بعض البحوث الفقهية

البحث الأول: حول وجوب الوفاء بالعهد أن مقتضى إطلاق الأمر بالوفاء بالعهد، وهو القرار الأعم من المقررات الإلهية المعبر عنها بالتكاليف، ومن المقررات بين الخلق بعضهم مع بعض، فتكون الآية من قبيل قوله تعالى: (أوفوا بالعقود) (1). وفيه - مضافا إلى ما سيأتي من المناقشات المحررة عندنا في موسوعتنا الفقهية حول الآية المشار إليها - أن الآية لا إطلاق لها، لظهور إضافة العهد إليه تعالى في العهد الخاص المقرر من قبله تعالى عليهم وعلى كافة الناس ولو لم يكونوا يهودا، لأنهم لابد وأن يكونوا قبل الإسلام نصارى بعد ما كان آباؤهم السالفون يهودا، وعند ذلك لا ينعقد الإطلاق كي يشمل مطلق العهود، وتكفي للقرينة جملة " بعهدكم " مما فيه الثواب والأجر مثلا. ولو استشكلت في الجملة الأخيرة، لأن ظاهرها كون العهد من قبل بني إسرائيل - مثلا - لامن قبل عهد الله لهم بالثواب، للزوم كونه أيضا عهده، فيكون مثل العهد الأول في الإضافة، فهو إشكال على الآية يأتي - إن شاء الله - حله، ويورث إجمالا وإبهاما يشكل عقد الإطلاق، فالآية لا تدل على وجوب الوفاء بمطلق العقود، مع أن جملة (وإياي فارهبون) أيضا خلاف العموم المذكور على الأشبه، مع عدم فهم المفسرين ذلك منها. هذا، مع أن الأقوال في معنى العهد بلغت إلى الأربع والعشرين، كما في " البحر المحيط " (2)، والاختلاف المذكور يوجب إعضال الفاضل في ظهور الآية الشريفة، إلا أن الإنصاف أجنبيتها عن مسألة العقود المعاملية إطلاقا وعموما، مع أن اختصاص الصدر بالعنوان الخاص - وهو بنو إسرائيل - أيضا مخالف لما ذكرناه.

البحث الثاني: عدم جواز تصدي أمور المسلمين للجبان أن الخوف والرهب وإن لم يكونا اختياريين بدويين، ولكن جميع الأوصاف النفسانية اختيارية شاقة، تحصل بجهد وتعب وبلاء وبلية، كما هو واضح. وعند ذلك يجوز الأمر وحصر الرهب والتقوى والخوف النفساني فيه تعالى، ولازم ذلك ممنوعية الرهب والخوف من غيره تعالى وتقدس. وهذا أصل يترتب عليه المنافع الكثيرة في المسائل الاجتماعية والفردية، فلا يجوز أن يخاف في إبراز الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة العدل والحكومة الإسلامية من غير الله تعالى، وهذا إثم وذنب، ولا يصلح للخائف والراهب أن يتصدى لهذه الأمور، للزوم الإخلال في مطلوب المولى وغرضه. فأمثال هذه الآيات تدل على هذه المسألة الفقهية الكلية النافعة. وفيه أولا: في إفادة الجمل المذكورة حصر المفعول في الفاعل، أي أن لا يخاف إلا من الله تعالى، إشكال عندنا، وإنما هي تأكيد وتعظيم وتحريض وتحريك إلى المطلوب وتشويق وخطابة لا يستشم منه مسألة فقهية. وثانيا: لو كانت الجمل المذكورة قابلة لإفادة المفهوم لأجل الحصر المستفاد منها، فهي في صورة الإطلاق من جهة كافة المسائل، ومن جهة كافة المكلفين، ولو كانت بصدد العموم من الناحية الثانية، فلا عموم لها من الجهة الأولى، فإن في خصوص المسائل الاعتقادية لا يجوز الخوف الكتمان وتضييع الحق الإلهي، بخلاف الفروع العملية فهذه الآية وأشباهها بعيدة عن مسألتنا.

