الإعراب وبعض البحوث النحوية
(وإذ قال ربك): فعن أبي عبيدة وابن قتيبة: زيادتها (1)، وكأنهم التزموا بالزيادة في جميع المواقف، وهذا واضح الفساد، ولو سلم عدم إمكان تصحيحه على وجه حسن، لا يلزم القول بالزيادة التي هي باطلة قطعا. وعن بعضهم: أنها بمعنى " قد " التقدير لا التحقيق (2). وفيه ما لا يخفى لو كان المراد أن " إذ " بمعنى " قد " على الإطلاق، ضرورة أنه كثيرا ما تدخل " قد " على الاسم. وإن أريد منه هنا " أو " في أمثال هذه الآيات، وفيه أيضا إشكال بل منع، لأن " قد " تأتي لمعنى واحد، وتعدد المعنى يحتاج إلى الدليل، ولا دليل عليه. وأما كونها مفعولا به للفعل المحذوف (3) في خصوص هذه الآية وأشباهها. ففيه: أن حقيقة المفعول به ما يقع عليه الفعل ويقبله، ومفاد " إذ " لا يتحمل ذلك في موارد الآيات والاستعمالات، مثلا إذا قيل: إذ نحن متألفون، وإذ ذاك كائن، لا يريد الأمر بالتذكر بالنسبة إلى قضية من القضايا، بل هي جملة أريد بها معناها في الحال، ومجرد مناسبة حذف جملة " أذكر " في بعض المقامات، لا يكفي لكونه مفعولا به للفعل المحذوف على الإطلاق، بل هو موضوع للزمان كما مر، وتكون ظرف زمان متعلق بالجملة المذكورة عقيبها، ويكون العامل فيها ما يذكر من الفعل، أو ما يناسب الجملة المذكورة المدخول عليها. وقد بلغت الأقوال في هذه الآية إلى الثمانية، والقول التاسع: أنه لمكان كونه من المعاني الاسمية الموضوعة للدلالة على قطعة من الزمان، يصح أن يصير في كل جملة ما يناسب تلك الجملة، فيقع مبتدأ وخبرا وهكذا كسائر المفاهيم الاسمية. وأما في هذه الآية الشريفة، فالأظهر - بمناسبة أنها صدر قصة من القصص التي يحكيها القرآن - يكون المحذوف كلمة " أذكر " أو " احك " أو " قل " وغير ذلك، وبمناسبة ذات الآية يكون العامل فيها ما هو في حكم الجواب، فإذا قيل: " إذ آذيتني أكرمتك " يكون متعلقا بكلمة " أكرمتك " وقت الإيذاء، ويكون ظرفا أي في وقت إيذائك إياي، وهنا يكون الأمر كذلك، أي قالوا في وقت وزمان قول الله لهم: (أتجعل فيها...) إلى آخره، فلا يكون مفعولا به في أمثال المقام على التقدير الأخير فليتدبر جيدا. واما الواو فليست عاطفة على الآيات السابقة - كما قيل (4) - بل هي بدوية استئنافية جئ بها لإفادة الفصل بين الآيات وانقطاع الربط والنظم، فما في " مجمع البيان " من التشبث بإفادة النظم بين هذه الآية وما سبقت (5)، ينافي ذلك ولا تناسق بين المعاني السالفة وهذا البحث الجديد جدا. قوله تعالى: (جاعل في الأرض خليفة) اختلفوا في أنه بمعنى التعيين، فيتعدى إلى مفعولين (6)، أو بمعنى الخلق فإلى مفعول واحد (7)، ومن الغريب ذهاب الأكثر إلى الأول، وإلى أن " في الأرض " هو المفعول الثاني، مع أنه غير معقول، لأنه ظرف لغو، ولا يكون الجعل المركب إلا وهو في ظرف من الزمان أو المكان، مثلا جعل زيد عمرا منطلقا، يكون قابلا لأن يتعلق به كلمة " في زمان كذا " و " في بلدة كذا ". وكلمة " في الأرض " ليست بحكم المفعول الثاني، فعلى هذا يتعين الوجه الآخر، أو يقال: تكون الآية هكذا " إني جاعل خليفة موجودا في الأرض "، فإنه من الجعل المركب النحوي ولو كان جعله بسيطا غير نحوي. ومن هنا يظهر حكم قوله تعالى: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء). نعم يحتمل ان تكون كلمة (يفسد فيها ويسفك الدماء) مفعولا ثانيا، ويجوز أن تكون صفة للموصول، وأما واو (ويسفك) فيحتمل الحالية والعاطفة، فيكون من عطف الخاص على العام، والثاني أظهر، لأن قوله تعالى: (ونحن نسبح بحمدك) في موضع النصب على الحالية، وإتيان الحال عقيب حال أخرى بعيد وغريب. ويحتمل كون الواو ابتدائية أو عاطفة، أي قالوا: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. وقد مضى حكم اللام والباء في " بحمدك " و " لك ". ويجوز أن يكون كلمة لك متعلقة ب? " نسبح " و " نقدس " أي نسبح بحمدك لك خالصا مخلصا بلا ريبة ولا سمعة ولا رجاء ثواب ولا خوف عقاب. قوله تعالى: (قال إني أعلم) في حكم الجواب، من غير اعتراف بمقالتهم من أن تلك الخليفة تكون على تلك الخصوصيات، وأنتم صادقون في دعواكم وادعائكم من التسبيح والتقديس له، ويحتمل أن تكون كلمة " أعلم " أفعل التفضيل بيانا للفعل الكثير الحاصل بينه تعالى وبين الملائكة، ولكنه بعيد وإن كان موافقا لبعض مراتب الذوق. ثم إن النحاة ذهبوا - حسب الظاهر - إلى أن مقول القول هو في محل النصب، لأنه المفعول به، فإن " قال " فعل وفاعله " الله تعالى " فلا يبقى إلا أن يكون مفعولا به. وفيه: أن المفعول به لابد وأن يكون معنى تقديريا بالفعل أو راجعا إليه، بمعنى تأويله بالمصدر، والجملة لا تؤول في مقول القول بالمصدر، مع أن هذه الجملة هي ذات القول، فهي في محل البيان لجنس القول الصادر منه، ولا يكون له محل من الإعراب فعده من الجمل التي لها المحل خلاف التحقيق عندنا، فلاحظ وتدبر جيدا.
1- البحر المحيط 1: 139.
2- راجع نفس المصدر.
3- راجع نفس المصدر.
4- مجمع البيان 1: 73.
5- راجع مجمع البيان 1: 75.
6- البحر المحيط 1: 140.
7- نفس المصدر.