) أي: تركبونه في البر والبحر، يقال: ركبوا الأنعام وركبوا في الفلك، فغلب المتعدي بغير واسطة لقوته على المتعدي بواسطة وإن كان الجنسان مذكورين.

(لتستووا على ظهوره) أي: على ظهور ما تركبونه، و (تذكروا نعمة ربكم) عليكم، وهو أن تعترفوا بها في قلوبكم مستعظمين لها، ثم تحمدوه عليها بألسنتكم.

وهو ما روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا استوى على بعيره خارجا في سفر كبر ثلاثا وقال: (سبحن الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون) اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى والعمل بما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال، وإذا رجع قال: آيبون تائبون لربنا حامدون (17).

وعن الصادق (عليه السلام) قال: " ذكر النعمة أن تقول: الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا القرآن، ومن علينا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتقول بعده: (سبحن الذي سخر لنا هذا) إلى آخره " (18).

(مقرنين) أي: مطيقين، وحقيقة " أقرنه ": وجده قرينته وما يقرن به؛ لأن الصعب لا يقرن بالضعيف، ولما كان الركوب مباشرة أمر ذي خطر، فمن حق الراكب أن لا ينسى انقلابه إلى الله، ولا يدع ذكر ذلك حتى يكون مستعدا للقاء الله.

(وجعلوا له من عباده جزءا) متصل بقوله: (ولئن سألتهم) أي: إن سألتهم عن الخالق اعترفوا به، وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزءا بأن قالوا: الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزءا له وبعضا منه، كما يكون الولد بضعة من والده، فوصفوه بصفة المخلوقين (إن الإنسن لكفور) جحود النعمة (مبين) ظاهر جحوده؛ لأن نسبة الولد إليه كفر، والكفر أصل الكفران كله.

(أم اتخذ) بل اتخذ، الهمزة للإنكار تجهيلا لهم وتعجيبا من نشأتهم (19) حيث لم يرضوا بأن جعلوا لله من عباده جزءا، حتى جعلوا ذلك الجزء أدون الجزأين، وهو الإناث دون الذكور، على أنهم أمقت خلق الله للإناث حتى أنهم كانوا يئدونهن.

(وإذا بشر أحدهم) بالجنس الذي جعله الله (مثلا) أي: شبها، لأنه إذا جعل الملائكة جزءا له وبعضا منه فقد جعله من جنسه ومماثلا له، لأن الولد إنما يكون من جنس الوالد (ظل وجهه مسودا) غيظا وأسفا (وهو كظيم) مملوء من الكرب.

ثم قال: (أو) يجعل للرحمن من الولد من هذه صفته وهو أنه (ينشؤا في الحلية) أي: يتربى في الزينة والنعمة، وهو إذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم ومخاصمة الرجال كان (غير مبين) ليس عنده بيان، ولا يأتي ببرهان يحج به من خاصمه، وذلك لضعف عقول النساء.

وقرئ: " عند الرحمن ? (20) وهو مثل لاختصاصهم وزلفاهم و (عبد الرحمن) وقرئ: " ينشأ ? (21) و (ينشؤا)، ومعنى (جعلوا) سموا وقالوا: إنهم إناث، وقرئ " أأشهدوا " بهمزتين مفتوحة ومضمومة (22)، و " آأشهدوا " بألف بين الهمزتين (23)، وهذا تهكم بهم، يعني: أنهم كانوا يقولون ذلك بغير علم ودليل، فلم يبق إلا أن يشاهدوا (خلقهم) فأخبروا عن المشاهدة (ستكتب شهادتهم) التي شهدوا بها على الملائكة (ويسئلون) وهذا وعيد.

(وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدنهم) هما نوعان من الكفر: عبادتهم الملائكة، وزعمهم أن عبادتهم بمشيئة الله كما قال إخوانهم المجبرة، ثم كذبهم سبحانه بقوله: (إن هم إلا يخرصون) أي: يكذبون.

﴿أم ءاتينهم كتبا من قبله ى فهم به ى مستمسكون (21) بل قالوا إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا على ءاثرهم مهتدون (22) وكذا لك مآ أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا على ءاثرهم مقتدون (23) قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه ءابآءكم قالوا إنا بمآ أرسلتم به ى كفرون (24) فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عقبة المكذبين (25) وإذ قال إبرا هيم لأبيه وقومه ى إننى برآء مما تعبدون (26) إلا الذي فطرنى فإنه سيهدين (27) وجعلها كلمة باقية في عقبه ى لعلهم يرجعون (28) بل متعت هؤلاء وءابآءهم حتى جآءهم الحق ورسول مبين (29) ولما جآءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به ى كفرون (30)﴾

أي: أهذا شيء يخرصونه (أم ءاتينهم كتبا) قبل هذا الكتاب نسبنا فيه الكفر إلينا فهم (مستمسكون) به، بل لا حجة لهم يستمسكون بها إلا قولهم: (إنا وجدنا ءابآءنا على أمة) أي: دين وملة وطريقة (وإنا على ءاثرهم مهتدون) خبران ل? " إن " أو الظرف صلة (مهتدون).