البحث الثالث: أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله استدل بعضهم بقوله تعالى: (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) على ممنوعية أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى، بل والعلم (3)، وهذا خلاف ما عليه المشهور، وعن النبي في حديث اشتهر: أن " خير ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله " (4). فقول أبي حنيفة بالكراهة (5) بلا وجه، وفي التأريخ أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) اعتبر الصداق في النكاح تعليم القرآن (6)، وفي أخبارنا ألسنة مختلفة مذكورة في " الوسائل " في كتاب التجارة (7)، وهي بين الناهية عن كسب التعليم، ومنها ما يدل على نهاية المطلوبية، فعن الفضل بن أبي قرة، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): " هؤلاء يقولون: إن كسب المعلم سحت؟فقال: كذب أعداء الله، إنما أرادوا أن لا يعلموا أولادهم القرآن، لو أن المعلم أعطاه رجل دية ولده لكان للمعلم مباحا " (8). ومقتضى الجمع - مع ذهاب أبي حنيفة إلى الكراهة - حمل النواهي على التقية، لأحمل المرخصات على صورة عدم الشرط، للمعارضة بين تلك الأخبار، والتفصيل في محله. هذا، مع أن الآية المذكورة غير مربوطة بهذه المسألة، كما هو الظاهر.

البحث الرابع: حرمة الغش وبطلان المعاملة يمكن الاستدلال على حرمة الغش بقوله تعالى: (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق)، وحيث إن في الغش تلبيس الواقع وكتمان الحقيقة، فيكون منهيا عنه وحراما، وأما بطلان المعاملة فلا دليل عليه إلا من جهة حررناها في الأصول، وهي امتناع إمضاء المبغوض، فإن المبغوض منفور عنه وجودا وإيجادا، وإمضاء المعاملة متوقف على الرضا بها، والارتضاء والطيب والإرادة. وتوهم: أن ما هو المحرم هو المعنى الحدثي الصدوري، وما هو المرضي ومورد الطيب هو المعنى المسببي التبادلي، في غير محله، لأن ما هو المبغوض هو السبب بما هو سبب ملازم للمسبب، فلا يمكن التفكيك والتفصيل في الأصول. نعم قد حررناه في الفقه في ذيل قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل...) (9) إلى آخره أن عنوان الحق والباطل حسب الشرائع السماوية والمادية، يختلف مصداقا وتطبيقا، ولا يصح التمسك بمثل هذه الآيات على حرمة الباطل، بعد كون تشخيصه بيد الشرع، واختلاف العرف والشرع في الموارد والموضوعات، نعم مع قيام القرينة - كما فيما نحن فيه - أو ورود النص، يتم الاستدلال، فليتدبر.

البحث الخامس: وجوب صلاة الجماعة وكون الركوع من الفريضة قد استدلوا بقوله تعالى: (واركعوا مع الراكعين) تارة: على صلاة الجماعة (10)، فما قالوا: إنه لا إطلاق في أدلتها، غير صحيح، لإطلاق هذه الآية على جواز مطلق الجماعة في مطلق الصلوات، إلا ما خرج بالدليل. واخرى: بأن الركوع من الفريضة في الصلاة لدلالة الكتاب العزيز عليه حسب هذه الآية، وليس من السنة، نظرا إلى ما ورد في الخبر: " إن السنة لا تنقض الفريضة " (11) بمعنى أن الصلاة الجامعة للفرائض - كالوقت والطهور والقبلة والركوع والسجود - لا تبطل بإخلال المصلي بسائر الأجزاء والشرائط إلا بدليل خاص. فاستفادة التمييز بين الفريضة والسنة موقوفة على دلالة الكتاب العزيز، وهذه الآية من هذه الجهة كافية. أقول: لو سلمنا ما أفيد فهو في حد نفسه يتم، ولكن لمكان سبق الآيات الاخر الراجعة إلى دعوة اليهود إلى الإسلام والخضوع له والإيمان بالكتاب العزيز يشكل الأمر، لإمكان كون الأمر متوجها إلى خضوعهم مع الناس المسلمين، فلا يستحيون ويركعون مع الراكعين الخاضعين للإسلام. وعلى هذا لا يتم الاستدلال الثاني. ويؤيدنا قوله تعالى: (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) (12)، فإنه ليس دعوة إلى الجماعة المصطلحة. والله العالم. ولو قيل: لا بأس بإطلاق الآية، بل عمومها لجميع المراحل والمراتب والموارد. قلنا: قد حررنا في الأصول: أن الجمع المحلى بالألف واللام، لا يدل على العموم الأفرادي إلا بمقدمات الإطلاق (13)، كما عليه الأكثر، ولو سلمنا دلالته فهو هنا أعم من الجماعة والفرادي إذا صلوا معا بغير جماعة، وعندئذ يتم الاستدلال الثاني. اللهم إلا أن يقال: إنه ناظر إلى الركوع فقط، لا الركوع في الصلاة، ولكنه خلاف الفرض، وهو العموم المشمول.

