وجوه البلاغة وعلم المعاني

الوجه الأول: حول تقديم " في قلوبهم " تقديم الجار والمجرور مقدمة لتنكير الابتداء، وتنكيره لإفادة: أن المرض الموجود في قلوبهم، نوع مرض يكون نطفة للأمراض الاخر، وبذرا للآلام الكثيرة المترتبة عليه، الموجبة للزيادة والنمو. وعن بعض المفسرين: أن التنكير يدل على أن جميع أجناس المرض في قلوبهم، وذلك لأن النكرة ما لا واقعية معلومة له (1). وهذا باطل، فالتنوين يدل على الوحدة حسب التبادر، ولو كانت معلومة واقعا ومجهولة ظاهرا. وما في تفسير " البحر ": من أن النكرة تدل على ما وضعت له على طريقة البدل، من غير حاجة إلى جمع المرض، لأن تعداد المحال يدل على تعداد الحال عقلا، فاكتفى بالمفرد عن الجمع (2). خال عن التحصيل، فإن النكرة في قولك: " أعتق رقبة " تدل على البدل، وفي قولك: " جاء رجل " لا يدل عليه، لأن الجائي واحد معين واقعا، فالتنوين - في المقام - بضميمة الجنس يدل على أن الموجود في قلوبهم مرض ما، وهو واحد من الأمراض، معلوم واقعا، ومجهول بحسب الظاهر.

الوجه الثاني: حول " زادهم الله مرضا " ربما يتخيل أن الأنسب أن تكون الآية هكذا: في قلوبهم مرض، فزادها الله مرضا، أي: زاد الله مرض قلوبهم، أو زاد الله في قلوبهم مرضا أو مرضهم، فما وجه العدول عن ذلك؟ولأجل ذلك قيل: هنا حذف مضاف. وقيل: إن مرض القلب مرض سائر الجسد، فيصح أن يقال: زاد في ذواتهم المرض، ويحتمل رجوع ضمير الجمع إلى القلوب، لأنها العقول ومحال الإدراكات، فتكون هي أولى برجوعه إليها (3). هذا، مع أن في الإتيان بضمير المفرد سكتة على وزن الآية وزنة الكلام التي هي الأهم في المحافظة على أسلوب البلاغة من غيرها. وهناك بعض وجوه أخر تأتي في البحوث الفلسفية إن شاء الله تعالى. ويحتمل أن تكون الآية من قبيل صفة المشاكلة، فإن " هم " في " قلوبهم "، و " هم " في " ولهم " يقتضيان أن يكون في وسطهما أيضا ضمير " هم "، حفاظا على وحدة المعطوف والمعطوف عليه، كما لا يخفى.

الوجه الثالث: حول كون " مرض " مجازا مقتضى أصالة الحقيقة أن " في قلوبهم مرض " حقيقة لا مجاز وتأول، وذلك لأن الانحراف الروحي والانحطاط المعنوي والتمايل إلى الكفر والنفاق والحقد والإلحاد، ينشأ عن الانحرافات الجسمانية والفساد الدموي وأمثال ذلك. أو يكون في النفس المجردة الناطقة والهيولي الاستعدادية انعكاسات وراثية، أو يحصل من المعاشرة والعشرة الاجتماعية مرض وفساد ونقص وعيب وعرض هو الموجب للتمايلات الباطلة فعلى كل حال بذلك التقريب تحفظ أصالة الحقيقة. فما عن ابن عباس: أنه مجاز (4)، أو عن بعض آخر في تقريب الحقيقة بوجه آخر (5)، غير مبرهن. نعم حسب كثرة المجازات في الاستعمالات، وحسب الأفهام البدوية، لا يبعد المجازية والادعاء وهو أن ما يقابل الإسلام والإيمان والإقرار والعمل الصالح، هو مرض، ومن لا يكون متمايلا إلى هذه الأمور المزبورة، يعد مريضا وفي قلبه مرض، ولو كانت الظلمات المعنوية والحجب المجردة من الأمراض لغة وعرفا، كانت الحقيقة أيضا محفوظة في الاستعمال المذكور.

الوجه الرابع: حول نسبة الزيادة إلى الله تعالى اختلفوا في كيفية نسبة الزيادة إليه تعالى، وأنها نسبة حقيقية أم مجازية، وعلى تقدير كونها حقيقية، فهل الزيادة فعل الله تعالى، أو إمهالهم وابقائهم في كفرهم، من غير إعانتهم في توغلهم في الكفر والنفاق؟أقول: ربما يمكن أن يقال: إن هذه الجملة دعائية كما عن أبي مسلم الأصفهاني (6)، فيسقط البحث المزبور، لما ليس فيه إلا الدعاء عليهم، كما يقال: (قاتلهم الله أنى يؤفكون). ولكن الإنصاف: أنها خلاف الظاهر، لمكان الفاء.

