سورة الأحقاف
مكية (1) غير آيات، وهي خمس وثلاثون آية كوفي، أربع في الباقين، (حم) كوفي.
وفي حديث أبي: " من قرأ سورة الأحقاف أعطي من الأجر بعدد كل رمل في الدنيا عشر حسنات ورفع له عشر درجات " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها كل ليلة أو كل جمعة لم يصبه الله بروعة في الحياة الدنيا، وآمنه من فزع يوم القيامة " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿حم (1) تنزيل الكتب من الله العزيز الحكيم (2) ما خلقنا السموات والارض وما بينهمآ إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عمآ أنذروا معرضون (3) قل أرءيتم ما تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات ائتونى بكتب من قبل هذآ أو أثرة من علم إن كنتم صدقين (4) ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيمة وهم عن دعآبهم غفلون (5) وإذا حشر الناس كانوا لهم أعدآء وكانوا بعبادتهم كفرين (6) وإذا تتلى عليهم ءايتنا بينت قال الذين كفروا للحق لما جآءهم هذا سحر مبين (7) أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لى من الله شيا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به ى شهيدا بينى وبينكم وهو الغفور الرحيم (8)﴾
(إلا بالحق) أي: إلا خلقا ملتبسا بالحق والحكمة والغرض الصحيح، ولم يخلقها عبثا ولا باطلا (وأجل مسمى) وبتقدير أجل مسمى ينتهي إليه وهو يوم القيامة (والذين كفروا عما أنذروا) من يوم القيامة والجزاء (معرضون) لا يؤمنون به ولا يستعدون له، ولابد من انتهائهم وانتهاء كل خلق إليه، ويجوز أن يكون " ما " مصدرية أي: عن الإنذار.
(قل) لهم (أرأيتم) ما تعبدونهم من الأصنام وتدعونهم مع الله آلهة (أرونى ماذا خلقوا من الأرض) حتى استحقوا به العبادة وتوجيه القرب إليهم، بل (لهم شرك في) خلق (السموت) فإنهم لا يقدرون على ادعاء ذلك، (ائتونى بكتب) أنزله الله يدل على صحة قولكم في عبادتكم غيره (أو أثرة من علم) أو بقية من علم تؤثر من كتب الأولين، وفي الشواذ عن علي (عليه السلام): " أو أثرة " بسكون الثاء (4)، وعن ابن عباس: " أثرة " بفتحتين (5)، فالأثرة: المرة من مصدر أثر الحديث أي: رواه، والأثرة بمعنى الأثارة أيضا، أي: خاصة من علم أوثرتم به وخصصتم الإحاطة به لغيركم.
(ومن أضل) معنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال كله (6) أبلغ ضلالا من عبدة الأصنام حيث يدعون جمادا (لا يستجيب) لهم ولا يقدر على استجابة أحد ما دامت الدنيا وإلى تقوم الساعة، ويتركون دعاء القادر على كل شيء، السميع المجيب.
(وإذا حشر الناس كانوا) عليهم ضدا و (لهم أعدآء) فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرة منهم.
(بينت) جمع بينة، وهي الحجة والشاهد، أو: واضحات مبينات، واللام في (للحق) مثلها في قوله: (للذين ءامنوا لو كان خيرا) (7) أي: لأجل الحق ولأجل الذين آمنوا، والمراد بالحق: الآيات، وبالذين كفروا: المتلو عليهم، فوضع الظاهران موضع المضمرين للتسجيل عليهم بالكفر وللتملق بالحق (لما جآءهم) أي: بادهوه (8) بالجحود ساعة أتاهم وأول ما سمعوه من غير فكر ونظر وسموه سحرا مبينا ظاهرا لظلمهم وعنادهم.