و (مترفوهآ): الذين أترفتهم النعمة، أي: أبطرتهم فآثروا الترفه على طلب الحجة، وعافوا مشاق التكليف، وكل فريق يقلد أسلافه.

وقرئ " قل ? (24) و (قال) أي: قال لهم النذير، و " قل " حكاية لما أوحي إلى النذير، أي: قل لهم (أولو جئتكم)، وقرئ: " جئناكم " (25)، أي: أتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟(قالوا إنا) ثابتون على دين آبائنا وإن جئتنا بما هو أهدى.

(برآء) يستوي فيه الواحد والاثنان والجماعة، والمذكر والمؤنث؛ لأنه مصدر، يقال: نحن البراء منك والخلاء منك.

(الذي فطرنى) يجوز أن يكون منصوبا على أنه استثناء منقطع، كأنه قال: لكن الذي فطرني وأنشأني فإنه (سيهدين)، وأن يكون مجرورا بدلا من المجرور ب? " من " كأنه قال: إني براء مما تعبدون إلا من الذي فطرني.

وعن قتادة: كانوا يقولون: الله ربنا مع عبادتهم الأصنام (26)، ويجوز أن يكون " ما " موصوفة في (ما تعبدون)، و (إلا) صفة بمعنى " غير "، ويكون التقدير: إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني.

(وجعلها) أي: جعل إبراهيم كلمة التوحيد التي تكلم بها (كلمة باقية في عقبه) في ذريته، فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده، وقيل: وجعلها الله (27).

وعن الصادق (عليه السلام): " الكلمة الباقية في عقبه هي الإمامة إلى يوم القيامة " (28).

وعن السدي: هم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (29).

(لعلهم يرجعون) لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم.

(بل متعت هؤلاء) يعني: أهل مكة وهم من عقب إبراهيم بالمد في العمر والنعمة، فاغتروا بالمهلة، وشغلوا باتباع الشهوات عن كلمة التوحيد (حتى جاءهم الحق) وهو القرآن (ورسول مبين) الرسالة واضحها بما معه من المعجزات، فكذبوه وسموه ساحرا وما جاء به سحرا.

﴿وقالوا لولا نزل هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم (31) أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحيوة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجت ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون (32) ولولا أن يكون الناس أمة وا حدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون (33) ولبيوتهم أبوا با وسررا عليها يتكون (34) وزخرفا وإن كل ذا لك لما متع الحيوة الدنيا والأخرة عند ربك للمتقين (35) ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطنا فهو له قرين (36) وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون (37) حتى إذا جآءنا قال يليت بينى وبينك بعد المشرقين فبئس القرين (38) ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون (39) أفأنت تسمع الصم أو تهدى العمى ومن كان في ضلل مبين (40)﴾

القريتان: مكة والطائف (من القريتين) من إحدى القريتين، وقيل: من رجلي القريتين وهما: الوليد بن المغيرة من مكة، وحبيب بن عمرو الثقفي من الطائف عن ابن عباس (30)، والوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي عن قتادة (31)، وأراد بعظم الرجل رئاسته في الدنيا.

(أهم يقسمون رحمت ربك) الهمزة للإنكار والتعجب من اعتراضهم وتحكمهم، أي: أهم المدبرون لأمر النبوة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بها، والمتولون لقسمة رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بحكمته، ثم ضرب لهم مثلا فأعلم أنهم عاجزون عن تدبير مصالحهم في دنياهم، وأنه سبحانه قسم بينهم معيشتهم وقدرها، وفضل بعضهم على بعض فيها فجعل منهم أغنياء ومحاويج، وأقوياء وضعفاء، ليستخدم (بعضهم بعضا) وليسخروهم في أشغالهم حتى يصلوا إلى منافعهم، ولم يولهم ذلك التدبير ولم يفوضه إليهم مع قلة خطره، فكيف يكون اختيار النبوة إليهم مع جلالة قدرها وعظم خطرها وكونها رحمة الله الكبرى؟ثم قال: (ورحمت ربك) يريد: وهذه الرحمة التي هي دين الله وما يتبعه من الفوز والثواب (خير مما) يجمع هؤلاء من حطام الدنيا.

ثم أخبر سبحانه عن هوان الدنيا وقلة خطرها عنده فقال: (ولولا أن يكون الناس أمة وحدة) أي: لولا كراهة أن يجتمعوا على الكفر (لجعلنا) للكفار سقوفا ومصاعد، و (أبوبا وسررا) من فضة (و) جعلنا لهم (زخرفا) أي: زينة من كل شيء، والزخرف: الذهب والزينة.

ويجوز أن يكون الأصل: " سقفا من فضة وزخرف " يعني: بعضها من فضة وبعضها من ذهب، فنصب (زخرفا) عطفا على محل (من فضة).

