بعض المباحث الفلسفية والعقلية

البحث الأول: تدبير الأمور بيد الله في نسبة النعمة التي أنعمها عليهم إليه تعالى شهادة على صحة النسبة، وهو فرع كونه تعالى فاعل النعمة وعلتها وخالقها، وتلك النعمة إما عامة للوجود وكماله، أو كثيرة كاستنقاذهم من بلاء فرعون، وجعلهم أنبياء وملوكا، وأنزل عليهم الكتب المعظمة، وظلل عليهم في التيه الغمام، وإنزال المن والسلوى عليهم، وأعطاهم عمودا من النور ليضئ لهم بالليل، وكانت رؤوسهم لا تنشعث، وثيابهم لا تبلى، وفي جملتها اشتمال الكتب السالفة على الشهادة بنبوة نبي الإسلام، وهذه النعم على آبائهم الواصلة إليهم طبعا، لوصول كمالها إليهم مع إدراكهم عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فكل هذه الأفعال فعل الله وخلق الله حقيقة، وليست الوسائط إلا بالجعل الفاني في الجاعل الحقيقي، فهو تعالى مدبر الأمور ومالك المعاليل والعلل، وليس هو منعزلا عن الخلق، بل هو أقوى من الوسائط وأقرب، كما تحرر أنه تعالى إلى المصادر أنسب من المباشر، وهو تعالى أقرب إلى معاليلنا منا، لأنه مفيض الوجود، ونحن المستعدون.

البحث الثاني: الكثير بالنسبة إليه تعالى واحد في توحيد هذه النعم الكثيرة عند ملاحظتها إلى نفسه تعالى، وتكثير المنعم عليهم، حيث قال: (أنعمت عليكم) إشعار بالوحدة والكثرة، وأن الكثير بالقياس إليه تعالى وحيد، لرجوع الأشياء إلى الوجود والنعمة (وما أمرنا إلا واحدة)، وبالقياس إلى أنفسها كثيرة بالضرورة، مع أن هناك علة ونعمة ومنعم عليهم، فواحد في الكثير، وكثير في الواحد.

البحث الثالث: دلالة الآيات على دار الجزاء في قوله تعالى: (أوفوا بعهدي أوف بعهدكم) دلالة على دار الثواب والجزاء ودار الجنة والنار، كما فيه دلالة على استقلالهم في الوفاء بالعهد كي يأمرهم، مع أنهم وأفعالهم غير مستقلين من جهة، وإن كانوا مستقلين من جهة أخرى ولحاظ آخر. وربما يستدل به على أن الدنيا دار الجزاء، أي أوفوا بعهدي الذي عاهدتكم وأنتم تعلمون، وهو الإيمان والتصديق المذكوران قلبا ولسانا في الآية الثانية، وأوفوا بعهدي الذي عاهدتكم، فربما كانت الملوك منهم كما كانوا عنهم - على ما قيل، وأشرنا إليه في ذكر النعم عليهم - ولا بأس بالإطلاق، والمعروف هو الأول. وفي قوله تعالى: (وإياي فارهبون) أيضا دلالة على دار الجزاء، إلا أنها كما يجوز أن تكون هذه الدنيا، يجوز أن تكون الآخرة، فإن الخوف منه تعالى هنا ينتهي إلى التعذيب الدنيوي، كحدوث الزلازل والطوفان وطغيان الناس عليهم وغير ذلك، وفي الآخرة ينتهي إلى جهنم والجحيم والنار - نعوذ بالله تعالى منها - فإنها من غضب الله، بخلاف ما في الدنيا، فإنه نعمة منه تعالى. ومما ذكرنا يظهر: أن الأنسب كون العهد في الجملتين من ناحية الله، لأنه قال: (لا ينال عهدي الظالمين) (1)، ولأنه أرسل إليهم الرسل والكتب المشتملة على القرارات والمقررات، حفظا للنظام والسياسة الجزئية والكلية. فما في كتب القوم من التفصيل، أو قول التفتازاني: من كون العهد من قبل الخلق (2)، خال عن التحصيل جدا. وفي قوله تعالى: (أنزلت) أيضا دلالة على صحة نسبة الأفعال والأشياء إليه تعالى، مع أنه قال تعالى: (نزل به الروح الأمين) (3)، والنسبة في الآيتين حقيقة، إلا أنها بالنسبة إليه تعالى لأجل أن الروح الأمين - وجودا وكمالا - منه تعالى، والفعل الصادر عنه بما أنه محدود، وفي جهة من جهات العالم، أنسب إليه من الله تعالى، لكون الصادر عنه غير واقع في جهة من الجهات، وإليه ربما يشير العارف الشيرازي: شهريست پر كرشمهء خوبان ز شش جهت * نقديم نيست ورنة خريدار هر ششم (4).

البحث الرابع: حول حقيقة تعلم النفس في قوله تعالى: (وأنتم تعلمون) بعد حذف المعلوم، دلالة على مسألة عقلية خلافية بين المشائين والإشراقيين: فذهبت الطائفة الأولى إلى جهالة النفس بدوا، واستكمالها في الحركة والتعلم بحضور مجالس أهل العلم، كي تنال الحقائق وتدرك الصور العلمية بواسطة الموجودات الاخر، وهي موجودة بالقوة، وفيه قوة الإنسان، وتصير كاملة بالتعقل والتفكر والتعلم سمعا وبصرا... وهكذا (5). والطائفة الأخرى: ذاهبة إلى أن النفس جامعة كاملة شاملة لكافة الصور العلمية والخيرات المجردة والحقائق الروحانية، إلا أنها محجوبة بالحجب الظلمانية، وجاهلة مع كونها الوجود البسيط الجامع، وإنما المعلم والواسطة يرفض تلك الحجب والوسائط، فيستنير بنور الذات الابتداعية والعلم الموجود بالفعل الابتكاري، فلا قوة تخرج إلى الفعلية ولا جهالة إلا من باب الجهل بالعلم، فهو كمال كامل بالفعل، وجمال جميل بالذات، ولا حق للمعاهد العلمية إلا من جهة توجيه الإنسان إلى أنه عالم ولا يدري، وكامل ولا يلتفت إلى كماله (6). وقد اختلف المفسرون فيما هو المحذوف هنا، غافلين عن احتمال آخر، وهو أنه ربما أريد الإيماء إلى أنهم هم العالمون بالأشياء كافة.

قد تم الفراغ في سحر يوم الجمعة عام (1397) شهر جمادى الأولى في النجف الأشرف على صاحبها آلاف التحية والسلام.


1- البقرة (2): 124.

2- روح المعاني 1: 242.

3- الشعراء (26): 193.

4- ديوان حافظ: 368.

5- راجع الشفاء (قسم الطبيعيات): 293، وشرح الإشارات 2: 353 - 358، الأسفار 3: 368.

6- راجع الأسفار 3: 487 - 492.