وجوه البلاغة والفصاحة

الوجه الأول: الارتباط بين الآيات ترى نهاية الانسجام وشدة التلائم بين هذه الآيات المتكفلة بدعوة بني إسرائيل، وتلك الآيات الراجعة إلى خلقة آدم وقصته، وقال الله تعالى بنحو عام (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) ثم أردف كلامه بقوله: (يا بني إسرائيل)، وخاطبهم بقوله: (ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) فاختار اختصاص اليهود وهم أشد عداوة للمسلمين وأكثر عنادا للإسلام، بعد تلك الطريقة الجارية السارية بالخطاب، شارعا في دعوتهم بلسان لين مذكرا إياهم بنعم الدنيا، وأنه تعالى يعاملهم بالوفاء بالعهد. فعلى هذا في هذه الآيات نهاية الربط مع ما سلف، بالوجه المناسب لغاية البلاغة ونهاية الفصاحة، وترجيح جانب هذه الطائفة لاهتمام الإسلام بدمجهم في المسلمين، لشدة خباثتهم وبغضهم وتوغلهم في الدنيا، فتشريفا لشأنهم كي يتمكن من تأثير الدعوة الإسلامية قدمهم على سائر الأصناف والنصارى مع أن في المدينة في عصر الوحي والتنزيل كانوا كثيرين، كما أنهم كانوا يترددون إليها لمقاصدهم، ولا داعي إلى القول بأنه خطاب عام، وإنما أخذ عنوان بني إسرائيل لكذا وكذا، وهكذا لا داعي إلى القول بأنه خطاب لأولاد الصلب من يعقوب، وفيهم النصارى، فإنها قليلة جدا.

الوجه الثاني: توجيه الخطاب إلى بني إسرائيل ومما يؤيد ما ذكرنا اشتمال هذه الآية وغيرها على نهاية لفت نظر المسلمين إليهم، فلذلك. صدرت الآية الشريفة باسم " بني إسرائيل " لا يعقوب أو غيره، كي يلتفتوا إلى شأنهم وخاصة العبودية لله تعالى، مع أن في أصل ندائه تعالى إياهم وخطابه بقوله تعالى: (اذكروا) وتعامله تعالى معهم في الوفاء، وتلطيفه لهم بأنهم لا يرهبون غيره، نبيا كان أو وصيا أو عدوا، بل إياه يرهبون فقط، ففي كل ذلك شأن لهم والتفات منه إليهم، مع أن في سورة الجمعة شبههم بالحمار يحمل أسفارا وقال الله تعالى: (قل يا أيها الذين هادوا) (1) مع أنه تعالى في ذيل تلك الآيات قال: (يا أيها الذين آمنوا) ووجه إليهم خطابه بلا توسط أحد.

الوجه الثالث: إضافة النعمة إلى بني إسرائيل ربما يتوهم أن الخطاب العام الشامل للسابقين واللاحقين، لا يناسب عصر النبوة الحقة الباقية، بعد كون المراد من النعمة هي تلك النعمة، مع أن اختصاص الإضافة بهم غير مناسب للبلاغة لأعمية الرسالة. وغير خفي: أن كل ذلك حذرا عن خصومتهم الملدة، وهم في الخصام متمادون وأعمية الخطاب للسابقين غير مسموعة، ومن تأخر فهو مندرج في هذه النعمة وتلك الإضافة لتعيين ضمائرهم إلى الحق ولتوجيه الأمة الإسلامية إلى كيفية المنهج في الدعوات الإسلامية، وأنه لاخير في كثير من دعواهم المشفوعة بالخشونة والبربرية. هذا، مع أن الأشبه كون النعمة أعم من نعمة الرسالة الخالدة، ورسالة موسى (عليه السلام)، وسائر نعم الله تعالى عليهم وعلى آبائهم، ومنها كونهم في المدينة وبعض ضواحيها من بني قريظة والنضير الذين كانوا من أولاد يعقوب - على ما قيل - وإن كان الأظهر هي نعمة الرسالة الخالدة، بشهادة شرافتها للذكر، ولإضافتها إليه تعالى، ولكونها نعمة عنده تعالى، ولمناسبة الجملة التالية (أوفوا بعهدي أوف بعهدكم)، وهكذا فلا يلزم على كل خلاف وجه من وجوه البلاغة. وربما يتوهم أو يقال: إن في الآية تذكيرا بنعمة رسالة موسى (عليه السلام)، وهو أبوهم ومنهم. وعندي أنه خلاف طريقة الدعوة، ضرورة أن إحياء التراث العلمي والأدبي يمنع عن الاعتراف بالحوادث الناسخة لتلك النعم والمناقب - والله العالم - فما في جملة من التفاسير الكبيرة والصغيرة غير ظاهر، فليراجع.