البحث السادس: وجوب إقامة الصلاة بالمعنى الخاص إن قوله تعالى: (أقيموا الصلاة) ليس بمعنى الإتيان بها، بل الإقامة هي التصدي لأن يأتي الآخرون بها، إما جبرا، أو نصيحة ووعظا، ومن يتصدى لذلك إما هو الحاكم، أو الإمام المتصدي لإقامة الجماعة، وعندئذ يتقوى في النظر أيضا دلالة هذه الآية على الجماعة المصطلحة، ويصير قرينة على أن قوله تعالى: (واركعوا مع الراكعين) خطاب إلى المأمومين، فالآية - صدرا وذيلا - تتكفل الجماعة، ولكن بعد اللتيا والتي اقترانها بقوله تعالى: (وآتوا الزكاة) يضر بالاستدلال، مع أن الأظهر أن الأمر بالإقامة ليس إلا كناية عن الإتيان بها. والله هو العالم.

البحث السابع: وجوب الإحسان أن قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر) يدل مجموعا على أن البر مورد الأمر، فيكون الإحسان والبر واجبا، وهذا أمر صريح في قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) (14) وقوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) (15) وهذا أمر واجب بحسب الشريعة الإسلامية وشريعة العقل الفطري، والمناقشة أحيانا في حسن الإحسان، ترجع إلى كون مورد النقاش إحسانا وبرا، وإلا فكل ما كان برا وإحسانا فهو مما يدرك العقل لطفه وحسنه. أقول: هذه المسألة بحسب الطبع وإدراك العقل مما لا خدشة فيها، وأما كونها واجبة شرعا كسائر الواجبات الإلهية، فمحل منع، لقيام الضرورة على ذلك. هذا، مع أن مقتضى الأمر بالإحسان - كما في مورد الوالدين - كفاية الإحسان مرة واحدة، لسقوط الأمر بالطبيعة عند أول مصداق المأمور به، كما في غيره، فإذا أتى المكلف بالبر مرة واحدة، فهو كاف، ومن البر الصلاة والصوم وغيرهما، فيعلم من ذلك أنه أمر إرشادي إلى مقتضيات الطينة الإنسانية. والآية بصدد إحياء المرتكزات البشرية والخلقيات الفطرية، مع أنه يلزم التخصيص المستهجن، كما لا يخفى فتدبر.

البحث الثامن: وجوب الاستعانة بالصبر والصلاة أن مقتضى الآية الشريفة وجوب الاستعانة بالصبر والصلاة في موارد الغضب والحدة بقرينة الصبر، ويأتي في المسائل الأخلاقية والاجتماعية ما يتعلق بالصبر - إن شاء الله تعالى - وقد مر: أنه هنا هو الصوم على الأشبه، إلا أن في وجوب الاستعانة شرعا بالمعنى المذكور كلاما، لاحتمال إرادة الاستعانة بهما بالنسبة إلى الكمالات المترقبة المنتظرة، وبالنسبة إلى الأسفار الروحانية والمعنوية. وهذا وإن كان لا ينافي الإطلاق، كما لا ينافيه كونه الأعم من الأمور المذكورة، ومن الاستعانة بهما لتوسعة المعيشة أو جلب الرزق، وغير ذلك من الأغراض العقلائية، ولكن بعد كون العموم غير واجب شرعا بالضرورة، لا يتم الاستدلال به لوجوب الاستعانة الخاصة، كما لا يخفى.

