البحوث الفلسفية
البحث الأول: حول فاعل الخيرات والشرور اختلفوا في أن فاعل الخيرات والشرور واحد، أم فاعل الخيرات هو الله في لسان المسلمين، وفاعل الشرور هو الشيطان والعباد، وفي لسان الثنوية والمجوس " يزدان " و " اهرمن "، وأنهما الأصلان القديمان (1). وعلى هذا ربما يستدل بهذه الآية الشريفة على أن المبدأ واحد (2)، فلو كان في المسلمين من يتخذ القرآن عضدا، فلابد من أن يختار مقالة التوحيد، وربما نسب إلى جمع منهم يسمى بالقدرية، وهم مجوس هذه الأمة: أنهم ذهبوا إلى نفي الشرور عنه تعالى رأسا، ناظرين إلى تقديسه تعالى وتنزيهه عن ألواث الشرور والمفاسد وتبعاتها (3). وجه الاستدلال معلوم وواضح، حيث قال صريحا: (فزادهم الله مرضا)، ولا شبهة في أن المرض من الشرور، سواء كان هو الكفر أو غيره. ولنا أن نقول: ظاهر هذه الآية خصم الفلاسفة القائلين: بأن الشرور أعدام (4)، فإنها لو كانت عدما لما كان يقبل الجعل مع أن الزيادة لا تتصور في الأعدام. وبعبارة أخرى: إن البحث المزبور عندنا كان يرجع إلى البحث الآخر: وهو أن الشر هل يمكن أن يتعلق به الجعل، حتى يبحث عن أنه فعل مبدأ الخيرات، أم فعل المبدأ الآخر؟فإذا كان الشر أمرا غير قابل للجعل، ويكون ما يتصور من الشر خيرا واقعا، يسقط النزاع المزبور، ويتفق عليه أهل الحل والعقد طبعا. ولكن الآية الشريفة تضمنت أن ازدياد المرض من الله تعالى مع أن المرض من الشرور، فتكون الآية دليلا على مسألتين:
الأولى: أن إرجاع الشرور إلى الخيرات في غير محله، لأن الآية بصدد مذمة المنافقين ومذمة من في قلوبهم من المرض يخالون المرض شرا لا خيرا.
والثانية: على أن فاعل هذا الشر هو الله تعالى، وفاعل هذا المعنى المذموم والقبيح هو تعالى، لا غيره من المبدأ التخيلي الذي اعتقدته الثنوية. وإن شئت قلت: المسألة الأولى مردودة بالآية، وتدل على أن المبدأ الأصيل القديم واحد، وأما ما عن جمع من الفلاسفة: بأن فاعل كل شئ واحد، لأنه لا شر في العالم حتى يكون له المبدأ الآخر، فهو أيضا مردود بها، لأن المستفاد منها أن المرض شر ويذم عليه. فعلى هذا يبقى سؤال: وهو أن الله تعالى محمود في فعاله، ولا يمكن أن يصدر منه قبيح، ولا يفعل إلا خيرا، فكيف يمكن استناد الشر إليه؟فما في كتب التفسير من تنزيه الحق بدعوى أن النسبة مجازية، خارج عن أفق التوحيد وأدلته الناهضة على أن كل شئ مستند إليه تعالى في وجوده وتحققه، فالنسبة حقيقية جدا، وهو مقتضى الأصل والظاهر. والجواب على مشرب التحقيق الحقيق بالتصديق، والموافق للنظر العميق والوجهة الفلسفية على مبانيها المحررة في كتبها، ومنها " قواعدنا الحكمية ": هو أن النظام الجملي الأتم على ترتيب الأسباب والمسببات حتى يصل كل طبيعة - حسب القابلية المودوعة فيها - إلى كمالها اللائق بحالها، ويتميز الحق من الباطل والفاعل عن التارك والمسافر عن القاطن، والذي يهيئ أسباب الحركة إلى الخيرات، عن الذي يهيئ أسباب الحركة إلى الشقاوة والشرور والظلمات. فيتنزل الفيض المقدس الرباني من سماء الألوهية، وسالت الأودية بقدرها، فلو كانت النطف المزروعة في الأراضي القابلة، والبذور المبذورة في المحال المقررة، ذ ات خصوصيات، فستهتدي بتلك الخصوصيات إلى جانب الفيض المناسب له، ولو كان الأمر على خلاف هذا الأصل العام النافذ، لكان الكل عبثا ولهوا، ولكان ينبغي أن يصدر كل شئ من كل شئ. فالسنخية علة الانضمام بين المستعد والمستعد له، وبين الصور المتحركة وما يتحرك إليها من الصور، ولأجل هذه المائدة الإلهية ترى الآية الشريفة كيف أفادت المسألة: بأن (في قلوبهم مرض) من غير استناد هذا المرض إليه تعالى بجهة القابلية، ثم لما كانت فيهم قابلية النشوء والحركة إلى الشقاوة وإلى الباطل، وكانوا متهيئين للحركة التضعفية، فلابد أن يرد عليها الفيض المتسانخ معها الوارد عليها، والمندرج في مفهومه وماهيته ويكون من سنخه، فزادهم الله مرضا. فإلى هنا استخرجنا من الآية الشريفة ثلاث مسائل حكمية وبحوث فلسفية، وإن أدمجناها في مسألة واحدة.