(أم يقولون افتراه) إعراض وإضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحرا إلى ذكر قولهم: إن محمدا افتراه، كأنه قيل: دع هذا واسمع قولهم المنكر العجيب، وذلك أن محمدا كان لا يقدر عليه حتى يتقوله ويفتريه على الله، ولو اختص بالقدرة عليه من بين سائر العرب الفصحاء لكانت قدرته عليه معجزة خارقة للعادة، وإذا كانت معجزة كانت تصديقا من الله له، والحكيم لا يصدق الكاذب فلا يكون مفتريا، والضمير في (افتراه) لـ (الحق) والمراد به الآيات (قل إن افتريته) على سبيل الفرض عاجلني الله لا محالة بعقوبة الافتراء عليه (فلا تملكون) دفع شيء من عقابه عني، فكيف أتعرض لعقابه ؟! يقال: فلان لا يملك إذا غضب، ومثله: (قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم) (9)، ثم قال: (هو أعلم بما تفيضون فيه) أي: تندفعون فيه من القدح في وحي الله والطعن في آياته (كفى به شهيدا بينى وبينكم) يشهد لي بالصدق والبلاغ ويشهد عليكم بالكذب والجحود، ومعنى ذلك (10) العلم والشهادة وعيد بمجازاتهم (وهو الغفور الرحيم) وعد بالرحمة والمغفرة إن رجعوا عن الكفر وتابوا وآمنوا، وإشعار بحلم الله عنهم مع عظم ما ارتكبوه.
﴿قل ما كنت بدعا من الرسل ومآ أدرى ما يفعل بى ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلى ومآ أنا إلا نذير مبين (9) قل أرءيتم إن كان من عند الله وكفرتم به ى وشهد شاهد من بنى إسراءيل على مثله ى فامن واستكبرتم إن الله لا يهدى القوم الظلمين (10) وقال الذين كفروا للذين ءامنوا لو كان خيرا ما سبقونآ إليه وإذ لم يهتدوا به ى فسيقولون هذآ إفك قديم (11) ومن قبله ى كتب موسى إماما ورحمة وهذا كتب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين (12) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (13) أولئك أصحب الجنة خلدين فيها جزآء بما كانوا يعملون (14) ووصينا الانسن بوالديه إحسنا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصله ثلثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التي أنعمت على وعلى والدى وأن أعمل صلحا ترضاه وأصلح لى في ذريتى إنى تبت إليك وإنى من المسلمين (15) أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سياتهم في أصحب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون (16)﴾
البدع: البديع، وهو مثل الخف بمعنى الخفيف، أي: (ما كنت بدعا من الرسل) فآتيكم بكل ما تقترحونه من الآيات، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من المغيبات التي لم يوح بها إلي، فإن الرسل ما كانوا يأتون من الآيات إلا بما آتاهم الله، ولا كانوا يخبرون من الغيوب إلا بما أوحاه إليهم (وما أدرى) ما يفعله (الله بى ولا بكم) فيما يستقبل من الزمان، وما يقدره لي ولكم من أفعاله وقضاياه، وقيل: وما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا، ومن الغالب منا والمغلوب (11)، ووجه الكلام: ما يفعل بي وبكم، لأنه مثبت غير منفي، ولكن النفي في " ما أدري " لما كان مشتملا عليه لتناوله " ما " وما في حيزه صح ذلك وحسن، و " ما " في (ما يفعل) يجوز أن يكون موصولة منصوبة، وأن يكون استفهامية مرفوعة.
(قل أرءيتم إن كان من عند الله) جواب الشرط محذوف، والتقدير: إن كان القرآن من عند الله (وكفرتم به) ألستم ظالمين؟ويدل على هذا المحذوف قوله: (إن الله لا يهدى القوم الظلمين)، والشاهد من بني إسرائيل عبد الله بن سلام، لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة نظر إلى وجهه وتأمله، وسأله عن مسائل ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، وتحقق أنه النبي المنتظر فقال: أشهد أنك رسول الله حقا، ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، فجاءت اليهود فقال لهم النبي (عليه السلام): أي رجل عبد الله فيكم؟فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله؟قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله (12).
قال سعد بن أبي وقاص: ما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لأحد يمشي على وجه الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزل (وشهد شاهد من بنى إسرءيل على مثله) (13) والضمير للقرآن، أي: على مثله في المعنى، وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعاني القرآن، ويدل عليه قوله: (وإنه لفي زبر الأولين) (14)، (إن هذا لفي الصحف الأولى) (15).