الوجه الرابع: ربط (وإياي فارهبون) بما قبله تخيل عدم التناسب بين الآية وما في ذيلها ممنوع، لأن كثيرا من اليهود وبني إسرائيل وهكذا غيرهم، يرهبون من أنفسهم في الاعتراف والوفاء بالعهد، فيخافون من الانفراد في الانسلاك في زمرة المسلمين، فعند ذلك يصح أن يقال: (وإياي فارهبون)، ولا تلاحظوا في مسيرتكم إلى الحق ما هو الباطل وما هو الوسوسة والشيطنة.

الوجه الخامس: ترغيب بني إسرائيل في الإسلام تكرار الأمر في الآية السابقة وفي صدر الآية الثانية، فيه - مضافا إلى تلطيفه تعالى، لأن في ذلك شموخ أمرهم وعظم خطرهم والاهتمام بخطبهم وهدايتهم - أن الإسلام يحتاج إلى اندماجهم ولحوقهم، مع أن في الإيمان بالقرآن إيمانا بما انزل إليهم وما معهم من التوراة وغير ذلك، كما أن في نهيهم عن الكفر الخاص أيضا تحذيرهم الناطق عن حب الرب لهم، وأنه تعالى لا يحب أن يكونوا أول كافر بالحق، فعليهم أن يلتحقوا بالإسلام، كي لا يكون كفر الآخرين تبعا لكفرهم، واتباعا لسوء اختيارهم. وفي قوله تعالى: (مصدقا لما معكم) نهاية البلاغة والترقيق لعواطفهم، وأنه كتاب لا يضادكم ولا يتهمكم في سيرتكم وسيرة أسلافكم وآبائكم.

الوجه السادس: حول الإتيان بقيد " الأول " ربما يخطر بالبال أن قوله تعالى: (أول كافر به) وقوله تعالى: (ثمنا قليلا) يشعر بجواز الكفر الثاني والمتأخر، أو بجواز النفاق، بأن يعترفوا ظاهرا كي لا يكونوا أولا في الكفر، ويرمز إلى جواز المبادلة على الثمن الكثير، وهذا خلاف البلاغة والوعظ، وضد المطلوب قطعا. وقد عرفت: أن اعتبار الأول بالقياس إلى أنهم مخصوصون بالخطاب، وكأنهم أول من توجه إليه الكتاب شرافة وتشريفا، فلابد من نهيهم عن كونهم الأول في الكفر به، فاغتنم، وهذا أحسن مما في " المنار " (2) وغيره. وأما ذلك الثمن هي التوراة - كما تأتي الإشارة إليه - لتحريفها، ولكون ما عندهم قليلا منها، وفيه التورية، فإنه قليل واقعا بالنسبة إلى القرآن، وقليل عندهم لما لم يكن عندهم كله على ما هو المعروف، فليراجع. والله العالم. فما قد يقال: إنه أريد به تضعيف الدنيا وزبرجها وأبيضها وأصفرها، وأنه كل شئ بحذاء الكتاب المذكور قليل، فهو مضافا إلى أنه أمر ادعائي بحسب النفوس البشرية، ولا سيما بني إسرائيل، وفيه نوع تعزير حسب ظنونهم أنه تحريك على ضد الجهة المطلوبة، وهي هدايتهم، مع أنه لم يكن مبادلة بين أمر دنيوي والإيمان بالضرورة. وفي ختم الآية بقوله تعالى: (وإياي فاتقون) أيضا إشعار بأنه تعالى معهم يؤيدهم ويرزقهم، فلا تخافوا من هذه الناحية إذا أسلمتم وآمنتم، وربما كانوا يرون معيشة المسلمين وكيفية ارتزاقهم وهذا أمر يهمهم بالخصوص، فربما كان بعضهم يرى أنه لو التحق بالمسلمين يمنع عن الإرث، لكونه من الارتداد عندهم، فذكروا بأن الخوف لا يجوز إلا من الله القادر المتعال العزيز الرحيم.