وقوله: (لبيوتهم) بدل اشتمال من قوله: (لمن يكفر) وقرئ: " سقفا " بفتح السين وسكون القاف (32)، و (سقفا) بضمهما، جمع سقف ك? " رهن " و " رهن "، و (معارج) جمع معرج، أو: اسم جمع لمعراج وهي المصاعد إلى العلالي، (عليها يظهرون) أي: على المعارج، يظهرون السطوح: يعلونها كما في قوله: (فما اسطعوا أن يظهروه) (33) وقرئ (لما) بالتخفيف (34) والتشديد، فالتخفيف على أن اللام هي المفارقة بين النفي والإثبات، و (إن) هي المخففة من الثقيلة و " ما " مزيدة، والتشديد على أن (لما) بمعنى " إلا "، و (إن) هي النافية.

يقال: عشا يعشو: إذا نظر نظر المعشي ولا آفة به، وعشى يعشي: إذا حصلت الآفة في بصره، أي: من يتعام (عن ذكر الرحمن) فيعرف أنه حق ويتجاهل (نقيض له شيطنا) نخذله ونخل بينه وبين الشياطين، كقوله: (وقيضنا لهم قرناء) (35)، (ألم تر أنا أرسلنا الشيطين) (36).

وقرئ " يقيض " بالياء (37)، وجمع ضمير " من " وضمير " الشيطان " في قوله: (وإنهم ليصدونهم) لأن " من " مبهم في جنس العاشي وقد قيض له شيطان مبهم في جنسه، فلما جاز أن يتناولا لإبهامهما غير واحدين جاز أن يرجع الضمير إليهما مجموعا.

(حتى إذا جآءنا) العاشي، وقرئ " جاءانا ? (38) على أن الفعل له ولشيطانه، قال لشيطانه: (يا ليت بينى وبينك بعد المشرقين) يريد: المشرق والمغرب، فغلب، كما قيل: " القمران " للقمر والشمس، قال: أخذنا بآفاق السماء عليكم * لنا قمراها والنجوم الطوالع (39) وبعدهما: تباعدهما، الأصل: بعد المشرق من المغرب، والمغرب من المشرق.

(أنكم) في موضع رفع، أي: (لن ينفعكم) كونكم مشتركين (في العذاب)، (إذ ظلمتم) معناه: إذا صح ظلمكم وتبين.

(أفأنت تسمع) إنكار تعجيب، والمراد: أنت لا تقدر على إكراههم على الإيمان.

﴿فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون (41) أو نرينك الذي وعدنهم فإنا عليهم مقتدرون (42) فاستمسك بالذي أوحى إليك إنك على صرا ط مستقيم (43) وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسلون (44) وسل من أرسلنا من قبلك من رسلنآ أجعلنا من دون الرحمن ءالهة يعبدون (45)﴾

" ما " في قوله (فإما نذهبن) بمنزلة لام القسم في أنها (40) إذا دخلت معها النون الثقيلة، والمعنى: إن قبضناك وتوفيناك (فإنا.

منتقمون) منهم بعدك.

وعن الحسن وقتادة: أن الله أكرم نبيه بأن لم يره تلك النقمة، وقد كان ذلك بعده (41).

وقد روي أنه (عليه السلام) أري ما تلقى أمته بعده، فما زال منقبضا ولم ينبسط ضاحكا حتى قبض (42).

وروى جابر بن عبد الله قال: إني لأدناهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع بمنى حين قال: " لا ألفينكم، ترجعون بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، وأيم الله لئن فعلتموها لتعرفنني في الكتيبة التي تضاربكم " ثم التفت إلى خلفه فقال: " أو علي أو علي " ثلاث مرات، فرأينا أن جبرائيل (عليه السلام) غمزه فأنزل الله تعالى على أثر ذلك: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون) بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) " (43).

وإن أردنا أن نريك ما وعدناهم من العذاب فإنهم تحت قدرتنا لا يفوتوننا، وقيل: إنه (عليه السلام) رأى نقمة الله منهم يوم بدر بأن أسر منهم وقتل (44).

(فاستمسك) أي: تمسك بما أوحينا (إليك) والعمل به (إنك على صرط مستقيم) لا يحيد عنه إلا ضال.

(وإنه) وإن الذي أوحي إليك (لذكر لك) لشرف لك (ولقومك) لقريش أو للعرب، يختص بذلك الشرف الأقرب منهم فالأقرب، ولـ (سوف تسئلون) يوم القيامة عن قيامكم بحقه، وشكركم على أن رزقتموه وخصصتم به من بين العالمين.

والمراد بسؤال الرسل النظر في أديانهم والفحص عنها: هل جاءت عبادة الأوثان قط في شيء من مللهم؟وهذا كما قيل: سل الأرض من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟فإنها إن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا، وقيل: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع له الأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس فأمهم، وقيل له: سلهم، فلم يشكك ولم يسأل (45).

