اللغة والصرف
الآية الثلاثون من سورة البقرة قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾
وهنا مسائل:
المسألة الأولى: حول كلمة " إذ " " إذ " ظرف للزمان الماضي - على المعروف بينهم - حتى إذا دخلت على المضارع تجعله ماضيا، ويخطر بالبال خلوه من الزمان بحسب أصل اللغة والمادة، وإنما يطرأ عليه الزمان لقرينة مدخوله والمناسبة اللاحقة به. وقالوا: هو اسم ثنائي مبني، لشبهه بالحرف وضعا أو افتقارا. والأظهر أنه اسم مبني لفظا، ومعرب لعدم تشبهه بالحرف معنى، لأنه يدل على الزمان الماضي الكلي لا الشخصي، فليست فيه الإشارة إلى زمان خاص حتى يكون حرفا، كما تحرر في الأصول. وقال ابن مالك: وألزموا إضافة إلى الجمل * حيث وإذ وإن ينون يحتمل إفراد " إذ " وما ك? " إذ " معنى ك? " إذ " * أضف جوازا نحو حين جانبذ (1) وتلك الجملة قد تكون فعلية، وقد تكون اسمية، وربما يحذف المضاف إليه، ويعوض عنه التنوين، وتكسر الذال دفعا لالتقاء الساكنين، نحو حتى جاءكم الموت فحينئذ تندمون، وله أحكام اخر مذكورة في النحو.
المسألة الثانية: حول كلمة " ملائكة " اختلفوا في هذه الكلمة، ومن الغريب أن بعضا من اللغويين ذكرها في ثلاث مواد: في مادة " ال ك " ومادة " ل ا ك " ومادة " م ل ك " (2). وأعجب من ذلك توهم كثير من اللغويين وأرباب التفسير: أن الملك إما مفعل، أي ملاك، أو معفل، أي مألك، أو مفعل، أي ملاك. وفي " الأقرب " مع ذكره في " ل ا ك " قال: " ملك " على وزن مفعل (3)، مع أن الميم في مفعل زائدة، وأمثال هذه الاشتباهات كثيرة، ضرورة أن الملك اسم جنس من الأجناس، كالجن والبشر وسائر الحيوانات، ولو كان مشتقا بالاشتقاق الكبير، ولكنه - بعد اللتيا والتي والتحولات - يكون اسما يشبه الجوامد، فيكون جمعه على الملائكة أو الملائك على خلاف الأقيسة والضوابط. ويظهر من بعض المتون: أن أصل هذه اللغة أجنبية (سريانية) (4)، وهو قريب، لأن المعنى أمر شرعي ينطق به الرسل والأنبياء، ويخبر به الخلفاء والأوصياء، ويحكي عنه الشرائع الإلهية، ويعتقدها المنتحلون للديانات السماوية. نعم كثيرا ما يستعمل في القوى الغيبية المجردة، إلا أنه يستعمل أحيانا في سائر القوى الغيبية عن العيون والأبصار، والأعم من المجردات والماديات والمتقدرات، كما يأتي في محله فما قالوا: إنه على وزن كذا وكذا، يرجع إلى الخلاف في أصل المادة. والأظهر أنه من الملك، ويكون الميم أصلية، وهو المناسب للمعنى واللغة، والشواذ كثيرة في الأدب، ولا سيما أدب العرب. ومن الغريب توهم أن التاء هي لتأنيث الجمع، أو للتأكيد، أو للإشارة إلى تأنيث المعنى أو اللفظ مع أن صيغة الجمع " فعائلة "، ولم يعهد استعمال الملائك في القرآن ولو مرة، مع أن الملائكة جاءت في ثمان وستين موضعا، فحذف التاء للتخفيف أو لضرورة الشعر، كما قال العارف الشيرازي: دوش ديدم كه ملائك در ميخانه زدند * گل آدم بسرشتند وبه پيمانه زدند وبالجملة: ملائكة جمع ملك بفتح اللام، ومنه قوله تعالى: (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) (5) وهي - أي الملائكة - تذكر، ومنه قوله تعالى: (بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين) (6)، وتؤنث، ومنه قوله تعالى: (إذ قالت الملائكة يا مريم) (7)، وهذا لأجل أنه بلحاظ اللفظ، وإلا فبحسب المعنى فهم خارجون عن الإناث والذكور الحقيقيين، كما لا يخفى.
