اللغة والصرف
الآية الأربعون إلى الآية السادسة والأربعين من سورة البقرة قال تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ، وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ، وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ، وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ، أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ، وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾
وهناك مسائل:
المسألة الأولى: حول كلمة " بني " اختلفوا في أصل " بني ": فعن الزجاج وكأنه من " بنيت " (1)، وعن الأخفش: أنه من البنوة كالفتوة (2)، وعن المشهور أصله من الابن، والفتوة يائي وليس واويا (3)، وقيل: هي جمع " ابن "، يشبه جمع الكثرة لتغير مفرده ولذلك الحق في فعله تاء التأنيث، أي يقال: قالت بنو عامر، وهي تختص بالذكور وإذا أضيف تعم الإناث والذكور في العرف (4)، كما عن الساليكوتي: أنه حقيقة في الأبناء الصلبية (5)، ولذلك هو من البناء، لأن الابن فرع الأب ومبني عليه، ولهذا يقال للقصيدة: بنت الفكر، فيعلم منه أنه أمر عام ومعنى شامل، وإنما اختص بالأولاد لكثرة الاستعمال والتناسب. ويؤيد ذلك: أنه قد اطلق في بعض الشرائع السابقة " أبناء الله "، ولأجل إيهامه الكفر في الحال منعوا جوازه (6). وبالجملة: هو ناقص الياء، ومن الغريب ما عن الجوهري - تبعا للأخفش - من أنه ناقص الواو (7)، وربما يجوز الاستدلال على أنه واوي بأنه يجمع على " بنون " والجمع يرد الأشياء إلى أصولها (8). وفيه: أن ذلك في الجمع المكسر، لا الصحيح، ولا شبه المكسر، مع أنه ربما يجمع على " إبنون " ويأتي مصغرا " أبين " كما في قول الشاعر: ابينوها الأصاغر خلتي. وهذا التصغير أيضا شاذ، ولا يشهد هو ولا جمعه على شئ. وقال ابن مالك: وفي اسم است ابن ابنم سمع * لاثنين أو جمع وتأنيث تبع (9) ويحتمل كون المفرد " أبن " بالفتح لفتح الأب والأخ، والذي هو الأشبه أنه من البناية والبنية، لأنه بناء بناه الأب، فيكون يائيا بالضرورة، مع أنه لم يأت " بنى يبنو "، فراجع. ولعل مجئ البنوة لمقايستها بالاخوة، أو لكونه إشعارا بأنه أمر متوسط بين السماعي والقياسي، فاغتنم. والأشبه أنه موضوع لما من الأصلاب، فما يظهر من الكتاب العزيز من التقييد (أبنائكم الذين من أصلابكم) (10) محمول على التأكيد، لرفع الإبهام والإجمال، لما أن المسألة مما يهتم بها لكونها من باب الأعراض.
المسألة الثانية: حول كلمة إسرائيل إسرائيل، إسرائل، إسرأل، إسرئل، إسراييل، إسرال بالألف الممالة، إسرائين (11)، كسجيل وسجين، وجبريل وجبرين، وتجمع - على ما قيل - على " أسارلة "، " أساريل "، " أسارل ". ولا يبعد أن يصير علما بالغلبة ليعقوب (عليه السلام)، من غير كونها علما له من الابتداء، لأنه مركب يقوم مقام عبد الله في العربي فإن " ئيل " هنا ك? " ئيل " من " جبرئيل " و " عزرائيل " و " ميكائيل "، ويحتمل كون كلمة " إسراء " عربية لا عبرية، لكون سورة الإسراء تسمى سورة بني إسرائيل، فأخذت من كلمة (سبحان الذي أسرى بعبده) فاغتنم.