﴿ولقد أرسلنا موسى بايتنآ إلى فرعون وملايه فقال إنى رسول رب العلمين (46) فلما جآءهم بايتنآ إذا هم منها يضحكون (47) وما نريهم من ءاية إلا هى أكبر من أختها وأخذنهم بالعذاب لعلهم يرجعون (48) وقالوا يأيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون (49) فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون (50) ونادى فرعون في قومه ى قال يقوم أليس لى ملك مصر وهذه ى الانهر تجرى من تحتى أفلا تبصرون (51) أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين (52) فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جآء معه الملئكة مقترنين (53) فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فسقين (54) فلمآ ءاسفونا انتقمنا منهم فأغرقنهم أجمعين (55) فجعلنهم سلفا ومثلا للاخرين (56)﴾

ما أجابوه به عند قوله: (إنى رسول رب العلمين) محذوف دل عليه قوله: (فلما جاءهم بآيتنا) وهو مطالبتهم إياه بالدلالة على دعواه، وأجيب (لما) بـ (إذا) المفاجأة، لأن فعل المفاجأة معها مقدر، وهو عامل النصب في محلها، كأنه قال: فلما جاءهم بآياتنا فاجؤوا وقت ضحكهم.

(وما نريهم من ءاية) من آياته المترادفة عليهم من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس (إلا هى أكبر من أختها) التي قبلها (لعلهم يرجعون) أي: إرادة أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان.

(بما عهد عندك) أي: بعهده عندك من النبوة، وأن دعوتك مستجابة، أو: بما عهد عندك من كشف العذاب عمن اهتدى، وقولهم: (إننا لمهتدون) وعد قد نووا خلافه، فما كانت تسميتهم إياه بالساحر بمنافية لقولهم: (إننا لمهتدون).

(ونادى فرعون في قومه) جعلهم محلا لندائه، والمعنى: أنه أمر بالنداء في محافلهم من نادى فيها بذلك، فأسند النداء إليه، كقولك: قطع الأمير اللص: إذا أمر بقطعه (وهذه الأنهر) من النيل وغيره (تجرى من) تحت أمري، مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون (الأنهر) عطفا على (ملك مصر) و (تجرى) نصب على الحال منها.

(أم أنا خير): " أم " هذه متصلة، لأن المعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون، إلا أنه وضع قوله: (أنا خير) موضع (تبصرون) لأنهم إذا قالوا له: أنت خير فهم عنده بصراء، ويجوز أن تكون منقطعة على معنى: بل أنا خير، والهمزة للتقرير والمعنى: أثبت عندكم واستقر أني أنا خير مع أني على هذه الحالة (من هذا الذي هو مهين) أي: ضعيف حقير (ولا يكاد يبين) الكلام؛ لما به من الرتة (46).

وعن الحسن: كانت العقدة زالت عن لسانه كما قال: (واحلل عقدة من لسانى) وإنما عيره بما كان في لسانه قبل النبوة (47).

وقرئ: " أساورة ? (48) وهي جمع أسوار على تعويض التاء من ياء " أساوير "، و " أسورة " جمع " سوار " (مقترنين) به، من قولك: قرنته به فاقترن به، أو: من قولك: اقترنوا بمعنى " تقارنوا ".

(فاستخف قومه) فاستفزهم، وحقيقته: حملهم على أن يخفوا له ولما أراده منهم، وكذلك " استفزه " فإن الفز هو الخفيف.

(فلما ءاسفونا) أي: أغضبونا، وغضبه سبحانه على العصاة هو إرادة عقابهم، وقيل: معناه: آسفوا رسلنا (49)، لأن في الأسف معنى الحزن (50).

وقرئ: (سلفا) جمع سالف، و " سلفا ? (51) جمع سليف، أي: جعلناهم قدوة لمن أتى بعدهم من الكفار يقتدون بهم في استحقاق مثل عقابهم لإتيانهم بمثل أفعالهم (ومثلا) أي: حديثا عجيب الشأن، سائرا مسير المثل، يشبه غيرهم بهم.

﴿ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون (57) وقالوا ءأالهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون (58) إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلنه مثلا لبنى إسراءيل (59) ولو نشآء لجعلنا منكم ملئكة في الأرض يخلفون (60) وإنه لعلم للساعة فلا تمترون بها واتبعون هذا صراط مستقيم (61) ولا يصدنكم الشيطن إنه لكم عدو مبين (62) ولما جآء عيسى بالبينت قال قد جئتكم بالحكمة ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون (63) إن الله هو ربى وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (64) فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم (65)﴾

قرئ: (يصدون) بضم الصاد (52) وكسرها، واختلفوا في معنى الآية على وجوه: أحدها: أنه لما نزل قوله: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) (53) قالوا: ألست تزعم أن عيسى نبي؟وقد علمت أن النصارى يعبدونه، وعزير يعبد، والملائكة يعبدون، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا في النار معهم!! والمعنى: ولما ضربوا عيسى بن مريم مثلا بعبادة النصارى إياه إذا قريش من هذا المثل (يصدون) بالكسر، أي: يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحا وجدلا وضحكا، وبالضم من الصدود أي: يصدون عن الحق ويعرضون عنه من أجل هذا المثل، وقيل: من الصديد وهو الجلبة (54)، وهما لغتان (وقالوا ءألهتنا خير أم هو) أي: ليست آلهتنا عندك خيرا من عيسى، فإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا هينا!! ما ضربوا هذا المثل لك إلا لأجل الجدل والغلبة في القول لا لطلب المعرفة (بل هم قوم خصمون) دأبهم الخصومة (55) واللجاج.

