الفقه وبعض مسائله

المسألة الأولى: الدعاء على المنافقين ربما تدل الآية على جواز الدعاء على المنافقين، وجواز إفشاء أسرارهم وخفاياهم وهتكهم بين المسلمين، باظهار حالهم وحال أمثال عبد الله بن أبي بن مسلول، مع شدة اهتمامهم في التحفظ على نفاقهم، وعلى تغطية مقاصدهم السيئة وأغراضهم الباطلة. فتترتب على هذا مشكلة أخرى: وهو أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم لم يتصد لفضيحة الآخرين من المنافقين الأولين من المهاجرين وغيرهم؟وتنحل المعضلة:

أولا: بأن الآية لا تدل على جواز ذلك بنحو الجزئية والشخصية، لأنها متعرضة لإعلام الرسول الأعظم: بأن من الناس من يكون حاله كذا، من دون توجيه إلى أشخاصهم، وكان في ذلك الإعلان إعلاما بلزوم التحفظ والاحتياط.

وثانيا: أن نفاق أمثال ابن مسلول كان على وجه فجيع، لما يذهبون في الوقت إلى أصدقائهم وشياطينهم، ويقولون إذا خلوا إلى شياطينهم: (إنا معكم إنما نحن مستهزئون)، بخلاف المنافقين الأولين، فإنهم ما كانت حالهم ذلك ولم يظهر لأحد نفاقهم الا بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى هذا ربما لا يجوز كشف الستر ورفع الغطاء لما فيه من خلاف سياسة التوحيد اللازمة في ذلك العصر الأول. وأما توهم دلالة الآية الشريفة على جواز الدعاء عليهم (1) والإجهار به، فهو غير صحيح، لما عرفت أن قوله تعالى: (فزادهم الله مرضا) ظاهر في الإخبار، ولا سيما بملاحظة الفاء، ومجرد إمكان كونه إنشاء لا يكفي لاستنباط الحكم الفرعي الشرعي.

ومن هنا يظهر: أن توهم دلالة الآية على جواز الدعاء المستجاب، المنتهي إلى خسارة الناس وتضررهم الروحي وغيره، في غير محله، وذلك لما عرفت. نعم على تقدير كون الآية مشتملة على الدعاء فلا يبعد كونه من الدعاء المستجاب، فتدل على جواز أن يدعو أحد من المسلمين على أمثال المنافقين بما يتضررون به، ويقعون في الضلالة. ولكن أنى لكم بإثبات مثله، ودونه خرط القتاد. ومن العجيب ما كان يسألني بعض إخواني عن هذه المسألة من قبل: وهو أنه هل يجوز أن يدعو الإنسان على ضرر أخيه، مع علمه باستجابة دعائه؟وهل يكون ضامنا عند وقوع الضرر والخسارة أم لا؟والمسألة لا تخلو عن نوع من الإعضال، كما لا يخفى.

المسألة الثانية: حرمة الكذب لا شبهة في حرمة الكذب في الجملة، وإنما الكلام في دلالة الكتاب العزيز على هذه المسألة الواضحة الإسلامية، وتفصيلها في الفقه. وبالجملة: من الآيات المستدل بها على حرمة الكذب هذه الآية الشريفة، فإنه يعلم منها أن الكذب من المحرمات، لما أن جزاءه العذاب الأليم، فيكون من الكبائر والموبقات (2). هذا مع أن الآية تدل على تعريف الكذب أيضا: وهو أنه القول المخالف للواقع، فإن من الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر، ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون، فيعلم منه أن كذبهم ما كان إلا قولهم: آمنا بالله، وكان على خلاف الواقع، وبذلك يسقط قول الجاحظ بأن الكذب خلاف الاعتقاد (3)، وسيظهر توضيح المسألة بشتى مراحلها - إن شاء الله تعالى - في محله. فبالجملة: هذه الآية كما تدل على كبرى المسألة تدل على صغراها، بناء على القراءة المعروفة " يكذبون " بالتخفيف، كما هو الحق الصريح، فتأمل. أقول: أما دلالتها على حد الكذب فهو موقوف على كون المنافقين غير مؤمنين واقعا، وما كان في قلوبهم من الإيمان والاعتقاد شئ، من الإيمان الثابت ولا المستودع، نظرا إلى قوله تعالى: (وما هم بمؤمنين)، وهذا مما صدقه الكل في وجه نزول الآيات، فتأمل. نعم لا تدل على نفي القول الثالث في الكذب، وهو أنه مخالفة القول للواقع أو للاعتقاد، كما لا يخفى. وأما دلالتها على كبرى المسألة فهي مشكلة، وذلك لإمكان كون الآية بصدد بيان أن الكذب المخصوص - وهو الكذب في أبواب الإيمان بالله وباليوم الآخر، مع ما يترتب عليه من المفاسد الكثيرة - محرم، ويعاقبون على مثل ذلك الكذب بالعذاب الأليم، فاستفادة حرمة كل كذب ممنوعة، لاحتمال الخصوصية الموجودة في الكلام وفي مورده. وهذا نظير ما إذا قيل: ومن الناس من يقاتل في سبيل الشيطان، فيقتلون النبيين بغير حق، ولهم عذاب عظيم بما كانوا يقتلون، فإنه لا يستفاد منها أن كل قتل حرام، فما توهمه الفخر (4) فهو خال عن التحصيل.


1- الجامع لأحكام القرآن 1: 197.

2- التفسير الكبير 2: 65.

3- روح المعاني 1: 140، وراجع المطول: 40 - 41.

4- التفسير الكبير 2: 65.