المسألة الثالثة: حول كلمة " اذكروا " ذكر الشئ ذكرا - بالكسر - وتذكارا - بالفتح - حفظه في ذهنه، وذكر الشئ بلسانه: قال فيه شيئا، وهو يتعدى إلى مفعوله الثاني مرة باللام، ومرة ب? " على " (مما لم يذكر اسم الله عليه)، والذكر - بالضم - التذكر، وقيل - والقائل هو الكسائي -: المضموم مخصوص بالقلب، والمكسور باللسان. انتهى ما في " الأقرب " (12). ويتوجه على جملة الأفاضل خلطهم بين المصدر واسم المصدر، فإن المكسور هو المصدر، والثاني من غير الثلاثي مأخوذ، ويكون اسم المصدر، كما هو دأبهم، ومذكور في كتب الصرف، وإليك " الذكرى " فإنه اسم من الإذكار والتذكير، كما في " الأقرب " (13)، وقد مر شطر من البحث حول هذه القاعدة، فالأصل هو الذكر بالكسر، ولذلك نرى أنه لم يأت في القرآن العظيم بالضم ولو مرة، ولعله يوجب وهن المضموم وعدم أصالته، أو سوء أدب العرب الجاهلين، وإلا كان يناسب أن يؤتى به في القرآن العزيز الذي به أحيي أدب العرب، وأبقي إلى يوم القيامة. ثم إنه يستشم من موارد الاستعمال ولا سيما من قوله تعالى: (لم يكن شيئا مذكورا) (14) أنه ليس بمعنى التحفظ واليقظة والالتفات، وضد النسيان والسهو والغفلة وغير ذلك، بل هو أعم، فإن الكل مشترك عند عدم الوجود و " الليس " التام، فهو في موقف مفاد " كان " التامة - حسب اصطلاحهم - وإلا ف? " كان " التامة من الأكاذيب، ولكنه خلاف المتفاهم، ولعل في الآية يكون النظر إلى أنه لم يكن يعتنى به ويذكر، ويكون له المعيشة الحضارية الاجتماعية كي يتكلم حوله، فليتدبر.
المسألة الرابعة: حول كلمة " العهد " قد مر الكلام حول " النعمة " عند قوله تعالى: (أنعمت عليهم)، ويأتي - إن شاء الله تعالى - تحقيق " الوفاء " عند قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود). وأما " العهد " فقيل - كما في " الأقرب " (15): - إن أصله الحفظ والرعاية حالا بعد حال، وهو مختار الراغب الأصفهاني (16)، وهو غلط، لأن من العهد ما هو لازم، ومنه ما هو متعد، فلابد من الالتزام بالأصلين، فإن العهد بمعنى " الوصية " يتعدى ب? " إلى "، بخلاف العهد بمعنى الوفاء والحفظ، فإنه يتعدى بنفسه. نعم يمكن أن تكون لفظة " العهد " موضوعة لمعنى محصول هو نتيجة المعنيين، وذلك هو القرار، فإنه يحصل من المعاملة والمعاهدة والمحافظة، كما يحصل من الوصية، فهو أولى بكونه أصلا محفوظا في جميع مشتقاته، سواء كان من قبيل قوله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) (17)، أو قوله: (كلما عاهدوا) (18)، أو قوله تعالى: (إن العهد كان مسؤولا) (19) ويؤيد ذلك ما اشتهر أن العهد والعقد متقاربان أو متساوقان، إلا أن العقد هو العهد المشدد، وسيأتي توضيح المسألة بمزيد بيان - إن شاء الله تعالى - عند قوله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين).
المسألة الخامسة: حول كلمة " أول " قال الراغب عن الخليل: تأسيس الأول من همزة وواو ولام، فيكون " فعل "، وقيل: من واوين ولام، فيكون " أفعل "، والأول أفصح، لقلة وجود ما فاؤه وعينه حرف واحد ك? " ددن "، فعلى الأول يكون من آل يؤول، وأصله آول، فأدغمت المدة لكثره الكلمة، وهو في الأصل صفة (20). والذي يظهر لي: أن " الأول " في مقابل " الآخر " من أسماء الفاعل، وفي مقابل " الآخر " بالفتح و " الأخرى " اسم التفضيل، فعلى الأول مذكور في قوله تعالى: (هو الأول والآخر) (21)، فيكون على وزن فاعل " آول "، فأدغمت الهمزة - بعد ما صارت واوا - في الواو الثاني، وعلى الثاني على وزن " أفعل "، والأمر سهل.
المسألة السادسة: حول كلمة " اشتراء " " الاشتراء " كالشراء يأتي بمعنى التمليك والتملك والتبديل وقبوله، وفي كون الأصل فيه هي المبادلة في الأموال العرفية الاعتبارية، أو هو لمعنى أعم، إلا أنه كثر في البيع والشراء المتعارفين في عصرنا، وجهان. لا يبعد الأول، فلا مجاز في إسناده. إلا أن يقال: إنه ولو كان الأصل أعم إلا أن كثرة استعماله في الأخص أورث هجران الأعم الأصل، فصار مجازا فيه، ومحتاجا إلى القرينة. أو يقال: الأمر كذلك في هذه الأعصار، دون عصر النزول، أو إن محيط المعاملات غير محيط الاستعمالات، ففي كل محيط يكون معنى الأصل والفرع محفوظا. فما يقال: إنه في القرآن العزيز مجاز، غير واضح جدا. وعندئذ لافرق بين الاشتراء والشراء. نعم ربما يوهم إدخال كلمة الباء في الاسم الأول في قوله تعالى: (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) أن هذه الكلمة مجاز، ولإفادة المجازية وتأريخ حركة اللفظ من الحقيقة إلى المجاز، ادخلت الباء، كي يتوجه الملة الإسلامية إلى حدود تحفظ الكتاب العزيز. والله العالم.
