سورة المزمل

مختلف فيها (1)، وقيل: بعضها مكي وبعضها مدني (2).

تسع عشرة آية بصري، عشرون كوفي، عد الكوفي (المزمل).

في حديث أبي: " ومن قرأ المزمل دفع عنه العسر في الدنيا والآخرة " (3).

وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها في عشاء الآخرة أو في آخر الليل، كان له الليل والنهار مع السورة شاهدين، وأحياه الله حياة طيبة وأماته ميتة طيبة " (4).

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يأيها المزمل (1) قم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو انقص منه قليلا (3) أو زد عليه ورتل القرءان ترتيلا (4) إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا (5) إن ناشئة الليل هى أشد وطا وأقوم قيلا (6) إن لك في النهار سبحا طويلا (7) واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا (8) رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا (9) واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا (10) وذرنى والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا (11) إن لدينآ أنكالا وجحيما (12) وطعاما ذا غصة وعذابا أليما (13) يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا (14)﴾

(يأيها المزمل) في ثيابه المتلفف بها، أدغم التاء في الزاي، وكذلك (المدثر) أصله: المتدثر، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يتزمل بالثياب في أول ما جاءه جبرائيل (عليه السلام) حتى أنس به، فخوطب بهذا.

وروي أنه دخل على خديجة وقد جأث (5) فرقا فقال: زملوني، فبينا هو على ذلك إذ ناداه جبرائيل (عليه السلام): (يأيها المزمل) (6).

وعن عكرمة: أن معناه: يا أيها الذي زمل أمرا عظيما أي: حمله (7).

والزمل: الحمل، وازدمله: احتمله.

(قم الليل) للصلاة، (نصفه) بدل من (الليل) و (إلا قليلا) استثناء من " النصف "، كأنه قال: قم أقل من نصف الليل (أو انقص منه قليلا أو زد عليه) خيره بين النقصان منه والزيادة عليه، وقيل: إن (نصفه) بدل من (قليلا) (8)، وعلى هذا فيكون تخييرا بين ثلاثة أشياء: بين قيام النصف بتمامه، وبين قيام الناقص منه، وبين قيام الزائد عليه.

وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل.

ويعضد هذا القول ما روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: القليل: النصف، أو انقص من القليل قليلا، أو زد على القليل قليلا (9).

وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطائفة من المؤمنين معه يقومون على هذه المقادير، وكان الرجل منهم يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف والثلث والثلثين، حتى خفف الله عنهم بآخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعا بعد أن كان فريضة، وعن سعيد بن جبير: كان بين أول السورة وآخرها الذي نزل فيه التخفيف عشر سنين (10).

(ورتل القرءان) أي: اقرأه على رتل وتؤدة بتبيين الحروف وإشباع الحركات حتى يجيء المتلو منه شبيها بالثغر المرتل وهو المفلج (11).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): بينه تبيانا ولا تهذه هذ الشعر، ولا تنثره نثر الرمل، ولكن اقرع به القلوب القاسية، ولا يكونن هم أحدكم آخر السورة (12).

وعن ابن عباس: لأن أقرأ البقرة أرتلها، أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله (13).

وعن الصادق (عليه السلام) في الترتيل: هو أن تتمكث فيه، وتحسن به صوتك.

وقال: إذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فاسأل الله الجنة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فتعوذ بالله من النار (14).

وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها (15).

وسئلت عائشة عن قراءة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قالت: لا كسردكم هذا، لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها (16).

وقوله: (ترتيلا) تأكيد في إيجاب الأمر، وأنه مما لابد منه للقارئ.

(إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا) هذه الآية اعتراض، وعنى بالقول الثقيل القرآن وما فيه من الأوامر والتكاليف الشاقة الصعبة.

وأما ثقلها على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلأنه متحملها بنفسه ومحملها أمته، فهي أبهظ له لما يلحقه خاصة من الأذى فيه.

وأراد بهذا الاعتراض: أن ما كلفه من القيام بالليل من جملة التكاليف الثقيلة، من حيث إن الليل وقت الراحة والهدوء، فلابد لمن أحياه من مجاهدة لنفسه، وقيل: قولا ثقيلا في الميزان يوم القيامة، عظيم الشأن عند الله، له وزن ورجحان (17)، وقيل: قولا ثقيلا نزوله (18)، لأنه (عليه السلام) كان إذا نزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليرفض عرقا، وإن كان ليوحى له وهو على راحلته فيضرب بجرانها.