وذلك أن قوله: (إنكم وما تعبدون) (56) ما أريد به إلا الأصنام، ومحال أن يقصد به الأنبياء والملائكة.

وثانيها: أنهم لما سمعوا أن مثل عيسى عند الله كمثل آدم، قالوا: نحن أهدى من النصارى؛ لأنهم عبدوا آدميا ونحن نعبد الملائكة، فنزلت (57).

فعلى هذا يكون في قولهم: (ءألهتنا خير أم هو) تفضيل آلهتهم على عيسى!! وما قالوا هذا القول إلا للجدل، أو يكون (جدلا) حالا بمعنى: جدلين.

وثالثها: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما مدح المسيح وأمه قالوا: ما يريد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا إلا أن نعبده كما عبدت النصارى المسيح (58).

ومعنى (يصدون): يضجرون ويضجون، والضمير في (أم هو) لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وغرضهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم السخرية والاستهزاء.

والمروي عن أهل البيت (عليهم السلام): أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: جئت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما فوجدته في ملأ من قريش، فنظر إلي ثم قال: " يا علي، إنما مثلك في هذه الأمة كمثل عيسى بن مريم، أحبه قوم وأفرطوا في حبه فهلكوا، وأبغضه قوم وأفرطوا في بغضه فهلكوا، واقتصد فيه قوم فنجوا " فعظم ذلك عليهم وضحكوا، فنزلت الآية (59).

(إن هو إلا عبد) أي: ما عيسى إلا عبد كسائر العبيد (أنعمنا عليه) حيث (جعلنه) آية بأن خلقناه من غير سبب كما خلقنا آدم، وشرفناه بالنبوة، وصيرناه عبرة (60) عجيبة كالمثل السائر (لبنى إسرءيل).

(ولو نشاء) لقدرتنا على عجائب الأمور (لجعلنا منكم) أي: لولدنا منكم يا رجال (ملائكة) يخلفونكم (في الأرض) كما يخلفكم أولادكم، كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل، أو: لجعلنا بدلا منكم يا بني آدم ملائكة يخلفونكم في الأرض ويكون (منكم) في الآية مثل ما في قول الشاعر: فليت لنا من ماء زمزم شربة * مبردة باتت على الطهيان (61) أو: لجعلناكم أيها البشر ملائكة، فيكون (منكم) من باب التجريد، ويكون فيه إشارة إلى قدرته على تغيير بنية البشر إلى بنية الملائكة.

(وإنه) وإن عيسى (لعلم للساعة) أي: شرط من أشراطها تعلم به، فسمي الشرط علما لحصول العلم به، وقرأ ابن عباس: " وإنه لعلم ? (62) أي: علامة وأمارة (فلا تمترن بها) فلا تشكوا فيها ولا تكذبوا بها.

وفي الحديث: " أن عيسى (عليه السلام) ينزل على ثنية بالأرض المقدسة يقال لها: أفيق، وعليه ممصرتان، وشعر رأسه دهين، وبيده حربة وبها يقتل الدجال، فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة الصبح والإمام (عليه السلام) يؤم بهم، فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم يقتل الخنازير، ويكسر الصليب، ويخرب البيع والكنائس، ويقتل النصارى إلا من آمن به " كذا وجدته في الكشاف (63).

وعن الحسن: أن الضمير للقرآن وبه تعلم الساعة لأن فيه الإعلام بها (64)، (واتبعون) هو أمر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقوله، أي: واتبعوا شرعي وهداي، أو: معناه: واتبعوا رسولي.

(ولما جاء عيسى بالبينات) أي: بالمعجزات الدالة على نبوته (ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه) وهو ما احتاجوا إليه من أمور الدين وما تعبدوا بمعرفته دون ما اختلفوا فيه من أمور الدنيا، و (الأحزاب): الفرق المتحزبة بعد عيسى.