الوجه السابع: تغيير التعابير في الآيات من فنون البلاغة التعبيرات المختلفة وسلوك جواد شتى وإفادة المعاني بطرائق كثيرة، كي يهتدى الضال ويلتفت الواقع في الباطل إلى ضوء الحق، ومن ذلك ترى أنه تعالى يقول أولا: آمنوا بما أنزلت واتركوا الضلال والغواية والكفر، ولا تشتروا الإيمان ومظاهره وآثاره وآياته بالثمن البخس دراهم معدودة، وهذا هو الحق وخلافه الباطل، فلا تلبسوا الحق بالباطل بتقديم الحق في الجملة وتقديم الآيات في الآية السابقة وبتكرار الحق دون الباطل، فإنه ملبوس بالحق ومكتوم عليه، وفان وعاطل، فلا يذكر ثانيا عند قوله تعالى: (وتكتموا الحق)، فكل ذلك ترقيق لبيان الحق وإفناء الباطل إلى أن انتهى في الجملة في سيرة الطبيعي، الذي شرع عند قوله: (ثمنا قليلا) إلى أن ذهل عنه بالمرة عند قوله: (وتكتموا الحق). وفي ختم الآية بتشريفهم بالعلم أيضا تعظيم لهم، كي يهتموا بما هو المقصود من التوجيه والإرشاد، فاغتنم. مع أنهم متوغلون في الجهالة، إلا أنه إحياء لارتكازهم ورجوعهم إلى كتابهم المصرح بنبوته (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم أردف مثال الحق والحقيقة وضم الواقعية، بذكر الصلاة والزكاة والركوع والخضوع للإسلام مع الجماعة الراكعين، والإقرار والاعتراف بالكتاب الناسخ، وبهذه النسخة الخالدة. وهذا أيضا من وجوه البلاغة والخطابة من ذكر العناوين الأولية العقلية، وهو الحق والباطل، ثم تطبيقهما على ما عنده، وهو الصلاة والركوع والزكاة ونسيان الأنفس في البر بعد كونهم آمرين به وهادين للناس إليه.

الوجه الثامن: حول نفع الآية العام من أحسن وجوه البلاغة أن يكون الكلام والمخاطبة مع الطائفة الخاصة، على وجه يلتفت إليه كل من يسمع، وهذا لا يمكن إلا مع اشتمال الخطابة على التوجيهات المعللة بعلل سارية عامة، إنسانية ارتكازية أخلاقية أو إدراكية عقلية فكرية. وأنت إذا تدبرت في أن يهود المدينة أنكروا بنحو الترديد المقارن للكفر، ثم أتبعهم يهود بني قريظة، ثم بنو نضير، ثم خيبر، ثم سائر اليهود، وإذا تأملت في أن أحبارهم طرف الخطاب بدوا، لأنهم يعرفون ويتمكنون من لبس الحق بالباطل وكتمانه، وهم يعرفون أن التوراة في صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صرحت: بأن الله يقيم من اخوتهم نبيا يقيم الحق، فقال الله تعالى: (لا تلبسوا الحق) وقال في التوراة: أحسنوا فيما تكلموا وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوحيه... وهكذا، فقال الله تعالى خطابا إليهم: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب) الذي فيه هذا الأمر الواضح. ولكن لمكان قوله تعالى: (وأنتم تعلمون) وقوله: (أفلا تعقلون) يتبين أن كل عاقل وعالم وظيفته ذلك، فالأوامر الكثيرة في هذه الآيات والنواهي المتعاقبة أعم. ومن هنا تندفع مشكلة تتوجه على بلاغة الكتاب العزيز، وهو أن في أثناء توجيه اليهود إلى الإسلام وإلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المصدق لما معهم، لا يناسب قوله تعالى: (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين * الذين يظنون...) إلى آخره مع سائر الآيات السابقة، ولعل إعادة الخطاب بعد ذلك بقوله: (يا بني إسرائيل) تشهد على خروج الكلام. ولكن ليس الأمر إلا من جهة أن البيان أعم من اليهود وغيرهم، فيرمز إلى الأعمية في الأثناء، كما تبين الأعمية في الآخر، فيعيد الخطاب كي يتبين الأمر في كيفية توجيه الضالين، وفي حسن الخطاب، واختيار أحسن الأساليب.

الوجه التاسع: اللطف في (تنسون أنفسكم) في قوله تعالى: (وتنسون أنفسكم) لطف غريب، وهو أنه من جهة المسلمين هم ينسون أنفسهم، لكونهم في الباطل وعدم أمرهم بالبر، وقيل: كانوا يقولون ما لا يفعلون ليلا ونهارا. وأما من جهة اليهود وأحبارهم، أي هم ينسون بأن يأمر بعضهم بعضا بالتوجه إلى ما عندهم من الصراحة في التوراة على هذا الرسول الأعظم، فهم يتلون الكتاب ويقولون: يأتي، ولا يعقلون أنه قد أتى، فمتى يأتي بعد ذلك مع أنه يتكلم بما أشير إليه، وكانوا يعتقدون مجيئه بعد خمسمائة سنة، غفلة عن الآيات البارزة والظاهرة، وعن التوراة الموجودة عندهم والإنجيل مثلا. فتلك الآيات توجيه لجميع الجوامع البشرية، وهداية لكافة الموجودة.