البحث الثاني: شيئية الشئ بصورته من المسائل المبرهنة في محله: أن شيئية الشئ بصورته، وتكون المادة مركبها (5)، ولو رفض المركب أحيانا فلا يضر بالشئ وحقيقته. ويترتب على هذه القاعدة ثمرات علمية ومنها مسألة المعاد الجسماني، وإليها تشير هذه الآية الشريفة، حيث تقول: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا)، مع أن المتفاهم الابتدائي منها هو أن يقال: " في قلوبهم مرض فزادها الله مرضا "، ففي هذا التغيير إيماء إلى أن ما به حقيقتهم، هي قلوبهم وكمالهم المجرد وفعلهم الذي هو نحو وجودهم، فلو كان المرض في قلوبهم فهم المرضى، لأنهم ليسوا إلا القلوب، ولا يكون شيئية الإنسان إلا بنفسه الناطقة الجوهرية المجردة.
البحث الثالث: الأعراض جلوة الذوات من المسائل المبرهنة في محله: هو أن الأعراض والمقولات ليس لها وجود بحذاء وجود الجواهر والموضوعات، بل الوجود العرضي بالقياس إلى الوجودات الاخر، يعتبر ويكون عين طور الجوهر وجلوة الذات، ويكون الحركة المتصورة في الأعراض بعين الحركة الموجودة في الذوات (6)، ويكون اشتداد الكيف وازدياد الكم تبع الحركة الذاتية في كل شئ كان متحركا بتلك الحركة كالأشياء المتوحدة بالوحدة الطبعية، دون سائر الوحدات التأليفية والاعتبارية، وإلى هذه المقالة الراقية تشير الآية الشريفة، حيث أفادت (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا)، مع أن اللازم بحسب النظر البدوي، هو أن يقال: " في قلوبهم مرض فزاد الله مرضهم "، فإضافة الزيادة إلى ذواتهم، تشهد على أن الذوات والمرض واحدة بالحقيقة وإن كانا مختلفين بالمفهوم، فزيادة المرض تستلزم زيادة ذواتهم، فافهم واغتنم.
البحث الرابع: حول العقاب والثواب ذهب الفلاسفة الإسلاميون إلى أن العقاب والثواب من تبعات الأعمال والأفعال، وربما يكون من تبعات الصفات والأخلاق، أو من تبعات الذوات والأعيان، فتنقسم: إلى جحيم الذات وجنتها، وجحيم الصفات وجنتها، وجحيم الأفعال وجنتها (7). وهذه الآية الشريفة ربما تدل على خلاف هذه المقالة من جهتين:
الأولى: كون العذاب من التبعات، والثانية كون الصفات مورد العذاب، فضلا عن الذات، وذلك لظهورها أولا في أن العذاب الأليم مجعول من قبل الله تعالى استقلالا، لا تبعا
وثانيا: لكلمة الباء الظاهرة في الجزاء والمقابلة. وأيضا لظهورها في أن العذاب الأليم مقابل كذبهم، وهو فعل منهم، لا يقابل المرض الذي في قلوبهم وازداد، بل يستفاد من سياق الآية وتقييد العذاب الأليم بقوله: (بما كانوا يكذبون): أن المقصود صرف توهم كون العذاب في مقابل ذلك المرض الذي يحصل في قلوبهم بغير اختيار أحيانا، فتنادي هذه الآية الشريفة إلى إبطال ما اعتقدوه في هذه الورطة، وسجلوه في قراطيسهم وأساطيرهم، ولكن لما كانت الشواهد الكثيرة من المآثير والأخبار صريحة في تجسم الأعمال وتبعات الصفات المذمومة، فيمكن دعوى: أن الظهور الأول قابل للإنكار، والظهور المستند إلى الباء في محله، إلا أن الصور البرزخية جزاء الصور المادية، ولا يتقوم مفهوم الجزاء بكونه واردا على المجزى به. وأما الظهور الثالث فهو بحسب دلالة المطابقة متين جدا، وأما كونه في موقف نفي العذاب الأليم عن الصفات، فإما لا يكون واضحا، أو لو صح ذلك فهو مخصوص ببعض الصفات. والله العالم. ونعوذ به من هذه الجحيمات الثلاث، ولا سيما جحيم الذات التي عليها الخلود والنار الأبدية. والله من ورائهم محيط.
1- راجع الشفاء (قسم الإلهيات): 538 - 544، والأسفار 7: 58 - 106.
2- تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 366.
3- راجع تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 367.
4- راجع شرح المنظومة (قسم الفلسفة): 155.
5- راجع الأسفار 2: 32 - 37.
6- راجع الأسفار 3: 103 - 104.
7- راجع الأسفار 9: 225 - 228 و 290 - 296.