البحث التاسع: ترك الصلاة من الكبائر يمكن أن يقال: إن الآية الشريفة تدل على أن ترك الصلاة من الكبائر، لأنها كبيرة حسب الآية الشريفة، فتندرج المسألة - بحسب الآية - في مسألة الكبائر والصغائر وما يترتب عليهما في الفقه. ولكن الشأن أن الأقرب تكون الكبيرة والصغيرة نسبية، وكل ذنب كبير لكونه تجاوزا عن حد الشرع وحدود الله، ودخول في الحمى الممنوعة، وطغيان وعصيان، ومن هذه الجهة كلها مشتركة، وإنما الاختلاف فيما هو الأجنبي عن مقياس العصيان والطغيان، وتفصيله وتوضيح المسألة يأتي - إن شاء الله - في محله. وقد وافقنا على ذلك جماعة من أصحابنا، كالطبرسي (16) وجد أولادي العلامة الحائري في " كتاب الصلاة " (17) وغيرهما. هذا، مع أن مرجع الضمير يحتمل كونه الاستعانة، نحو قوله تعالى: (اعدلوا هو أقرب للتقوى) (18) أو الآيات السابقة، والأشبه رجوعها إلى الصلاة والأبلغ رجوعه إلى الاستعانة، حيث إن اليهود يحتاجون إليها في الاعتراف والإقرار بالإسلام، والعدول عن الباطل.

البحث العاشر: تكليف الكفار بالفروع إن في النهي عن الاشتراء بناء على شموله للنهي عن الاجرة، وفي النهي عن لبس الحق بالباطل بناء على شموله للغش، وفي الأمر بالصلاة والزكاة بناء على كونه للوجوب الشرعي وكون الصلاة غير الدعاء، والزكاة هي الزكاة الإسلامية، - لا المحررة عند اليهود، التاركين لها حسب ما حكي عن الأصم - وفي الأمر بالاستعانة بناء على كونه للوجوب الشرعي، دلالة واضحة على تكليف الكفار بالفروع كما هم مكلفون بالأصول، وهو مطابق للقول المشهور، خلافا لجماعة من القدماء والمتأخرين، ولطائفة من المتكلمين (19). وهذه المسألة مشتركة بين كونها فقهية واصولية وكلامية. والأمر سهل. ولو أمكن المناقشة في الكل - كما عرفت - ولكن كشف تكليف الكفار بالفروع منها، قطعي ظاهرا، لانصراف الصلاة والزكاة إلى ما هو المعروف في المدينة عند المسلمين، وحيث إنهم لا يأتون بالركوع أمروا به خاصا واهتماما، ذلك لعدم اشتمال صلاتهم على الركوع - على ما قيل (20) - فيكون الأمر ظاهرا في التكليف النفسي والغيري، وعلى كل يشكل المناقشة في الآية جدا. وأما المناقشة في إمكان تكليفهم، فهي مرتفعة بكفاية التفات المتكلم إلى أن المسلمين يتوجهون إلى وجوبهما، وإلى أن الكفار مكلفون بالفروع، فكل ذلك يورث تمكن المتكلم من التكليف الجدي. هذا، مع أن في هذه الآيات - كما مر - قرائن كثيرة على عموم الخطاب، أو خصوص الخطاب وعموم المراد، وإذا كان المراد عاما يصير قانونيا، والخطابات القانونية والمرادات التشريعية العامة، قابلة لكونا فعلية بالنسبة إلى كافة الأنام (21).


1- المائدة (5): 1.

2- البحر المحيط 1: 174 - 175.

3- الجامع لأحكام القرآن 1: 335، البحر المحيط 1: 179.

4- عوالي اللآلي 1: 176 / 215، صحيح البخاري 3: 121.

5- الجامع لأحكام القرآن 1: 335، البحر المحيط 1: 179، الفقه على المذاهب الأربعة 3: 127 - 128.

6- راجع وسائل الشيعة 15: 3، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 2، الحديث 1، وصحيح البخاري 7: 8 / 1.

7- راجع وسائل الشيعة 12: 111 - 113، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 29.

8- راجع وسائل الشيعة 12: 112، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 29، الحديث 2.

9- البقرة (2): 188.

10- روح المعاني 1: 247.

11- راجع الخصال 1: 316 / 36، وبحار الأنوار 85: 136 / 1.

12- آل عمران (3): 43.

13- راجع تحريرات في الأصول 5: 201.

14- النحل (16): 90.

15- المائدة (5): 2.

16- راجع مجمع البيان 3: 38.

17- راجع كتاب الصلاة، العلامة الحائري: 516 - 527.

18- المائدة (5): 8.

19- انظر حول هذه المسألة تحريرات في الأصول 7: 318 وما بعدها.

20- مجمع البيان 1: 97، التفسير الكبير 3: 45.

21- يأتي في ذيل " بعض البحوث الكلامية، الأمر الثاني " ما يرتبط بالمسائل الفقهية.