(ناشئة الليل) هي النفس الناشئة بالليل، التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة، أي: تنهض وترتفع، من: نشأت السحابة: إذا ارتفعت، أو: قيام الليل على أن (ناشئة) مصدر من: نشأ إذا قام ونهض، ويدل عليه ما روي عن عبيد بن عمير قال: قلت لعائشة: رجل قام من أول الليل، أتقولين له: قام ناشئة الليل؟قالت: لا، إنما الناشئة القيام بعد النوم (19)، أو: العبادة التي تنشأ بالليل أي: تحدث وترتفع، وقيل: هي ساعات الليل كلها لأنها تحدث واحدة بعد أخرى (20)، (هى أشد وطئا) هي خاصة دون ناشئة النهار، أشد مواطأة أي: موافقة، يواطئ قلبها لسانها إن أردت النفس، أو: يواطئ فيها قلب القائم لسانه إن أردت القيام أو العبادة أو الساعات، أو: أشد موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص، وعن الحسن: أشد موافقة بين السر والعلانية لانقطاع رؤية الخلائق (21).

وقرئ: " أشد وطاء ? (22) والمعنى: أشد ثبات قدم، وأبعد من الزلل، أو: أثقل وأشد على المصلي من صلاة النهار (وأقوم قيلا) وأثبت قراءة وأشد مقالا لهدوء الأصوات وانقطاع الشواغل.

(إن لك في النهار سبحا) أي: تصرفا وتقلبا في مهماتك ومشاغلك ولا تفرغ إلا بالليل، فاجعل الليل لعبادتك ومناجاة ربك لتفوز بخير الدنيا والآخرة.

(واذكر اسم ربك) ودم على ذكره، والذكر يتناول كل تحميد وصلاة وتلاوة قرآن وعبادة (وتبتل إليه) وانقطع إليه، وقال: (تبتيلا) لأن معنى " تبتل ": بتل نفسه، فجيء به على معناه مراعاة للفواصل.

(رب المشرق) رفع على المدح (فاتخذه وكيلا) مسبب على التهليل، أي: هو الذي يجب - لتفرده بالوحدانية والربوبية - أن توكل إليه الأمور، وقيل: (وكيلا) كفيلا بما وعدك من النصر (23).

والهجر الجميل: أن يخالفهم بقلبه وهواه، ويخالفهم في الظاهر بلسانه ودعوته إياهم إلى الحق بالمداراة وترك المكافأة، وعن أبي الدرداء: إنا لنكشر في وجوه أقوام ونضحك إليهم، وإن قلوبنا لتقليهم (24).

(وذرنى والمكذبين) أي: ودعني وإياهم ووكل أمرهم إلي، واستكفني شرهم فإن في ما يفرغ بالك (أولى النعمة) أي: التنعم في الدنيا، وهم صناديد قريش كانوا أهل ثروة وترفه.

والنعمة بالكسر: الإنعام، وبالضم: المسرة، يقال: نعم، ونعمة عين.

(إن لدينا) ما يضاد تنعمهم من " أنكال " وهي القيود الثقال، الواحد: نكل، ومن " جحيم " وهي النار الشديدة الحر، ومن " طعام ذي غصة " ينشب في الحلق فلا ينساغ، يعني: الضريع والزقوم، ومن " عذاب أليم " من سائر أنواع العذاب، فننتقم لك منهم بذلك.

(يوم ترجف) منصوب بما في (لدينآ) من معنى الفعل، والرجفة: الزلزلة والحركة العظيمة والاضطراب الشديد، والكثيب: الرمل السائل المتناثر، والمهيل: الذي هيل هيلا أي: نثر وأسيل.

﴿إنآ أرسلنآ إليكم رسولا شهدا عليكم كمآ أرسلنآ إلى فرعون رسولا (15) فعصى فرعون الرسول فأخذنه أخذا وبيلا (16) فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا (17) السمآء منفطر به ى كان وعده مفعولا (18) إن هذه ى تذكرة فمن شآء اتخذ إلى ربهى سبيلا (19) إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه وطآئفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرءان علم أن سيكون منكم مرضى وءاخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وءاخرون يقتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (20)﴾

يخاطب قريشا (شهدا عليكم) في الآخرة بتكذيبكم وكفركم.

(فعصى فرعون الرسول) يعني: موسى (عليه السلام)، أدخل لام التعريف إشارة إلى المذكور قبله (فأخذنه أخذا وبيلا) شديدا ثقيلا من قولهم: كلا وبيل: وخيم غير مستمرئ لثقله.

والوبيل: العصاء الضخمة.

(يوما) مفعول به، أي: وكيف تقون أنفسكم يوم القيامة وهوله إن بقيتم على الكفر ولم تؤمنوا، ويجوز أن يكون ظرفا، أي: فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا، أو: مفعولا لـ (كفرتم) على تأويل: (فكيف تتقون) الله إن جحدتم يوم القيامة والجزاء، لأن التقوى هو خوف عقاب الله، وقوله: (يجعل الولدن شيبا) مثل كما يقال: يوم يشيب النواصي.

(السمآء منفطر به) وصف لليوم بالشدة أيضا، وأن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه، والمعنى: ذات انفطار، أو: السماء شيء منفطر، والباء في (به) مثلها في: فطرت العود بالقدوم، بمعنى: أنها منفطر بشدة ذلك اليوم وهوله كما ينفطر الشيء بما يفطر به (وعده) مضاف إلى المفعول، والضمير لليوم، أو: إلى الفاعل والضمير لله عز اسمه وإن لم يجر له ذكر لكونه معلوما.