المسألة السابعة: حول كلمة " لبس " لبس عليه الأمر: خلطه وجعله مشتبها بغيره، ولبس - علم - الثوب: استتر به (22)، واللبس يأتي بمعنى التغطية والالتباس، دون اللبس، فإنه مخصوص بالتغطية، ولكن في " المفردات " اللبس - بالفتح - بمعنى ما يلبس (23)، وهو غلط. نعم أصل اللغة هو التغطية، إلا أنه تارة غطاء البدن عن البرد والحر، واخرى غطاء الحقيقة عن البروز والظهور. وقوله تعالى: (بل هم في لبس من خلق جديد) (24) لا يلائم الالتباس، ويناسب التغطية واللباس، كما يظهر بأدنى التفات.
المسألة الثامنة: حول كلمة " ظن " " ظن " - باب نصر - زيدا: اتهمه، والشئ: علمه واستيقنه، وتأتي للدلالة على الرجحان، وهذه هي الداخلة على المبتدأ والخبر، مثل رأى وعلم وغيرهما " الأقرب " (25). وقال الراغب: الظن اسم لما يحصل عن أمارة، ومتى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت جدا لم يتجاوز حد التوهم (26). وبالجملة: معنى اللغة واضح، والذي يظهر لي: أنه كثيرا ما استعمل في موارد الاعتقادات الباطلة المتيقنة عند أهلها، فكأنه موضوع لأمر فيه الوهن، إما من جهة اقترانه بالاحتمال والشك، أو من جهة بطلان متعلقه، ولا أقول: هو حقيقة في ذلك وإن كان لا يبعد، كما أن اليقين يراد منه العلم المطابق للواقع وإن لم يكن حقيقة فيه، كما هو الواضح، بل والعلم كذلك، أو هو أولى بذلك، لأنه نور يقذفه الله في قلب من يشاء (27)، بخلاف القطع، فليلاحظ. فسيمر عليك - إن شاء الله تعالى -: أن قوله تعالى (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) (28) من الظن المخطئ على الظاهر. والله العالم.
المسألة التاسعة: حول كلمة " الملاقاة " لاقاه ملاقاة: قابله وصادفه، ويوم التلاقي: القيامة، وأصل اللقاء: التماس، إلا أن التماس - من جهة عدم اعتبار الفكرة في المس - أعم، واللقاء أخص. وقيل: يأتي بمعنى الرؤية (29). وفي " المفردات ": يقال: لقيه يلقاه، ويقال ذلك في الإدراك بالحس وبالبصر وبالبصيرة (30). فلا يعتبر المماسة الجسمانية في مفهوم اللقاء، ولذلك فسره في " الأقرب " بالاستقبال (31)، فتحصل اللقية في الروحانيات.
1- الجامع لأحكام القرآن 1: 330، تاج العروس 10: 48.
2- نفس المصدر.
3- راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 330.
4- روح المعاني 1: 241.
5- نفس المصدر.
6- نفس المصدر.
7- روح المعاني 1: 241، الصحاح 4: 2286.
8- الصحاح 4: 2286.
9- راجع الألفية، ابن مالك: فصل في زيادة همزة الوصل، البيت 4.
10- النساء (4): 23.
11- الجامع لأحكام القرآن 1: 331، روح المعاني 1: 241.
12- أقرب الموارد 1: 370 - 371.
13- راجع أقرب الموارد 1: 371.
14- الإنسان (76): 1.
15- راجع أقرب الموارد 2: 842.
16- راجع المفردات في غريب القرآن: 350.
17- البقرة (2): 124.
18- البقرة (2): 100.
19- الإسراء (17): 34.
20- المفردات في غريب القرآن: 31.
21- الحديد (57): 2.
22- أقرب الموارد 2: 1125.
23- راجع المفردات في غريب القرآن: 447.
24- ق (50): 15.
25- راجع أقرب الموارد 2: 733.
26- راجع المفردات في غريب القرآن: 317.
27- انظر بحار الأنوار 1: 224.
28- البقرة (2): 46.
29- راجع أقرب الموارد 2: 1157.
30- المفردات في غريب القرآن: 453.
31- راجع أقرب الموارد 2: 1157.