بعض المسائل الأصولية

المسألة الأولى: حول دلالة الأمر على المرة قد تحرر في الأصول: أن الأمر إذا تعلق بعنوان من العناوين - كإكرام العالم وغيره - فيكفي ذلك مرة، فإذا ورد الأمر بالحج فيكفي مرة واحدة، كما في بعض الأخبار (1). وعلى هذا يكفي الوفاء بالعهد مرة واحدة، ولا يجب استقصاء العهود الإلهية بأنواعها ولا بأفرادها، بل يكفي الوفاء بعهد من العهود، مع أن المقصود هو الوفاء بجميع المقررات الإلهية في طول الأزمنة، كما أن المراد والمطلوب في ناحيتنا هو وفاؤه بعهده الكلي طيلة الأحيان والأوعية الدنيوية والبرزخية وفي القيامة، فلا يتم ما في علم الأصول. وعلى هذا يظهر كفاية ذكرهم مرة واحدة لنعمة واحدة، وهكذا سائر الموارد التي تراها في هذه الآيات وأشباهها. وغير خفي: أن الأمر - كما تحرر حسب الطبع في علم الأصول - يكفي في امتثاله صرف الوجود إلا في موارد وجود القرائن المتصلة والمنفصلة ومع فهم العقلاء معنى أعم من صرف الوجود، بل يفهمون لزوم الوفاء بالوجود الساري نوعا وشخصا وزمانا وحالا، كما ترى أن قوله تعالى: (فإياي فارهبون) يدل على لزوم الرهب في جميع الأزمنة بالنسبة، إلى كافة التحذيرات الإلهية، وهكذا قوله تعالى: (وآمنوا بما أنزلت مصدقا)، فإنه لا يجوز أن يكتفى بالإيمان في زمان قصير بالنسبة إلى بعض الآيات، بدعوى أنه ما انزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم).

المسألة الثانية: دلالة الأمر على الوجوب ربما يدل قوله تعالى: (وإياي فارهبون)، أو (وإياي فاتقون) بحسب المادة على أن الأمر بحسب الصيغة والهيئة يقتضي الوجوب واللزوم في الآيات والجمل التي بين يديك، وتصير النتيجة بعد ضم المادة إلى الهيئة وجوب الرهب والاتقاء هنا، ووجوب المأمور به مطلقا إلا مع القرينة. اللهم إلا أن يقال: دلالته هنا على الوجوب أيضا لأجل القرينة، فلنا منع الدلالة في موارد فقد القرينة، ومن هنا يظهر وجه التقريب لدلالة النهي على التحريم مع جوابه. اللهم إلا أن يقال: إن جملة (وإياي فارهبون) ظاهرة في التفرع على النهي والأمر المذكورين، فيعلم من الآية الشريفة حرمة الاشتراء ووجوب ذكر النعمة، لقيام القرينة، وأما العموم الاستيعابي والعام الاستغراقي فلا يستفاد منه، إلا من سنخية الموضوع والحكم، أو لغوية الإيمان في زمان قصير، أو امتثال النهي عن الاشتراء في مدة يسيرة، وهكذا في سائر الأوامر والنواهي المسانخة مع هذه الأوامر والنواهي في هذه الآيات وغيرها.

المسألة الثالثة: استصحاب أحكام الشرائع السابقة قد استشكلوا في الأصول جريان استصحاب أحكام الشرائع السابقة (2): تارة من جهة أن تلك الأحكام مورد التلاعب، وأن التوراة والإنجيل الموجودين مورد التحريف، فلا شك في بقاء تلك الأحكام كي يستصحب. وهذا خلاف قوله تعالى: (مصدقا لما معكم) فيعلم منه أنها كانت باقية. نعم يحتمل نسخها بعد مضي عصر من عصور النبوة، فيستصحب الأحكام، كما يستصحب عدم النسخ. واخرى: بأن جريان استصحاب تلك الأحكام بلا أثر، للحاجة إلى الإمضاء والارتضاء الثابت في هذه الشريعة. واحتمال كون جملة (مصدقا لما معكم) بمعنى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يصدق القرآن الشريف الذي هو معكم، وليس على ضرركم وخسارتكم، في غير محله حسب الظاهر الواضح. أقول: يأتي الكلام حول دلالة أمثال هذه الآيات على عدم تحريف الكتب السالفة. هذا، مع أن البحث حول جريان استصحاب أحكام الشرائع السابقة في الجملة، ولو كان حكما واحدا يكفي لكشف الرضاء والارتضاء نفس الاستصحاب الثابت في هذه الشريعة، فلا نحتاج إلى دلالة أمثال هذه الآيات، فما في كتاب " الكفاية " (3) و " التقريرات " (4) وغيرهما خال عن التحصيل. نعم لو تمت دلالة هذه الآية وأشباهها على لزوم التصديق وعدم التحريف على عمومه، إلا الأفرادي والأزماني، فلا حاجة إلى الاستصحاب، كما لا يخفى.

