الإعراب وبعض المسائل النحوية

قوله تعالى: (إياي فارهبون) فيه إشكال، وهو لزوم كون الضمير المحذوف مؤكدا للمذكور، وهو غير معهود، ولا يمكن أن ينصبه المذكور، فلابد من محذوف يدل عليه المذكور، فتلزم الجملة المكررة، أي ارهبوا إياي فارهبون. وعلى هذا يتعين قراءة فتح النون، ولو كان " إياي " مبتدأ فدخول الفاء على الخبر الغير المشتمل على الشرط، أو غير القائم موضع الشرط، أيضا غير سديد، كما تقول: زيد فقائم، فإنه يشبه الغلط ولو صرح في موضع به الشارح الرضي (رحمه الله) وجوزه، مع أن ما هو المفعول واقعا لا يعتبر مبتدأ، فتأمل. والإنصاف: أن التأكيد اللفظي لا ميزان له، ويتبع البلاغة، وهو هنا جائز، سواء كان الضمير للضمير أو الجملة للجملة، وأما نصب " إياي " فهو عندنا بالفعل المتأخر، لأنه مثل ما إذا قيل: ضربت زيدا زيدا، أو تقول: زيدا ضربت زيدا، فما عن السجاوندي (1) فاسد، ومما ذكرنا يظهر مواضع اخر كما يأتي في (إياي فاتقون). قوله تعالى: (ولا تكونوا أول كافر به) يتخيل هنا مشكلة عدم تطابق الخبر والمبتدأ في الجمع والإفراد. والجواب كما في الأرجوزة وإن لمنكور يضف أو جردا * الزم تذكيرا وأن يوحدا (2) فقد عرفت أن كلمة " أول " أفعل التفضيل لا الوصف، فاغتنم. قوله تعالى: (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) فيه معضلة الجمع بين الباء الداخل على المثمن وبين مفهوم الثمن، مع أن " اشتريت " يتعدى بنفسه، فلو كانت " الآيات " مفعولا به يلزم الخروج عن القاعدة، مع أن حذف الحرف الجار من كلمة " ثمنا " أيضا خلاف القاعدة، لأنه لا يجوز نصبه إلا من باب نزع الحرف الجار، وهو مقصور على موارد خاصة، وليس مطابقا للقاعدة، كما في الأرجوزة. وتنحل المعضلة: إما بأن النظر في الاشتراء إلى المبادلة لمجازية الشراء، لإفادة المجازية والتبادل اتي بالباء على المفعول به. أو يقال: دخول الباء جائز ولو كان يتعدى بنفسه، لكونها للتأكيد، كما تدخل على الفاعل، نحو قوله تعالى: (وكفى بالله شهيدا) (3). وأما نصب الثمن فيمكن أن يقال: إن موارد الاستثناء المذكورة مخصوصة بالكتاب العزيز، وما نحن فيه من تلك المواضع، والأقرب أن الجاهل يشتري الثمن بالآية، كما في الآية الأخرى (إشتروا به ثمنا) (4) وكانت الأثمان في تلك الأعصار من الأمتعة والسلعات. قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة...) إلى آخره فيه المشكلة من ناحية أن الاستثناء المفرغ مخصوص بالجمل السلبية لا الإيجابية، ومن ناحية مجهولية مرجع الضمير في قوله تعالى: (وإنها لكبيرة). وتنحل الأولى: لا بما قيل - على ما ببالي في بعض التحريرات النحوية - من رجوع الجملة إلى أنها بحكم السلب، أي أنها ما كانت صغيرة على الناس إلا على الخاشعين، فإنه بعيد عن الصواب، بل ما قيل: من اختصاص المفرغ بالسلبية، فهو في مثل السلبيات البسيطة، مثل قوله تعالى: (لا إله إلا الله) حيث لا يشتمل على أداة، بخلاف ما نحن فيه، فإنها لمكان اشتمالها على كلمه " على " كما تقول: إن لهذه الطائفة مكرمة إلا عند الجاهلين. وعلى كل ليس يخفى على أهله: أن أمثال هذه النكات والمناقشات الأدبية على الاستعمالات القرآنية، من قلة التدبر، لأن تلك القواعد اتخذت من لدن هذا الذكر العظيم حسب الأغلبية، فلا وقع لهذه، فتدبر.

تنبيه

في قوله تعالى: (أنزلت مصدقا) احتمالات، وهكذا قوله تعالى: (وتكتموا الحق)، وقوله تعالى: (وتنسون أنفسكم) من كون " مصدقا " حال عن الضمير المحذوف، أو الضمير المتكلم المذكور، أو بحكم التمييز، أي آمنوا بما أنزلت من حيث كونه مصدقا لما معكم، ويحتمل كون " ما " مصدرية، وهو بعيد. ومن كون جملة (وتكتموا) عطفا، لا حالا قبل الحال الأخرى. وأما جملة (وتنسون أنفسكم) ففيها الاحتمالان. فما قيل: من كون جملة " وتكتموا " عطفا على الظرفية منصوبا ب? " أن " المقدر (5) فاسد، لخروجه عن العربي المبين جدا.


1- البحر المحيط 1: 175.

2- راجع الألفية، ابن مالك: مبحث أفعل التفضيل، البيت 4.

3- النساء (4): 79.

4- آل عمران (3): 187.

5- البحر المحيط 1: 179.