الوجه العاشر: حول الأمر بالصبر ربما يخطر بالبال أن الصبر هنا إشارة إلى ما كانوا يخافون منه المشار إليه بقوله تعالى: (وإياي فارهبون)، (وإياي فاتقون)، أو يناسب الصوم، ولا بأس بكونه للأعم أخذا بمناسبة الصدر والذيل، وهي الصلاة، ولكن هناك أخطار أخر هو توصيف الصلاة التي ليست إلا أفعالا جزئية لا تطول إلا دقيقة أو دقيقات، وهذا غير معهود، فلا يصح ذلك، ولا سيما بقوله: (لكبيرة إلا على الخاشعين)، والاستثناء يدل على أنه ليس بنحو الادعاء والمجاز، المتعارف في سائر الأساليب الكلامية. وعلى هذا لابد من حل المشكلة وهو: أن ما نجد في أنفسنا - معاشر المصلين - أن الصلاة - مع أنها خفيفة الأفعال والأقوال، وقصيرة الوقت والأوان صعبة جدا مستصعبة حقيقة على الإنسان وتكليف شاق واقعا، وما هو إلا لاحتوائها على المعراج الحقيقي، واشتمالها على الرجوع إلى الله والحضور عنده تعالى، فكان كبرها مربوطا بعالم آخر غير عالمنا، وهذا من معجزات الكتاب الكريم، فكيف يدرك هذه الثقالة فيها المحسوسة عند الإتيان بها، مع أنه لا يحس ذلك بحسب مقام الدنيا والاشتغال، وإلا فهو أمر بسيط خفيف جدا في مقابل سائر المشاغل الدنيوية والأعمال اليدوية والجسمانية ؟! والله هو المحيط.

الوجه الحادي عشر: تكرار الآيات مع اختلاف يسير ترى أن هذه الآيات قد تكررت مع اختلافات يسيرة، ففي نفس هذه السورة: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) (3)، وقوله: (أوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) (4) و (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا) (5)، و (آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم) (6)، وقوله: (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) (7)، و (لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا) (8)، و (لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) (9)، و (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) (10)، و (قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله) (11) وغير ذلك. فإنك ترى في الكتاب الإلهي - مضافا إلى تكرر القصص، ولا سيما قصة موسى، ومضافا إلى تكرر الآية الواحدة في سورة كرارا - ترى الآية الواحدة أحيانا في موقفين، أو الجمل الوحدانية في مواضع غير عزيزة. والمشكلة من الناحية الأولى قد انحلت في مسألة إعجاز الكتاب العزيز، والكلام في المشكلة من الناحية الثانية يأتي في سورة الرحمن وغيرها، كسورة الفتح والمرسلات وغيرها. وأما من الناحية الثالثة فالإشكال: هو أن ذلك خلاف القدرة التامة على أساليب الكلام والاستيلاء التام على بيان المرام، ويضاد البلاغة المترقبة من الكتاب المبين المتحدي به خالدا، وهذا يومئ إلى نحو عجز في الإفادة، أو جانب من الضعف في إبراز المقصود، وكل ذلك بعيد عن ساحته المقدسة. وإن شئت نظرت إلى قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) (12). وقوله: (واتقوا يوما لا تجزي نفس...) (13) إلى آخر الآية، ثم يقول بعد آيات أيضا: (يا بني إسرائيل...) إلى آخر الآية الثانية، إلا في بعض يسير، فراجع، ولعمري إنه عجيب. ولعل ما عن ابن عباس: من استثناء (واتقوا يوما) من كونها مدنية (14) مع الإجماع على مدنية البقرة، كان للإيماء إلى أنها أضيفت إليها، ووقعت في غير محلها، وهذه المرتبة من التحريف مما يلتزم به جمع، لكثرة الابتلاء بها في الكتاب العزيز. ولكن - بعد اللتيا والتي - إن من يعرف موقف القرآن السماوي، وأنه رسالة هداية البشر إلى السعادة بطريق النصيحة والخطاب، وإحياء المرتكزات الإنسانية والفطرة المخمورة، المحجوبة ببعض مراحل الحجب القابلة للمحو الإفناء، يجد أن أمثال هذه المكررات المنسجمة المتناسقة مع الأرواح، الملائمة للذوق والشوق العربي وغير العربي، ليست على خلاف دأب المتكلمين وأرباب الوعظ والإرشاد وأصحاب الخطابة والبلاغة. فإن هذه الموسوعة الخالدة الباقية اشتملت على كلية الجهات اللازمة في سير الإنسان الناسوتي إلى الملأ الأعلى الكروبي، ومع كونها في هذا الموقف تضمنت كلمات متقاربة متشابهة ومتكررة، كي تلتفت الروح إلى أن المسيرة واحدة، والسير والصراط على مستوى فارد بلا عوج ولا أمت. هذا، مع أن تكرار المضامين بألفاظ متقاربة، أو تكرارها بقوالب خاصة مسانخة مع أسماء المستمعين، مما لابد منه، وذلك لضيق مجال الكلام ذاتا، مع أن اختيار الألفاظ المعقدة والبعيدة المحتاجة إلى قواميس اللغات، إتعاب في المطلوب وتبعيد للمسافة وإزعاج للروح وإفناء للعمر وإضلال لعوام الناس.