﴿هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون (66) الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين (67) يعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون (68) الذين ءامنوا بايتنا وكانوا مسلمين (69) ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون (70) يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خلدون (71) وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون (72) لكم فيها فكهة كثيرة منها تأكلون (73) إن المجرمين في عذاب جهنم خلدون (74) لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون (75) وما ظلمنهم ولكن كانوا هم الظلمين (76) ونادوا يملك ليقض علينا ربك قال إنكم مكثون (77) لقد جئنكم بالحق ولكن أكثركم للحق كرهون (78) أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون (79) أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون (80)﴾

(أن تأتيهم) بدل من (الساعة)، (بغتة) أي: فجأة (وهم لا يشعرون) معناه: وهم غافلون لاشتغالهم بأمور دنياهم.

(يومئذ) ينتصب بـ (عدو) أي: ينقطع في ذلك اليوم كل خلة فينقلب عداوة إلا خلة (المتقين) المتخالين في الله، فإنها الخلة الباقية تزداد وتتأكد.

(الذين ءامنوا) منصوب الموضع صفة لـ (عبد) لأنه منادى مضاف (وكانوا مسلمين) مستسلمين لأمرنا خاضعين منقادين، جاعلين نفوسهم سالمة لطاعتنا.

(أنتم وأزوجكم) اللاتي كن مؤمنات مثلكم (تحبرون) أي: تسرون سرورا، يظهر حباره - أي: أثره - على وجوهكم، كقوله: (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) (65).

والصحاف: القصاع، والأكواب: الكيزان لا عرى لها، وقيل: هي الآنية المستديرة الرؤوس (66)، وفيها الضمير لـ (الجنة)، وقرئ " ما تشتهي ? (67) و (ما تشتهيه) وهذا حصر لأنواع النعم، لأنها: إما مشتهاة في القلوب، وإما مستلذة في العيون.

(وتلك) إشارة إلى الجنة المذكورة، وهي مبتدأ و (الجنة) خبر، و (التي أورثتموها) صفة لـ (الجنة)، أو: (الجنة) صفة لـ (تلك) و (التي أورثتموها) خبر، و (بما كنتم تعملون) خبر المبتدأ والباء يتعلق بمحذوف، وفي الوجه الأول يتعلق بـ (أورثتموها) وشبهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة.

(منها تأكلون): " من " للتبعيض، أي: لا تأكلون إلا بعضها.

وفي الحديث: " لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا ثبت مكانها مثلها " (68).

(مبلسون) آيسون من كل خير.

وروي عن علي (عليه السلام) وابن مسعود: " يا مال " بحذف الكاف للترخيم (69)، أي: (يملك) سل (ربك) أن يقضي علينا أي: يميتنا لنتخلص ونستريح مما بنا، فيقول مالك: (إنكم مكثون) لابثون دائمون.

(لقد جئنكم بالحق) هو كلام مالك، وإنما قال: " جئناكم " لأنه من الملائكة، وقيل: إنه كلام الله عز وجل (70)، وعلى هذا فيكون في (قال) ضميرا " لله "، لما سألوا مالكا أن يسأل الله القضاء عليهم أجابهم الله بذلك.

(أم) منقطعة أي: بل أبرموا، أي: أأحكم الملأ من قريش (أمرا) أي: كيدا في الخلاف عن أمرك (فإنا مبرمون) كيدنا كما أبرموا كيدهم والسر: ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال، و النجوى: ما تكلموا به فيما بينهم، وقيل: السر: ما يضمر الإنسان في نفسه، والنجوى: ما يحدث به غيره في الخفية (بلى) نسمعهما ونطلع عليهما (ورسلنا) الحفظة مع ذلك عندهم (يكتبون) ما يكيدونه ويبيتونه.

وقد روي عنهم (عليهم السلام) السبب في نزول الآيتين (71).

﴿قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العبدين (81) سبحن رب السموات والارض رب العرش عما يصفون (82) فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون (83) وهو الذي في السمآء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم (84) وتبارك الذي له ملك السموات والارض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون (85) ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون (86) ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون (87) وقيله ى يرب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون (88) فاصفح عنهم وقل سلم فسوف يعلمون (89)﴾

(إن كان للرحمن ولد) إن صح ذلك وثبت ببرهان صحيح (فأنا أول) من يعظم ذلك الولد ويطيعه كما يعظم الرجل الولد الملك لتعظيم أبيه، وهو وارد على سبيل الفرض والتقدير للمبالغة في نفي الولد لأنه تعليق للعبادة بكينونة الولد، وهو محال، فالمعلق به محال مثله، فهو في صورة الإثبات والمراد النفي على أبلغ الوجوه، وقيل: معناه: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين الموحدين لله المكذبين قولكم (72)، وقيل: فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد أو من عبادته، لأن من كان له ولد لا يكون إلا محدثا جسما غير مستحق للعبادة، من: عبد يعبد: إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد (73).

وقيل: هي " إن " النافية، أي: ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لله (74).

ثم نزه نفسه عما يصفونه من اتخاذ الولد.

التقدير: وهو الذي هو في السماء إله وفي الأرض إله، ف? (إله) خبر المبتدأ العائد إلى الموصول، وهو اسم ضمن معنى الوصف، فلذلك علق به الظرف في قوله: (في السمآء.