ويجوز أن يكون المعنى: وشهد شاهد على نحو ذلك، يعني: على كونه من عند الله.
ونظم هذا الكلام أن الواو الأولى عاطفة لـ (كفرتم) على فعل الشرط، وكذلك الواو الأخيرة عاطفة لـ (استكبرتم) على (شهد)، فأما الواو في (وشهد) فقد عطفت جملة قوله: (وشهد شاهد من بنى إسراءيل على مثله فآمن واستكبرتم) على جملة قوله: (كان من عند الله وكفرتم به)، والمعنى: قل أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به، واجتمع شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله بإيمانه به مع استكباركم عنه وعن الإيمان به، ألستم أضل الناس وأظلمهم؟وجعل الإيمان في قوله: (فآمن) مسببا عن الشهادة على مثله، لأنه لما علم أن مثله أنزل على موسى (عليه السلام)، وأنه وحي وليس من كلام البشر فشهد عليه واعترف، كان إيمانه نتيجة ذلك.
(وقال الذين كفروا للذين ءامنوا) أي: لأجلهم قالوا: عامة أتباع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) سقاط، فلو (كان) ما جاء به (خيرا) لما سبقنا (إليه) هؤلاء، وقيل: لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار، قالت بنو عامر بن صعصعة وغطفان وأسد وأشجع: لو كان دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خيرا ما سبقنا إليه عامة البهم (16).
والعامل في (إذ) محذوف لدلالة الكلام عليه، والتقدير: وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم (فسيقولون هذا إفك قديم) وهو كقولهم: (أساطير الأولين) (17).
(كتب موسى) مبتدأ، (ومن قبله) خبر مقدم، و (إماما) حال من الظرف كقولك: في الدار زيد قائما، أي: مؤتما به قدوة في دين الله (ورحمة) لمن آمن به (وهذا) القرآن (كتب مصدق) لكتاب موسى، أو: لما تقدمه من الكتب، و (لسانا عربيا) حال من ضمير " الكتاب " في (مصدق) والعامل فيه (مصدق)، أو: حال من (كتب) لتخصصه بالصفة ويعمل فيه معنى الإشارة، وقرئ (لتنذر) بالتاء (18) والياء، و (بشرى) في محل النصب عطفا على محل (لتنذر) لأنه مفعول له.
وقرئ: " حسنا ? (19) و (إحسنا)، و (كرها) بضم الكاف وفتحها (20) وهما لغتان، وانتصب على الحال أي: ذات كره، أو: على أنه صفة للمصدر أي: حملا ذا كره (وحمله وفصله ثلثون شهرا) أي: ومدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا، وقرئ: (وفصله) (21)، والفصل والفصال في معنى الفطم والفطام، والمراد: بيان مدة الرضاع لا الفطام.
ولكن عبر عنه بالفصال لما كان الرضاع يليه الفصال وينتهي به، وفيه فائدة وهي: الدلالة على الرضاع التام المنتهي بالفصال ووقته.
وبلوغ الأشد: أن يكتهل ويستوفي السن التي يستحكم فيها قوته وعقله وتميزه، وذلك إذا أناف على الثلاثين وناهز الأربعين، وعن ابن عباس وقتادة: ثلاث وثلاثون سنة (22)، ووجهه أن يكون ذلك أول الأشد وغايته الأربعين، وذلك وقت إنزال الوحي على الأنبياء (رب أوزعنى) أي: ألهمني، والمراد بالنعمة التي استوزع الشكر عليها: نعمة الدين (وأصلح لى في ذريتى) سأله سبحانه أن يجعل ذريته مظنة للصلاح، كأنه قال: هب لي الصلاح في ذريتي، وأوقعه فيهم.
(وإنى من المسلمين) المنقادين لأمرك.