المسألة الرابعة: حول اختصاص الأحكام بالذكران ربما يجوز الاستدلال بقوله تعالى: (يا بني إسرائيل) - منضما إلى الآيات الاخر - على اختصاص الأحكام العقلية والأخلاقية والفرعية بطائفة الذكران إلا ما خرج بالدليل، لأن كلمة " بني " مخصوصة بهم، بخلاف الولدان. وعلى هذا نحتاج إلى دليل عام أو خاص على تسرية الأحكام، كما استدل في الأصول بالإجماع على الشركة، وهو دليل لبي له القدر المتيقن، وهذا خلاف ما عليه الملة الراقية الإسلامية والملل الجديدة غير الإسلامية. ولقد صرح في جملة من التفاسير - كما مر - ومنها " مجمع البيان " (5) باختصاص كلمة " الابن " بالذكر، بخلاف الولد، ويؤيده الاستعمال، فلاحظ. وبالجملة: كما يستدل بالإجماع ونحوه على الشركة بين الحاضرين والغائبين والموجودين والمعدومين بالنسبة إلى الأحكام الإسلامية، كذلك يستدل بها فيما نحن فيه، مع أن الألفاظ المستعملة في القرآن تختص بالرجال خطابا وغير خطاب. نعم ربما تكون هي أعم في مثل قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت...) (6) إلى آخره، لو لم نقل بانصرافها عنهن، لكثرة الألفاظ المخصوصة بهم في الاستعمالات القرآنية، كما هو واضح.

المسألة الخامسة: الاستدلال بقوله تعالى (ولا تلبسوا) يجوز الاستدلال بقوله تعالى: (ولا تلبسوا الحق بالباطل...) إلى آخره على مسائل فقهية وكلامية واصولية، وذلك لأن الظاهر منه أن المراد بالباطل، هو الكتاب الموجود عندهم، أو النبي المعتقدون به أنه باق على نبوته. فعندئذ تدل الآية: على مسألة فقهية، وهي جواز الكذب له والتورية عند المصلحة، لقوله تعالى: (مصدقا لما معكم) مع أنه عد من الباطل. ويؤيد أنه أريد منه الكتاب الموجود عندهم، قوله تعالى: (ولا تكونوا أول كافر به) حيث يرجع الضمير على الأظهر إلى الموصول، بناء على كون " ما " موصولا، كما هو أيضا هو الأظهر، كما مر. وعلى مسألة كلامية: وهي أن التوراة باطلة، سواء كانت محرفة أو غير محرفة، بل يشعر بالتحريف لصدقها بالنسبة إلى دلالتها على نبوة هذا النبي الأعظم. وعلى مسألة أصولية: وهي أنها بعد ما كانت باطلة، فلا شك في بقاء أحكامها، كي يستصحب حكم تلك الشرائع، كما أنكرنا جواز جريان استصحاب الأحكام السالفة، وحديث قيام الإجماع على عدم النسخ مربوط بهذه الشريعة إلا ما خرج، فليراجع. وغير خفي: أنه في كثير من الآيات بشارة تصديق ما معهم وما بين يديه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وربما كان النظر إلى نزول الآية الأخرى المصدقة، لانفس هذه الآيات، فإنها إخبار، لا إنشاء، أو إخبار عن التصديق بنفس تلك الآيات، بل ظاهر في مجئ الآيات الاخر المصدقة الناطقة: بأن التوراة والإنجيل الموجودين بين يديه بعنوانهما كتاب الله عز وجل، كما قال الله تعالى: (وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون)، فاغتنم.


1- راجع وسائل الشيعة 8: 12 - 13، كتاب الحج، أبواب وجوب الحج وشرائطه، الباب 3.

2- راجع فرائد الأصول: 655، وكفاية الأصول: 412 - 414.

3- كفاية الأصول: 412 - 414.

4- فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 4: 478.

5- راجع مجمع البيان 1: 92.

6- آل عمران 3: 97.