بعض البحوث الكلامية
الأمر الأول: جواز الأمر بغير المقدور هذه الآيات وأشباهها تدل على جواز الأمر بغير المقدور، وهو الرهب والاتقاء القلبي والإيمان والكفر القلبيان، والأمر بالصلاة والزكاة الغير الصحيحين إلا مع الإيمان والإسلام، أيضا أمر بغير المقدور، وأيضا الأمر بالصبر والاستعانة بالصلاة، والإتيان بها وبالزكاة، أمر بالقبيح، فيعلم منه جواز الأمر بما هو القبيح عند العقلاء، وان لم يكن قبيحا عند العقل، بناء على مقالة طائفة من الأشعريين. والذي هو التحقيق: أن الإيمان والإسلام وكافة الأمور القلبية من الأمور الاختيارية إلا أن الأمور الاختيارية مختلفة: فمنها الأمور الجوارحية، فهي قريبة إلى الاختيار وآنية الاختيار والأمور الروحية والجوانحية زمانية الاختيار، وبعيدة عن الإرادة، إلا أنها قابلة للعلاج بالضرورة، وليست هذه الأمور ذاتية باب الإيساغوجي، ولا باب البرهان، فإن الصفات الحميدة والطيبة والخبيثة والسيئة اختيارية، تحصل طيلة الأزمان والأحيان بالجهد والتعب والمحاسبة والدقة، فلا تغفل. وعند ذلك لاقبح في هذه الأوامر من هذه الجهة. وأما بالنسبة إلى الصلاة والزكاة فيكفي إظهارهم الإسلام ولو كانوا مترددين بحسب الروح والقلب، وحيث إن الاعتراف أمر اختياري، فالأمر بالصلاة والزكاة حال الكفر، كالأمر بالصلاة حال الجنابة، فلا يلزم الأمر بالقبيح العقلائي. وأما انتفاء القبح العقلي فلثبوت الاختيار عندنا، فإن ظل الفاعل المختار مختار وتفصيله في " قواعدنا الحكمية "، ولعله يأتي بعض البحث حول المسألة في المناسبات الاخر.
الأمر الثاني: دلالة الآية على أن فعل العبد مخلوقة استدلت المعتزلة بقوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر) على أن فعل العبد مخلوقه، لا مخلوق الله (1)، كما يستدل أحيانا الفقيه على الشرطية في الأمر بالمعروف أن لا يكون نفسه تاركا له. وتوهم: أن جميع الأفعال المستندة إلى الخلائق تشهد على أنها مخلوقهم، في غير محله، لجواز النسبة المجازية، بخلاف التوبيخ والتثريب والذم. ومن الغريب أن الفخر رجع إلى ما عنده من البرهان العقلي (2)، فإنه كلام آخر لا يضر بصحة الاستدلال وظهور الآية لغة. نعم لا تدل الآية على شرطية الذكر أو العمل في الأمر بالمعروف، لكون الآية بصدد إحياء الارتكاز العقلائي والفطرة.
الأمر الثالث: دلالة الآية على رؤية الله ربما يستدل بقوله تعالى: (ملاقوا ربهم) على جواز اللقاء الخارجي المتعارف الموجود بين الأجسام، فتدل الآية على جواز رؤية الله تعالى أو تجسمه يوم القيامة (3). وفيه أولا: أنها لو كانت تدل فتدل على الأعم من الدنيا والآخرة. وثانيا: قد تحرر أن الرب المطلق ممتنع لقاؤه دون المقيد، فربما يجوز لقاؤه في السفر الثاني أو الثالث من الخلق إلى الحق. وثالثا: لا ننكر ظهور هذه الآيات - بحسب الطبع لغة - في التجسم والرؤية واللمس، إلا أن ضيق الخناق في محيط اللغات، التي يكون المتصدي لوضعها أراذل الناس وعوامهم، أو خواصهم المتأثرين بالزمان والمكان، غير النائلين للمعاني الروحانية والمعارج المعنوية والمدارج الإلهية، البعيدة عن أذهان الناس إلا من شذ، فعندئذ يمنع جواز الاستدلال بل والظهور في هذه الأمور الاعتقادية، التي تدور مدار العقول القادسة والأفهام النافذة الخاصة بطوائف نادرة والأنبياء والأولياء، فلا يتمكنون إلا أن يتكلموا على الوجه المتشابه، فإن القرآن كتاب متشابه تقشعر منه الجلود، فاغتنم.
الأمر الرابع: الاستعانة بغير الله قد اشتهر بين طائفة من أهل الخلاف عدم جواز التمسك بغير الله، وممنوعية الاستعانة بغير الله تعالى، حتى وصلت نوبة إنكارهم إلى إنكار الشفاعة، ويأتي تفصيله، ويكفيك ردا لفساد مقالتهم صراحة قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة)، فإنه يستفاد منه التشبث بهما بعنوانهما لحل المشاكل والمعضلات، لا بمعنى إقامة الزكاة والصوم والصبر والصلاة، والتصبر عليها في الإتيان بهما صحيحة جامعة للشرائط كاملة الأجزاء. فعلى هذا يتبين جواز الاستعانة بهما، متشبثين بتوسطهما للمسائل الدنيوية والأخروية، وما ذلك إلا لكونهما من الأعمال الحميدة والأفعال الجائزة للتقرب بهما من الله تعالى، فإذا كان ذلك جائزا في موردهما، ففي غيرهما يصح التشبث بالأولوية، كالتمسك بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والولي (عليه السلام) وغيرهما.
1- التفسير الكبير 3: 47.
2- نفس المصدر.
3- راجع التفسير الكبير 3: 50 - 51.