التخلق بأخلاق القرآن العظيم وآداب الكتاب الحكيم
يا أيها العزيز ويا أيها القارئ: إنما الهدف من جميع هذه البحوث، والمقصود من كافة تلك المسائل، هو النيل بمقام الرب، والتخلق بأخلاق الله، والتوجه إلى أن الله تبارك وتعالى مستوي النسبة إلى عامة الأشياء، ولا فصل بين شئ وشئ في هذه المرتبة وتلك المنزلة، وإنما الخلق يتفاوت نسبهم إليه تعالى بوجه خاص، لا يحصل ذلك إلا في قوس الصعود، فمن الخلق من يصل بالحركة الذاتية الطبيعية إلى ما دون الطبيعة وإلى الجحيم والنار الأليم، وتكون حركته تضعفية متنازلة منعكسة، وتصير طبيعته محجوبة بالحجب الاكتسابية الظلمانية، إلى حد تنقلب من الطينة الخميرة الإلهية، ومن فطرة الله إلى الفطرة الشيطانية الانقلابية النارية الذاتية الخالدة، فإذا مات وقع في قعر الجحيم، ويكون في جميع سكناته وحركاته متوجها إليه حتى يصل إليه. وإلى هذه المائدة الإلهية والحقيقة الفلسفية، يشير الكشف الأحدي الأحمدي المحمدي (صلى الله عليه وآله وسلم)، حسب رواية محكية في كتب العامة والخاصة، وهي من أعجب ما روينا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنه كان قاعدا مع أصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم) في المسجد فسمعوا هدة عظيمة فارتاعوا، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أتعرفون ما هذه الهدة؟قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: حجر القي من أعلى جهنم منذ سبعين سنة، الآن وصل إلى قعرها، فكان وصوله إلى قعرها وسقوطه فيها هذه الهدة. فما فرغ من كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا والصراخ في دار منافق من المنافقين قد مات، وكان عمره سبعين سنة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الله أكبر، فعلم علماء الصحابة أن هذا الحجر هو ذلك المنافق، وأنه منذ خلقه الله يهوي في جهنم، وبلغ عمره سبعين سنة، فلما مات حصل في قعرها " (1). قال الله تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) (2)، فكان سمعتهم تلك الهدة التي أسمعهم الله برفع الحجب بتوسيط الرسول أحيانا ليعتبروا، فانظروا ما أعجب كلام النبوة وما ألطف تعريفه وما أغرب كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم). وبالجملة: من الخلق من ينال الرتبة العليا مرتبة (قاب قوسين أو أدنى) (3) في الحركة الجوهرية الذاتية، ومن الناس متوسطون بين تلك وتلك، فعليك يا أخي وعزيزي أن تكون من المعتبرين والمتوجهين إلى أنه لا جزاف، فإذا تمكنت من أن تحصل العبودية المطلقة للذات الأحدية الإلهية والواحدية الجمعية، يتنزل عليك القرآن وأعظم منه، وإذا تمكنت من نيل مقام العبودية المقاربة لتلك العبودية الذاتية، يحصل لك من الحقائق ما ينطق به لسانك، ويتنزل إلى سمعك أمثال " نهج البلاغة " و " الصحيفة السجادية "... وهكذا، فكل الأمور المتأخرة معلولة الأمور المتقدمة، وجميع الشرائط المتقدمة معلولة المجاهدات النفسانية والرياضات البدنية، ومسببة عن تحمل المشقات الدنيوية والتضحية والفداء في طريق الحق ولنيل العشق المطلق. وأما الاشتغال بالتفريح والتفرج، والانغماس في حياض اللذات الحيوانية، والانغمار في الشهوات النفسانية، والتوغل في المشتهيات الشيطانية، فلا يستتبع إلا طبقات الآلام الأخروية والعقبات الجحيمية، وقد مر في هذا الكتاب مرارا الإشارة إلى تلك المواعظ، وإلى هذه الأمور اللازمة جدا إلا أن راقم هذه الأسطر وقارئها في نومة الغافلين، وفي غفلة المشتغلين بالدنيا عن الآخرة والدين، وفي الذهول عن الحقائق والمسيرة الاستقبالية في البرازخ والقيامة، فأعاذنا الله تعالى منها وأذن الله أن يشفع لنا الشافعون. اللهم آمين يا رب العالمين. فإذا كنت تقرأ هاتين الآيتين أفلا تخاف من أن تكون تلك الحجارة الواقعة في قعر الجحيم عند الموت، وأفلا تخشى من أن تكون وقود النار المشتعل على غيرك من الأناسي والعباد، فيحترق غيرك بك، فتكون عليك لعائن الله والناس المتأذين بنارك وإيقادك. إلهي أنت أعلم بي مني، وأنت تعلم أني قد أفنيت عمري في شرة السهو عنك، وأبليت شبابي في سكرة التباعد منك، وقد دعوتك ليلا ونهارا خفاتا وجهارا، ولا أظنك تردني في حاجة أفنيت عمري في طلبها منك، ما هكذا الظن بك، ولا المعروف من فضلك، ولا مشبه لما عاملت به الموحدين من برك، فيا إلهي ويا سيدي إني وإن كنت ذاهلا وغافلا عنك، ولكن سترك علي يوثبني على محارمك، ويجرئني على اقتراف معاصيك وذنوبك، فلا تخيبني يا رحمن الدنيا والآخرة، وخذ بيدي ونجني وأهلي وشيعة الأمير (عليه السلام) من القوم الظالمين، ومن أحزاب الشياطين، وقنا من النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.
1- راجع علم اليقين، الفيض الكاشاني 2: 1002، والفتوحات المكية 1: 298، ومسند أحمد 2: 371.
2- النساء (4): 145.
3- النجم (53): 9.