وفي الأرض) كما يقول: " هو حاتم في طي وحاتم في تغلب " على تضمين معنى الجواد الذي هو مشهور به، ومثله قوله: (وهو الله في السموت وفي الأرض) (75) فكأنك قلت: هو المعبود أو المالك أو نحو ذلك، وحذف " هو " العائد لطول الكلام بالصلة كقولهم: ما أنا بالذي قائل لك شيئا، وزاده طولا هاهنا أن المعطوف داخل في حيز الصلة.

(ولا يملك) آلهتهم (الذين) يدعونهم من دون الله (الشفعة) كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله لكن (من شهد بالحق) وهو توحيد الله، وهو يعلم ما يشهد به عن بصيرة وإخلاص هو الذي يملك الشفاعة، وهو استثناء منقطع، ويجوز أن يكون متصلا لأن في جملة: " الذين يدعون من دون الله " الملائكة، وقرئ: " تدعون " بالتاء (76).

(وقيله) قرئ بالنصب (77) والجر، وعن مجاهد: بالرفع والنصب (78) للعطف على موضع (الساعة)، والجر على اللفظ، أي: " وعنده علم الساعة وقيله " كما تقول: عجبت من ضرب زيد وعمروا أو عمرو، والمعنى: يعلم الساعة ومن يصدق بها ويعلم قيله (79)، لأن " الساعة " ليست بظرف وإنما هي مفعول بها، والرفع للعطف أيضا على تقدير حذف المضاف أي: وعلم قيله، أو: على الابتداء والخبر محذوف والتقدير: وقيله يا رب مسموع ومتقبل، أو: وقيله قيل يا رب، وحمل الأخفش النصب على (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم) وقيله (80)، وعنه أيضا أنه على تأويل: " وقال قيله " (81).

وقال جار الله: الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه، والرفع على قولهم: أيمن الله، ولعمرك، ويكون قوله: (إن هؤلاء قوم لا يؤمنون) جواب القسم، فكأنه قال: وأقسم بقيله يا رب، أو: قيله يا رب قسمي (إن هؤلآء قوم لا يؤمنون) (82).

(فاصفح) أي: أعرض عنهم بصفحة وجهك (وقل) لهم (سلم) أي: تسلم منكم ومتاركة (فسوف يعلمون) وعيد، وقرئ بالتاء (83) أيضا.


1- قاله مقاتل. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 214.

2- لعله: " أو معنى ".

3- فصلت: 44.

4- قرأه الأخوان (حمزة والكسائي). راجع العنوان في القراءات السبع لابن خلف: ص 171.

5- البروج: 21 و 22.

6- في نسخة: " أفنحمي ".

7- في المجمع: " ضربه ضرب غرائب الإبل " وذلك أن الغريبة تزدحم على الحياض عند الورود، وصاحب الحوض يطردها ويضربها بسبب إبله. والمثل يضرب في دفع الظالم عن ظلمه بأشد ما يمكن. راجع مجمع الأمثال: ج 1 ص 432.

8- قرأه نافع وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 584.

9- أخرجه مسلم في صحيحه: ج 2 ص 978 ح 1342 عن ابن عمر.

10- رواه العياشي كما في تفسير البرهان للبحراني: ج 4 ص 147 ح 5.

11- في بعض النسخ: " شأنهم ".

12- قرأه ابن كثير ونافع وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 585.

13- قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر. راجع المصدر السابق.

14- وهي قراءة نافع وعاصم برواية المفضل. راجع المصدر السابق نفسه، وفي شواذ القرآن لابن خالويه: ص 135 نسبها إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).

15- وهي قراءة المسيبي عن نافع. راجع كتاب السبعة السابق.

16- قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 585.

17- قرأه أبي وأبو جعفر وأبو شيخ الهنائي. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 136.

18- حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 193.

19- قاله ابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 179.

20- معاني الأخبار للصدوق: ص 131 - 132.

21- حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 194، والماوردي في تفسيره: ج 5 ص 222.

22- تفسير ابن عباس: ص 413.

23- حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 195.

24- قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 585.

25- الكهف: 97.

26- قرأه نافع وابن كثير والكسائي وأبو عمرو وابن عامر برواية ابن ذكوان. راجع كتاب السبعة: ص 586.

27- فصلت: 25.

28- مريم: 83.

29- وهي قراءة علي (عليه السلام) والسلمي وعاصم برواية حماد والأعمش. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 136.

30- أي بألف بعد الهمزة على التثنية، وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 586.

31- البيت للفرزدق من قصيدة يفخر بقومه ويذم جريرا. راجع ديوان الفرزدق: ج 2 ص 73.

32- كذا في النسخ، والظاهر: إذا دخلت دخلت معها النون، كما في الكشاف ج 4 ص 254.

33- حكاه عنهما الطبري في تفسيره: ج 11 ص 190.

34- رواه أنس، أخرجه الحاكم في مستدركه: ج 2 ص 447.