المسألة الثالثة: حول كلمة " خليفة " " الخليفة " من يخلف غيره ويقوم مقامه، والسلطان الأعظم. وفي الشرع: الإمام الذي فوقه إمام يذكر، فيقال: هذا خليفة آخر، وربما انث مراعاة للفظه، فيقال: خليفة أخرى. جمعه خلفاء وخلائف. وفي " الأقرب ": الخلافة: الإمارة والنيابة عن الغير، إما لغيبة المنوب عنه، أو موته، أو لعجزه، أو تشريف المستخلف. وفي الشرع: الإمامة (8). والذي يظهر: أن الاختلاف والخلاف والخليفة والخلفة كل من أصل واحد، وذاك هو أن يأتي شئ بعد شئ، وأما كونه مخالفة أو موافقة ومثله أو أشرف منه أو أحسن، فهو من اللواحق بهذه المادة، فاختلاف العلماء في الرأي، أي إظهار أحدهم رأيا بعد الرأي الآخر، أو مجئ أحدهم بعد الآخر، واختلاف الليل والنهار مجئ أحدهما بعد الآخر، ولو كان أحدهما ظلمة والآخر نورا، فكون الخليفة قائما مقام الموجود الحاضر الناظر المتصرف النافذ من الغلط، إلا أنه يجوز مجازا. وليس منه استخلف الله عباده على الأرض، لاحتمال كونه استخلافا عن الآخرين، سواء كانوا ظاهرين على الأرض أو مستبطنين، فإسناد الخلافة إليه تعالى - حتى في بعض الأدعية، فيقال: أنت خليفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) - ليس معناه أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) خليفة الله في الأرض ونائب عنه ولو تشريفا، مما لا مساعدة عليه بين المعنى المقصود واللغة، وما هو بين أيدينا من أنه تعالى باسط اليدين في جميع الشؤون والأمور، فلا تناسبه الإضافة التشريفية، فضلا عن سائر الاعتبارات، ولذلك استعملت " الخليفة " في القرآن في موضعين (9)، من غير أن يعين المستخلف عنه، وفهم المفسرين من سكوت القرآن: أن خليفة الله هو القائم مقامه تشريفا في الأرض، يشبه الكفر والإلحاد الممنوع ولو تخيلا واعتبارا، ويستلزم التجسم التوهمي والنقصان الاعتباري. نعم لتصوير الخلافة التكوينية وجه يأتي في البحوث الاخر، خارج عن محيط العرف واللغة.
المسألة الرابعة: حول كلمة " سفك " " سفك " - من باب ضرب - متعد، يقال: سفك الماء وكل مائع إلا أنه في الدم أكثر، أي صبه، فهو مسفوك وسفيك، وفي " الأقرب ": يقال: سفك - وهو لازم - أي انصب، فهو سافك وهي سافكة، والسفاك للمبالغة في صب الدم وتكثير الكلام (10). والأظهر أن سفيك من سفك اللازم دون المتعدي، والسافك من المتعدي دون اللازم، وسيظهر سر كونه لازما.
المسألة الخامسة: حول كلمة " الدم " " الدم " معلوم، ولا يخص بكونه أحمر. واختلفوا في أنه ناقص يائي أو واوي، كما اختلفوا في أنه على وزن فعل المتحرك العين أو الساكنة، ولا يصلح شعر شاعر على الأول كما في " مجمع البيان " (11) وأما بالنسبة إليه فهو دموي بالواو فتدل على أنه واوي. اللهم إلا أن يقال بجواز النسبة إليه، فيقال: دمي بتشديد الياء، وأما التصغير فينحصر بالياء، فيقال: دمي فكونه يائيا أقرب. ويشهد له سائر مشتقاته، مثل جمعه على دماء ودمي، فإن التصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها، واحتمال كونه من " الدم " المثقل، فيكون مضاعفا (12)، بعيد جدا، كما أن احتمال كونه من الواوي واليائي جمعا لصحة قولهم في التثنية: دموان ودميان (13) جائز إلا أن كثيرا ما ينقلب أحدهما بالآخر، وفيما نحن فيه يتعين كونه يائيا فتأمل.