(أن هذه) الآيات الناطقة بالوعيد الشديد (تذكرة) موعظة لمن أنصف من نفسه (فمن شآء) اتعظ بها و (اتخذ إلى ربه سبيلا) بالتقوى والخشية.

(إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى الليل) أقل منهما، استعار الأدنى وهو الأقرب للأقل، لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأخيار، وإذا بعدت كثر ذلك، قرئ: (ونصفه وثلثه) بالنصب على معنى: أنك تقوم أقل من ثلثين وتقوم النصف والثلث، وقرئ: (ونصفه وثلثه) بالجر (25) أي: وأقل من النصف والثلث (وطآئفة من الذين معك) وتقوم ذلك جماعة من أصحابك، وعن ابن عباس: علي (عليه السلام) وأبو ذر (26).

(والله يقدر الليل والنهار) ولا يقدر على ذلك غيره، فيعلم القدر الذي يقومونه من الليل (علم أن لن تحصوه) الضمير لمصدر (يقدر) أي: علم أنه لا يصح منكم ضبط الأوقات، ولا يتأتى حسابها لكم بالتعديل والتسوية إلا أن تأخذوا بالأوسع للاحتياط، وذلك يشق عليكم (فتاب عليكم) عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدر.

(فاقرءوا ما تيسر من القرءان) عبر عن الصلاة بالقراءة، لأنها بعض أركانها، يريد: فصلوا ما تيسر عليكم ولم يتعذر من صلاة الليل، وقيل: هي قراءة القرآن بعينها، ثم اختلفوا بالقدر الذي تضمنه الأمر، وعن سعيد بن جبير: أنه خمسون آية، وعن ابن عباس: مائة آية، وعن السدي: مائتا آية (27).

ثم بين سبحانه وجه الحكمة في التخفيف، وهي تعذر القيام بالليل على المرضى، والضاربين في الأرض للتجارة، والمجاهدين في سبيل الله، وسوى سبحانه بين المجاهدين والمسافرين لطلب الحلال.

والقرض الحسن: إخراج المال من أطيب وجوهه وأعوده على الفقراء وابتغاء وجه الله به، وصرفه إلى المستحق (تجدوه عند الله هو خيرا) هو: فصل وقع بين مفعولي " وجد "، وجاز وإن لم يقع بين معرفتين؛ لأن " أفعل " من أشبه المعرفة في امتناعه من حرف التعريف.

1- قرأه ابن عامر وأبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 658.

2- قاله الفراء والزجاج كل منهما في كتابه معاني القرآن: ج 3 ص 198 و ج 5 ص 241 على الترتيب.

3- حكاه عنه أبو نعيم في حلية الأولياء: ج 1 ص 222 وفيه: " لتلعنهم " بدل " لتقليهم ".

4- قرأه نافع وأبو عمرو وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 658.

5- رواه عنه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل: ج 2 ص 387 باسناده عن أبي صالح وآخر عن عطاء كلاهما عنه.

6- أنظر هذه الأقوال في تفسير الماوردي: ج 6 ص 133، وتفسير القرطبي: ج 19 ص 53.

7- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 171: مكية في قول ابن عباس، وقال الضحاك: هي مدنية وهي خمسون وست آيات في الكوفي والبصري والمدني الأول، وخمس في المدني الأخير. وقال أبو سلمة ابن عبد الرحمن: أول ما نزل من القرآن (يا أيها المدثر) وحكى ذلك أبو سلمة عن جابر بن عبد الله. وفي الكشاف: ج 4 ص 644: مكية وهي ست وخمسون آية، نزلت بعد المزمل.

8- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 657 مرسلا.

9- ثواب الأعمال للصدوق: ص 148 وزاد بعده: " أبدا إن شاء الله ".

10- رواه مسلم في الصحيح: ج 2 ص 738 قطعة ح 1061 باسناده عن عبد الله بن زيد. ومعنى الحديث: أن الأنصارهم البطانة والخاصة، وهم ألصق الناس بي من سائر الناس.

11- حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 298.

|

12- قاله طاووس. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 137.

13- وهي قراءة الجمهور إلا حفصا. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 659.

14- انظر النهاية لابن الأثير: مادة " غزر " وقال: المستغزر: الذي يطلب أكثر مما يعطي.

15- حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 304.

16- رواه العياشي في تفسيره كما في مجمع البيان: ج 10 ص 387.

17- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 647.

18- رواه مقاتل. راجع البحر المحيط لأبي حيان: ج 8 ص 373.

19- أي: القطع. (لسان العرب).

20- رواه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 309 عن ابن عباس.

21- صبا: أي مال. (الصحاح).

22- أحماه: أي أثار حميته وعصبيته. (لسان العرب).

23- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 649.

24- قاله مجاهد. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 416.

25- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 650.

26- رواه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 417 عن ابن عباس والضحاك، وفيه: " أبو الأشد الجمحي ".

27- أراد: التوراة والإنجيل.