وقرئ " يتقبل " و " يتجاوز " و " أحسن " بالرفع (23)، و (نتقبل) و (نتجاوز) بالنون و (أحسن) بالنصب، و (في أصحب الجنة) من نحو قولك: أكرمني الأمير في ناس من أصحابه، تريد: أكرمني في جملة من أكرم منهم ونظمني في عدادهم، وهو في محل النصب على الحال على معنى: كائنين في أصحاب الجنة، معدودين فيهم.
(وعد الصدق) مصدر مؤكد لأن قوله: (نتقبل عنهم) وعد من الله لهم بتقبل أعمالهم، وبالتجاوز عن سيئاتهم.
﴿والذي قال لوا لديه أف لكمآ أتعداننى أن أخرج وقد خلت القرون من قبلى وهما يستغيثان الله ويلك ءامن إن وعد الله حق فيقول ما هذآ إلا أسطير الاولين (17) أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خسرين (18) ولكل درجت مما عملوا وليوفيهم أعملهم وهم لا يظلمون (19) ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيبتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون (20)﴾
(الذي قال) مبتدأ وخبره: (أولئك الذين حق عليهم القول) والمراد بالذي قال الجنس القائل ذلك القول، ولذلك جاء الخبر بلفظ الجمع، و (أف) كلمة تضجر، واللام للبيان، معناه: هذا التأفيف (لكمآ) ولأجلكما خاصة دون غيركما (أتعدانني أن أخرج) أي: أبعث وأخرج من الأرض (وهما يستغيثان الله) يقولان: الغياث بالله منك ومن قولك (ويلك) دعاء عليه بالثبور، والمراد به التحريص على الإيمان لا حقيقة الهلاك.
(إن وعد الله) بالبعث والجزاء (حق فيقول) في جوابهما: (ما هذآ) القرآن أو الذي تدعونني إليه (إلا أسطير الأولين) سطروها وليس لها حقيقة.
(في أمم) مثل قوله: (في أصحب الجنة) (ولكل) من الجنسين المذكورين (درجت) على مراتبهم ومقادير أعمالهم من الخير والشر، أو: من أجل أعمالهم الحسنة والقبيحة، وإنما قال: " درجات " وقد جاء: " الجنة درجات والنار دركات " على وجه التغليب؛ لاشتمال كل على الفريقين.
(وليوفيهم) تعليل معلله محذوف لدلالة الكلام عليه، كأنه قال: وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم، قدر جزاءهم على مقادير أعمالهم، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات.
(ويوم يعرض) انتصب بالقول المضمر قبل (أذهبتم)، وعرضهم على النار: تعذيبهم بها، كما يقال: عرض بنو فلان على السيف إذا قتلوا به.
ومنه قوله: (النار يعرضون عليها) (24)، أو يكون المعنى: عرضت النار عليهم، كما يقال: عرضت الناقة على الحوض، وإنما يعرض الحوض عليها، وهو من القلب.
ويدل عليه تفسير ابن عباس: يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها (25) (أذهبتم طيبتكم) أي: ما كتب لكم حظ من الطيبات إلا ما قد أصبتموه في دنياكم وقد ذهبتم به وأخذتموه فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها، وقيل: معناه: أنفقتم طيبات ما رزقتم في شهواتكم وفي ملاذ الدنيا ولم تنفقوها في مرضاة الله عز اسمه (26).
وروي: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل على أهل الصفة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم وما يجدون لها رقاعا، فقال: " أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى، ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى، ويستر بيته كما تستر الكعبة "؟قالوا: نحن يومئذ خير؟قال: " بل أنتم اليوم خير " (27).
وقرئ: " أأذهبتم ? (28) بهمزة الاستفهام، و " آأذهبتم " بألف بين همزتين (29).