35- أمالي الشيخ الطوسي: ج 2 ص 116 - 117، شواهد التنزيل للحسكاني: ج 2 ص 216 ح 851، المناقب لابن المغازلي الشافعي: ص 274 ح 321.

36- قاله ابن عباس في تفسيره: ص 414.

37- قاله ابن عباس وابن زيد. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 228.

38- الرتة: عجلة في الكلام وقلة أناة، وقيل: هو أن يقلب اللام ياء، وقيل: هي العجمة في الكلام والحكلة فيه، (لسان العرب: مادة رتت).

39- حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 9 ص 208، والآية من سورة طه: 27.

40- وهي قراءة الجمهور من السبعة إلا حفصا. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 587.

41- حكاه الماوردي في تفسيره: ج 5 ص 232.

42- قال الخليل: الأسف: الحزن في حال، والغضب في حال، فإذا جاءك أمر ممن هو دونك فأنت أسف أي: غضبان، وإذا جاءك ممن فوقك أو من مثلك فأنت أسف أي: حزين. انظر كتاب العين: مادة " أسف ".

43- قرأه حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 587. (

|

44- وهي قراءة نافع وابن عامر والكسائي. راجع المصدر السابق.

45- الأنبياء: 98.

46- وهو قول الجوهري في الصحاح: مادة " صدد ".

47- في نسخة: " الخصومة والجدال ".

48- الأنبياء: 98.

49- أسباب النزول للواحدي: ص 317 ح 783.

50- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 260.

51- تفسير فرات الكوفي: ص 151.

52- في بعض النسخ: " غير ".

53- البيت ليعلى بن مسلم الأحول الأزدي من شعراء الدولة الأموية، من قصيدة نظمها وهو محبوس بمكة عند نافع بن علقمة في خلافة عبد الملك بن مروان، وقيل: البيت لعمرو بن أبي عمارة الأزدي، وقيل غير ذلك. راجع خزانة الأدب: ج 5 ص 277 - 278 و ج 9 ص 453.

54- بفتح العين واللام. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 136 وزاد: أبو هريرة وقتادة والضحاك وجماعة.

55- الكشاف: ج 4 ص 261. وكذا أورده مرسلا البغوي في تفسيره: ج 4 ص 144، والبيضاوي في أنوار التنزيل: ج 2 ص 370 ط مصر.

56- تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 275.

57- المطففين: 24.

58- قاله مجاهد. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 238.

59- قرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 589.

60- أخرجه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 146.

61- شواذ القرآن لابن خالويه: ص 137، وزاد: والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

62- قاله الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 265.

63- وهو ما رواه الكليني في أصول الكافي: ص 420 ح 43 بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وفي الروضة: ص 179 ح 202 بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) أيضا.

64- قاله مجاهد. راجع التبيان: ج 9 ص 219.

65- قاله الكسائي وابن قتيبة. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 241.

66- وهو قول ابن زيد وابن أسلم وقتادة. راجع التبيان: ج 9 ص 219.

67- الأنعام: 3.

68- وهي قراءة علي (عليه السلام) والسلمي كما في شواذ القرآن لابن خالويه: ص 137.

69- قرأه ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 589.

70- نسب الرفع إليه كما في تفسير الآلوسي: ج 25 ص 108، والنصب كما في اعراب القرآن للنحاس: ج 4 ص 123.

71- واليه ذهب الزجاج في معانيه: ج 4 ص 421.

72- حكاه عنه الزجاج في معاني القرآن: ج 4 ص 421.

73- الكشاف: ج 4 ص 268.

74- قرأه نافع وابن عامر برواية هشام بن عمار. راجع كتاب السبعة: ص 589.

75- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 223: هي مكية في قول قتادة ومجاهد، وهي تسع وخمسون آية في الكوفي، وسبع في البصري، وست في المدنيين والشامي. وفي الكشاف: ج 4 ص 269: مكية إلا قوله: (إنا كاشفو العذاب قليلا) الآية، وهي سبع وخمسون آية وقيل: تسع وخمسون، نزلت بعد سورة الزخرف.

76- الآية: 34.

77- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 283 مرسلا.

78- ثواب الأعمال للصدوق: ص 141 وفيه: " أعطاه " بدل " أعطي ".

79- وهو قول عكرمة. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 244.

80- قاله قتادة وابن زيد. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 148.

81- وهي قراءة ابن أبي إسحاق وابن محيصن والكسائي في رواية الحجازي. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 138.

82- في الصحاح: حنذت الشاة حنذا أي: شويتها وجعلت فوقها حجارة محماة لتنضجها فهي حنيذ.

83- الخصاص: شبه كوة في قبة ونحوها إذا كان واسعا قدر الوجه، وبعضهم يجعلها للواسع والضيق حتى قالوا لخروق المصفاة والمنخل: خصاص، وكذلك كل خلل وخرق يكون في السحاب. (لسان العرب).