الوجه الثاني عشر: الانسجام بين هذه الآيات بعد ما أمعنت النظر في كيفية ربط هذه الآيات مع ما قبلها، ترى أن بينها أيضا نهاية الانسجام، فإنه تعالى أولا ابتدأ بلفت نظر تلك الطائفة ومن يصغى إلى هذه الآيات من غير هذه الفرقة إلى الإيمان بالعهد العام، من التوحيد على أنحائه المحررة البالغة إلى ستة عشرة - حسب ما أوضحناها في بعض تحريراتنا العرفانية والفلسفية - ثم بعد ذلك، وبعد ما وعظهم بالنعمة الكلية الجامعة، شرع في تنبيههم إلى الرهب منه فقط، وهو اللطيف الرؤوف في هذا الموقف. ثم بعد ذلك شرع في إرشادهم إلى الإيمان القلبي بالرسالة وبالمعجزة الخالدة، وحذرهم من الكفر والسوء... وهكذا، وبعد تلك الأمور القلبية التوحيدية والأخلاقية وجههم إلى الفرار عن الأعمال السيئة كالاشتراء والتلبيس وكتمان الحق بأخذه تعالى في إحياء علمهم بهذه الأمور الباطلة ولزوم اتباعهم عن معلوماتهم، وحيث إن التخلية مقدمة على التحلية في مرحلة الحكمة العملية، نهاهم عن جملة من الأمور السيئة، ثم أمرهم بالأفعال الصالحة والأعمال الإسلامية كالصلاة وغيرها. فهذه الآيات الشريفة جامعة للجهات الذاتية والصفاتية والأفعالية والاجتماعية بالركوع مع الراكعين في صفوف الجماعات المنعقدة. ومع ذلك لم يكتف بما مر وأتى في آخر هذه المجموعة الجامعة من الآيات المذكورة بالالتفات إلى الدار الآخرة، وأنها الحيوان لو كانوا يعلمون، كيف لا ؟! وفيها لقاء الله والرب في وجه مألوف عند أهله، كما يأتي - إن شاء الله تعالى - فهذه المسافرة البشرية من البدو إلى الختم سعادة كلية بمراحلها: الروحانية والذهنية والجسمية والعينية والفعلية والخلقية والعملية، وآخر هذا السفر القيم لقاء الله والنزول عند الله والهبوط في منزله الرفع الأعظم والرفيق المكرم.

إفاضة

اعلم أن كثيرا من وجوه البلاغة أو أسئلة أهل الأدب القديمة والجديدة حول الآيات، وأنه لم أتى بالمفرد، دون الجمع أو العكس، أو أتى بالتقديم دون التأخير، أو أتى بالمعرفة دون النكرة، وبالعكس، أو أتى مؤكدا أو غير مؤكد؟وهكذا كلها ولو كانت في آية ما يذكرونه جميلا وبليغا وفصيحا تخيلا، ولكنهم يتلون بالآيات الاخر، مع عدم الاطلاع على مهابط الوحي ووجوه التنزيل، والذي هو المهم أن للكتاب الإلهي نمطا خاصا وموسيقى، وبالاصطلاح " نوتا "، وهي مهمة المتكلم لاغير، كما مر تفصيله.


1- الجمعة (62): 6.

2- راجع تفسير المنار 1: 291 - 292.

3- البقرة (2): 40 و 47 و 122.

4- الإسراء (17): 34.

5- النحل (16): 95.

6- النساء (4): 47.

7- البقرة (2): 41، المائدة (5): 44.

8- آل عمران (3): 199.

9- آل عمران (3): 71.

10- البقرة (2): 153.

11- البقرة (2): 249.

12- البقرة (2): 40 و 47 و 122.

13- البقرة (2): 48.

14- تفسير ابن كثير 1: 592.