﴿واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ى ألا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (21) قالوا أجئتنا لتأفكنا عن ءالهتنا فأتنا بما تعدنآ إن كنت من الصدقين (22) قال إنما العلم عند الله وأبلغكم مآ أرسلت به ى ولكنى أراكم قوما تجهلون (23) فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ى ريح فيها عذاب أليم (24) تدمر كل شىء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مسكنهم كذا لك نجزى القوم المجرمين (25) ولقد مكنهم فيمآ إن مكنكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصرا وأفدة فمآ أغنى عنهم سمعهم ولا أبصرهم ولا أفدتهم من شىء إذ كانوا يجحدون بايت الله وحاق بهم ما كانوا به ى يستهزءون (26) ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الايت لعلهم يرجعون (27) فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا ءالهة بل ضلوا عنهم وذا لك إفكهم وما كانوا يفترون (28)﴾
(أخا عاد) هود (عليه السلام)، الأحقاف: جمع حقف وهو الرمل المستطيل (30) المرتفع فيه انحناء، من: احقوقف الشيء إذا اعوج.
وكانت عاد بين رمال مشرفة على البحر بالشحر (31) من بلاد اليمن، وقيل: بين عمان ومهرة (32).
(33) و (النذر) جمع نذير بمعنى المنذر أو الإنذار (من بين يديه ومن خلفه) من قبل هود ومن بعده، أي: قال لهم: (لا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم) العذاب، وقوله: (وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه) اعتراض.
(قالوا أجئتنا لتأفكنا) لتصرفنا عن عبادة (ءالهتنا فأتنا بما تعدنا) من العذاب.
(قال إنما العلم عند الله) معناه: إني لا أعلم الوقت الذي فيه يكون تعذيبكم حكمة وثوابا (34)، إنما علم ذلك عند الله، فكيف أدعوه بأن يأتيكم بعذابه في هذا الوقت؟(وأبلغكم) أي: وأنا أبلغكم (مآ أرسلت به) وأمرت بتبليغه إليكم (ولكنى أركم قوما تجهلون) حيث لا تجيبون إلى ما فيه صلاحكم ونجاتكم، وتستعجلون العذاب الذي فيه هلاككم.
(فلما رأوه) الضمير يعود إلى (ما تعدنا)، أو: هو ضمير مبهم قد وضح بقوله: (عارضا) إما تمييزا وإما حالا، والعارض: السحاب الذي يعرض في أفق من آفاق السماء، ومثله: العنان من: عن إذا عرض، والحبي من: حبا، وإضافة (مستقبل) و (ممطر) غير حقيقية لكونهما نكرتين وإن أضيفا إلى المعرفتين، ألا ترى أن كليهما وصف للنكرة، وفي تقدير الانفصال كأنه قال: عارضا مستقبلا أوديتهم وهذا عارض ممطر إيانا (بل هو) أي: قال هود: ليس هو كما توهمتم (بل هو ما استعجلتم به) هي (ريح فيها عذاب) مؤلم.
(تدمر) أي: تهلك (كل شىء) من نفوس عاد وأموالهم و دوابهم الكثيرة، فعبر عن الكثرة بالكلية " فأصبحوا لا ترى " أيها الرائي " إلا مسكنهم "، وقرئ: (لا يرى) على البناء للمفعول (إلا مسكنهم) بالرفع (35).
(فيمآ إن مكنكم فيه): " إن " نافية أي: فيما ما مكناكم فيه من قوة الأجسام وطول العمر وكثرة المال، إلا أن " إن " أحسن في اللفظ لما في تكرير " ما " من البشاعة، ألا ترى أنهم قلبوا الألف من " ما " هاء في " مهما " وأصله " ماما " لبشاعة التكرير (من شىء) من الإغناء، وهو القليل منه، وانتصب (إذ كانوا) بقوله: (فمآ أغنى) وجرى مجرى التعليل، ألا ترى أن قولك: ضربته لإساءته، و: ضربته إذ أساء يستويان في المعنى، لأنك إذا ضربته في وقت إساءته فإنما ضربت فيه لوجود إساءته فيه.
(ولقد أهلكنا ما حولكم) يا أهل مكة (من القرى) نحو حجر ثمود وقرية سدوم وغيرهما، والمراد: أهل القرى، ولذلك قال: (لعلهم يرجعون).
