التفسير والتأويل على مسالك مختلفة ومشارب شتى

فعلى مسلك الأخباريين: (في قلوبهم مرض) أي في قلوب هؤلاء المتمردين الشاكين، الناكثين لما اخذت عليهم من بيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام). (فزادهم الله مرضا) بحيث تاهت قلوبهم جزاء بما آتاهم من هذه الآيات المعجزات، (ولهم عذاب أليم بما كانوا) يكذبون محمدا، و (يكذبون) في قولهم: إنا على البيعة والعهد مقيمون. الحديث عن الكاظم (عليه السلام) تفسير الإمام (1). وفي حديث غيبة النعماني مسندا عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " ويرتاب - يومئذ - الذين في قلوبهم مرض، والمرض - والله - عداوتنا " (2). وعن الصحابة كابن مسعود وأناس اخر: (في قلوبهم مرض) قالوا: شك، (فزادهم الله مرضا) شكا (3). وعن ابن عباس مثله (4)، وهكذا عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة (5). وعن عكرمة بن طاوس: (في قلوبهم مرض) يعني الرياء (6). وعن الضحاك عن ابن عباس، قال: نفاق. وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: المرض الشك، وهو مرض النفوس لا الأجساد، ومرض الدين، (فزادهم الله مرضا) أي رجسا وقرأ: (وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) (7) وكأنه فسر هذه الآية بما في الآية الأخرى، غفلة عن أن تلك الآية عرفت المرض بالرجس، حيث قال تعالى: (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) (8)، فيكون المرض هناك الرجس، وأما في هذه الآية فلا معنى لتفسير المرض إلا بما له من المعنى اللغوي، أو الاستعاري القابل لأن يستعار له المعنى اللغوي، أو الاستعاري القابل لأن يستعار له المعنى اللغوي، فتخصيص المرض بشئ خاص محتاج إلى دليل، والأخبار المذكورة قاصرة - سندا أو دلالة - عن إثبات ذلك، ولا بأس بأن يكون الكل واردا في مفادها ومقصودا فيها، والله العالم بها.

وأما على مسلك أصحاب التفسير: (في قلوبهم) الصنوبرية (مرض) جسماني، (فزادهم الله) مرضهم، (ولهم عذاب أليم) جزاء (بما كانوا يكذبون)، ويقولون كذبا، وهو قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر. وقريب منه: (في قلوبهم) ونفوسهم المجردة (مرض) روحاني ومعنوي، (فزادهم الله) ذلك المرض، أو فزاد الله في مرضهم بتهيئة أسباب تنتهي إليه، من زيادة شوكة المسلمين ونفوذ قدرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، وغير ذلك من الأسباب الموجبة لزيادة حقدهم ونفاقهم وشكهم. وقريب منه: (في قلوبهم) الأمراض، (فزادهم الله) أي فليزد الله ذلك المرض، (ولهم عذاب) هو الأليم، وشديد في ألمه، وبالغ في اشتداده (بما كانوا يكذبون) لأجل أنهم كانوا يكذبون. وقريب منه: (في قلوبهم مرض)، أي وليكن في قلوبهم المرض، فزادتهم عداوة الله مرضا، بحذف المضاف، أو فليزد الله مرضهم (ولهم عذاب أليم) ومؤلم أو شديد في ألمه بشئ (كانوا يكذبون)، أو بالذي كانوا يكذبون. وقريب منه: (في قلوبهم مرض) وما يشعرون بذلك، ولأجل عدم شعورهم وعدم ميلهم إلى الالتفات إلى ذلك المرض وإزالته (زادهم الله مرضا) أي في مرضهم، أو من حيث المرض، (ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) قولا، وهو قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وفعلا، وهو عملهم يخادعون الله والذين آمنوا، فإنه فعل غير صادق، وكاذب.

وعلى مسلك الحكيم: (في قلوبهم مرض)، وفي عقولهم ونفوسهم آفة وعلة هي النطفة المتحركة نحو كمالها اللائق بها على سنة لا تتخلف، فتكون الزيادة بإذن الله تعالى، (فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون)، لا بما كانوا فيه من المرض النفساني والآفة القلبية، ولا بما فطروا عليه ثانيا وبالغير. وقريب منه: (في قلوبهم مرض)، وفي عضوهم الصنوبري آفة، هي تسانخ آفة وعلة قلبية عقلية مجردة، هي نقطة الحركة الطبعية الذاتية والتنمية الحيوانية والنباتية والإنسانية الروحية، (فزادهم الله) وأنماهم بذواتهم المتحدة مع المرض الموجود فيهم، فإن المرض الموجود في قلوبهم، ليس شيئا وراء حقيقة القلوب التي ليست إلا نفس ذواتهم، (ولهم عذاب أليم) من أنواع العذاب الخارجة عن تبعات أعمالهم، أو إن ذلك العذاب الذي يعد من تبعات أفعالهم عذاب أليم، وأما العذاب الحاصل لهم من مرضهم النفساني الذاتي، فلا يوصف بالأليم، لأن الألم صفة ذاتهم لا فعلهم.

وعلى مسلك العارف: (في قلوبهم مرض)، وذلك لاقتضاء بعض الأسماء الإلهية كالاسم " الضار والمضل "، و (زادهم الله مرضا)، لأنه تعالى رب العالمين، فينمي حسب اقتضاء الاسم " الرب " كل ما فيه اقتضاء النمو، على حسب مقتضيات ذاته ومناسبات صفاته، فيكون المتكفل للتنمية والازدياد - بما أنه من الأسماء الإلهية - ذوات المرضى باتباع الشهوات ورفض الإسلام والحقائق وأنحاء الهدايات. (فزادهم الله مرضا) ليست إلا زيادة أنفسهم مرضهم، بعدم الإصغاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووليه (عليه السلام)، وبعدم العمل بالأحكام القلبية والقالبية، فإذن يزداد المرض بإذن الله تعالى وباستحقاق اسمه تعالى. (ولهم عذاب أليم) بشارة، وهي من الآلاء والنعماء الإلهية في مقابل (ما كانوا يكذبون)، حتى يتطهر نفوسهم الخبيثة الكاذبة، وقلوبهم المتفرقة القذرة بذلك العذاب الإلهي المتحصل من الاسم " الرحمن والرحيم ". (ولهم عذاب أليم) هو من تبعات كذبهم وتكذيبهم. (ولهم عذاب أليم) يوجب انتهاء أمد ذلك العذاب، ويورث خلاص الناس والمنافقين الكافرين والمعاندين الفاسقين من تلك التبعات والآثار والخواص.

وعلى المسلك الكلي للخبير البصير: أن هذه التسويلات والخواطر الذهنية، صورة تفصيلية من الكتاب الإلهي والعلم الرباني، يجمعها الكتاب التدويني على سبيل اللف والإجمال والبساطة والاحتمال، ولا يشذ عن شئ منها كل شئ في الأرض والسماوات.


1- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 117 - 118 / 60.

2- الغيبة، النعماني: 261 / 19.

3- تفسير الطبري 1: 121 - 122.

4- نفس المصدر.

5- تفسير ابن كثير 1: 85.

6- نفس المصدر.

7- راجع نفس المصدر.

8- التوبة (9): 125.