المسألة السادسة: حول كلمة " سبح " " سبح ": صلى وقال: سبحان الله، وسبح الله نزهه، وقد يعدى باللام، ومنه قوله تعالى: (سبح لله) (14) وقد تعارف ذلك كثيرا إلا أن الأظهر أنه ليس اللام هنا للتعدية، أي ليس كلمة " لله " مفعولا به حتى يتعدى باللام، أو يقال: هي زائدة للتأكيد. بل اللام لام إخلاص، أي سبح ما في السماوات الله تعالى خالصا له وإخلاصا له، ويكون المفعول به محذوفا للقرينة، أو لعدم إرادة الإفهام هنا، بل النظر إلى أن كيفية تسبيحهم كانت هكذا، فما في " أقرب الموارد " (15) وبعض كتب اللغة الاخر سهو واشتباه. ثم إنه تعارف في خصوص هذه الكلمة ذكر الباء عقيبها، نحو قوله تعالى: (وسبحوا بحمد ربهم) (16)، وهذا كثير التكرر في القرآن والأدعية جدا، ولم يعهد في كتب اللغة توضيح هذه الجهة، وأن هذه الباء متعلقة بهذه المادة، كما هو الظاهر، أم هي متعلقة بالفعل المحذوف، فيكون البحث عنه خارجا عن هذه المسألة، كما هو مختار جمع، ويؤيدهم قولهم: " سبحان ربي العظيم وبحمده "، حيث فصل بالواو، فيكون في جميع هذه المواقع: " نحن نسبح تسبيحا ونحمد بحمدك "، وهذا أمر بعيد في حد ذاته. والأظهر: أن الباء هنا باء الإبانة والتوضيح لكيفية التسبيح، وأنه تسبيح يشتمل على التنزيه والتقديس الملازم لإفادة جامعيته تعالى للكمالات واستحقاقه للثناء، أي نسبح بتسبيح فيه الحمد، وهو عين الحمد، فالبحث لغوي. ثم إن كلمة " سبحان " تختص بخصوصية لكثرة الاستعمال، وذلك حذف فعله العامل فيه بالنصب فيقال: " سبحان الله أو سبحانا أو سبحاني "... وهكذا، ولأجله منصوب دائما لفظا أو محلا، وفيه بعض الأقوال الاخر الباطلة البعيدة عن الصواب، كتوهم أنه غير منصرف، أو هو بمنزلة " قبل " و " بعد " في صورة الإفراد والانقطاع عن الإضافة وغير ذلك، مما يضحك الثكلى، فراجع كتب النحو.
المسألة السابعة: حول كلمة " التقديس " قدسه الله: طهره وبارك عليه، وقدس الرجل الله: نزهه ووصفه بكونه قدوسا، وقدس مثل كوف وبصر، أي أتى بيت المقدس والكوفة والبصرة (17)، ومن الغريب أن في كتب اللغة لم يتعرض لتعديته باللام، بخلاف سبح كما عرفت، وقد أشير آنفا إلى أن اللام لإفادة الخلوص في الفعل لا التعدية، ولأجله صح أن لا يتعرض له في اللغة، بخلاف ما مر، وقيل: فرق بين التسبيح والتقديس، فإن الثاني آكد (18)، وليس بصحيح، لأنه اختراع لم تشعر به اللغة. نعم قد تعارف إطلاق المقدس على غيره تعالى دون المسبح وربما كان ذلك لتعارف التسبيح مقرونا بالحمد والثناء المخصوص به تعالى، كما أشرنا إليه بخلاف التقديس، فاغتنم.
1- الألفية، ابن مالك: مبحث الإضافة، البيت 15 و 16.
2- راجع المنجد: 16 و 708 و 775.
3- راجع أقرب الموارد 2: 1121.
4- أقرب الموارد 2: 1121.
5- الإسراء (17): 95.
6- آل عمران (3): 124.
7- آل عمران (3): 42.
8- راجع أقرب الموارد 1: 295 - 296.
9- البقرة (2): 30، ص (38): 26.
10- أقرب الموارد 1: 522.
11- راجع مجمع البيان 1: 73.
12- أقرب الموارد 1: 352.
13- نفس المصدر.
14- الصف (61): 1، الحشر (59): 1.
15- راجع أقرب الموارد 1: 489.
16- السجدة (32): 15.
17- أقرب الموارد 2: 972.
18- روح المعاني 1: 222.