(فلولا) أي: فهلا نصر هؤلاء المهلكين الذين اتخذوهم شفعاء متقربا بهم إلى الله حيث قالوا: (هؤلاء شفعؤنا عند الله) (36) وأحد مفعولي " اتخذ " المحذوف الراجع إلى " الذين " والثاني: (ءالهة) و (قربانا) حال، والمعنى: فهلا منعهم من الهلاك آلهتهم (بل ضلوا عنهم) أي: غابوا عن نصرتهم و (ذلك) إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم وضلالهم عنهم، أي: (وذلك) أثر (إفكهم) الذي هو اتخاذهم إياها آلهة، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب من كونه ذا شركاء.
﴿وإذ صرفنآ إليك نفرا من الجن يستمعون القرءان فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين (29) قالوا يقومنآ إنا سمعنا كتبا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم (30) يقومنآ أجيبوا داعى الله وءامنوا به ى يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم (31) ومن لا يجب داعى الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه ى أوليآء أولئك في ضلل مبين (32) أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والارض ولم يعى بخلقهن بقدر على أن يحىى الموتى بلى إنه على كل شىء قدير (33) ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (34) فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلغ فهل يهلك إلا القوم الفسقون (35)﴾
(صرفنا إليك نفرا من الجن) أي: أملناهم إليك من بلادهم بالتوفيق والألطاف حتى أتوك، والنفر: دون العشرة، وجمعه: أنفار.
وعن ابن عباس: صرفناهم إليك عن استراق سمع السماء برجوم الشهب فقالوا: ما هذا الذي حدث في السماء إلا لأجل شيء حدث في الأرض، فضربوا في الأرض حتى وقفوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببطن نخلة عامدا إلى عكاظ وهو يصلي الفجر، فاستمعوا القرآن ونظروا كيف يصلي (37).
والضمير في (حضروه) للقرآن أو لرسول الله (قالوا) أي: قال بعضهم لبعض: (أنصتوا) أي: اسكتوا مستمعين (فلما قضى) أي: فرغ من التلاوة (ولوا) انصرفوا (إلى قومهم منذرين) يخوفونهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا.
قالوا: (من بعد موسى) لأنهم كانوا على اليهودية (أجيبوا داعى الله) محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)، دعاهم إلى توحيده (وءامنوا به) الهاء ل? " الله "، فجاءوا إلى رسول الله وآمنوا وعلمهم شرائع الإسلام، وأنزل الله سبحانه سورة الجن، وكانوا يفدون إليه في كل وقت وفيه دلالة على أنه كان مبعوثا إلى الجن والإنس.
(فليس بمعجز في الأرض) أي: لا ينجي منه مهرب ولا يسبقه سابق (وليس له من دونه أوليآء) أي: أنصار يدفعون عنه عذاب الله إذا نزل بهم.
(بقدر) محله الرفع لأنه خبر (أن) وإنما دخلت الباء لاشتمال النفي في أول الآية على " أن " وما في حيزها، كأنه قال: أليس الله بقادر؟ألا ترى أن (بلى) مقررة لكونه سبحانه قادرا على كل شيء لا لرؤيتهم؟وقرئ: " يقدر " (38).
(ولم يعى بخلقهن) يقال: عيي فلان بأمره: إذا لم يهتد له ولم يعرف وجهه، ومنه (أفعيينا بالخلق الاول) (39).
(أليس هذا بالحق) محكي بعد قول مضمر، وهذا المضمر هو الناصب للظرف، و (هذا) إشارة إلى العذاب بدلالة قوله: (فذوقوا العذاب) وهو توبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده.
(أولوا العزم) أولو الجد والثبات والصبر، قيل: إن " من " للتبيين (40)، والمراد: جميع الرسل، والأظهر أن " من " للتبعيض، وأولو العزم من الرسل: من أتى بشريعة مستأنفة نسخت شريعة من تقدمه، وهم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم أجمعين (ولا تستعجل لهم) العذاب، أي: لا تدع لهم بتعجيله فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر، وإنهم مستقصرون حينئذ مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبوها (ساعة من نهار)، و (بلغ) أي: هذا بلاغ، والمعنى: هذا القرآن بما فيه من البيان كفاية، أو: هذا تبليغ من الرسول (فهل يهلك إلا القوم) الخارجون من أمر الله تعالى، المتمردون في الفسق والمعاصي؟وعن الزجاج: ما جاء في رحمة الله شيء أبلغ من هذه الآية (41).1- قاله الحسن البصري، راجع تفسيره: ج 2 ص 283.
2- أخرجه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 279 و 280 عن ابن عباس والضحاك والحسن.
3- أخرجه الطبري في تفسيره أيضا: ج 11 ص 279.
4- الشعراء: 196.
5- الأعلى: 18.
6- حكاه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 273.
7- الأنعام: 25، الأنفال: 31 وغيرهما.
8- وهي قراءة نافع وابن عامر وابن كثير على رواية. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 596.
9- قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر. راجع المصدر السابق.
10- وبفتح الكاف هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو. راجع المصدر نفسه.
11- قرأه الحسن والجحدري. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 140.
12- حكاه عنهما الطبري في تفسيره: ج 11 ص 284.
13- قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 597.
14- غافر: 46.
15- تفسير ابن عباس: ص 425.
16- قاله ابن عباس في تفسيره: ص 425.
17- رواه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 289.
18- قرأه ابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 598.
19- قرأه ابن كثير. راجع المصدر السابق.
20- أي: الذي استطال وارتفع.
21- في الكشاف: بأرض يقال لها: الشحر، انتهى. وفي معجم البلدان: ج 3 ص 327: هو صقع على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن، قال الأصمعي: هو بين عدن وعمان.
22- قال في المعجم: ج 2 ص 700: قال العمراني: هي بلاد تنسب إليهم الإبل المهرية، وباليمن لهم مخلاف بينه وبين عمان نحو شهر.
23- قاله ابن عباس. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 290.
24- في نسخة: " وصوابا ".
25- الظاهر من عبارة المصنف رحمه الله أنه يميل إلى القراءة الأخرى المشهورة " لا ترى إلا مساكنهم " وهي قراءة السبعة إلا عاصما وحمزة. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 598.
26- يونس: 18.
27- أخرجه عنه الترمذي في السنن: ج 5 ص 426 ح 3323.
28- وهي قراءة يعقوب. راجع التبيان: ج 9 ص 285.
29- ق: 15.
30- أنظر الكشاف: ج 4 ص 313.
31- معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 448.
32- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 288: هي مدنية كلها إلا آية واحدة، قال ابن عباس وقتادة: فالآية الواحدة نزلت حين خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزنا عليه فنزل قوله: (فكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك) الآية، وهي ثمان وثلاثون آية في الكوفي وتسع وثلاثون في المدنيين وأربعون في البصري. وفي الكشاف: ج 4 ص 314: مدنية عند مجاهد، وقال الضحاك وسعيد بن جبير: مكية، وهي سورة القتال، وهي تسع وثلاثون آية، وقيل: ثمان وثلاثون، نزلت بعد الحديد.
33- الآية: 4 و 15 على التوالي.
34- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 331 مرسلا.
35- ثواب الأعمال للصدوق: ص 142.
36- وفي نسخة زيادة: " وفي حديث آخر: من قرأ هذه السورة كان له بعدد كل مؤمن وكافر حسنات ودرجات في جنات، وكان له بعدد كل حرف منها عتق الف ذرية مؤمنة مع ما له عند الله من المزيد. وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قرأ سورة (الذين كفروا) لم يرتب أبدا، ولم يدخله شك في دينه أبدا، ولا ينله الله بفقر أبدا ولا خوف من سلطان أبدا، ولم يزل محفوظا من الشك والكفر أبدا حتى يموت، فإذا مات وكل الله في قبره ألف يصلون في قبره، ويكون ثواب صلاتهم له، ويشيعونه حتى يوقفونه موقف الأمن عند الله عزوجل، ويكون في أمان الله وأمان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، تمام الخبر ".
37- قاله ابن عباس في تفسيره: ص 427.
38- قاله الطبري في تفسيره: ج 11 ص 304.
39- قاله السمرقندي في تفسيره: ج 3 ص 239.
40- في الكشاف: ج 4 ص 315 عن مجاهد.
41- قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 6.