هذا، مع أن من الممكن أن يكون هو من الدعاء النافذ، وليس مجرد شعار وهتاف عليهم بإظهار الاشمئزاز منهم، بل هو الدعاء المستجاب، فيتضمن الإخبار مع كونه إنشاء، وكأنه إخبار في صورة الإنشاء وبالعكس، أو يكون جملة (في قلوبهم مرض) دعاء، وجملة (فزادهم الله مرضا) إخبار عن استجابة الدعاء فعلى كل تقدير لابد من حل مشكلة النسبة، وأنها هل هي على نعت الحقيقة أم المجاز؟وقد عرفت في الوجه السابق: أن أصالة الحقيقة محفوظة إلا مع قيام القرينة على خلافها. إن قلت: أية قرينة أقوى من منع العقل جواز نسبة زيادة المرض - الذي هو الشر - إليه تعالى وتقدس المحمود في فعاله، من غير فرق بين كون المراد من المرض الكفر والنفاق والشك والشقاق أو كان المراد منه الغم والحزن، كما عن أبي علي الجبائي (7)، تخيلا أن بذلك تنحل المعضلة، فإنه على كل تقدير لا يسند إليه الشر بالضرورة إلا مجازا وتوسعة.

قلت: قد مر منا - في مواطن كثيرة - كيفية صحة انتساب الأفعال والآثار إليه تعالى، من غير أن يمس مقامه الشامخ، أو تلزم المجازية في الإسناد، وسيمر عليك في البحوث الفلسفية توضيحه أيضا. وإجماله: أن الفيض النازل يختلف أثرا وجهة، لأجل اختلاف الاستعدادات، الذي يستند إلى اختلاف الناس في الأفعال والأعمال، فربما يكون في القلب مرض هو نطفة الأمراض الاخر، ولكنها حصلت بسوء الاختيار من ناحية المريض أو آبائه وأمهاته، وإذا زرعت النطفة الظلمانية في أرض النفس الإنسانية، فهو كزرع الحنظل لا ينمو ولا يزداد إلا ما هو من سنخ الحنظل والنطفة، قضاء لحق السنخية الموجودة بين العلل والآثار، كما قال الشاعر: گندم از گندم برويد جو ز جو فلا معنى لأن يترقب - بعد تنمية تلك النطفة القذرة المحجوبة المغلوطة وزرعها - غير الكفر والنفاق زيادة ونماء وثمرة وأثرا. ولأجل الإيماء إلى هذه المائدة الملكوتية قال الله تعالى: (في قلوبهم مرض) من غير أن يكون مستندا إليه تعالى أو مستندا إلى أنفسهم بالخصوص، لإمكان كونه وراثة من آبائهم السيئة وأمهاتهم المنحرفة، ثم قال: (فزادهم الله مرضا)، ضرورة أن العالم على ترتيب الأسباب والمسببات، فلا يلومون إلا أنفسهم أو آباءهم. وغير خفي: أن فعال الآباء والأمهات أيضا ليس علة تامة حتى يقع المريض في الجبر والتسخير، بل المرض المزبور من العلل الإعدادية. وما أبرد السدي حيث قال: بأن الآية هكذا: زادتهم عداوة الله مرضا، بحذف المضاف، كما في قوله تعالى: (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) أي من ترك ذكر الله (8)، مع أن ما تخيله في المقيس عليه غير صحيح، فضلا عن المقام، فتأمل التأمل التام، لأنه مزال الأقدام.

الوجه الخامس: حول الإتيان بالمرض مفردا تفريد المرض في الموضعين، يشعر بتوحيد مرض المنافقين وتفريد فساد قلوبهم، فلو قال: في قلوبهم أمراض، فربما يوهم أن في قلب كل واحد مرض خاص، مع أن النظر إلى أن انحرافهم عن الصراط المستقيم والإيمان بالله وباليوم الآخر، يستند في الكل إلى شئ واحد ومنشأ فارد، قضاء لحق السنخية العامة النافذة في جميع الشؤون والأنحاء. هذا، مع أن لازم الإتيان بالجمع كون جميع الأمراض أو الأمراض الكثيرة في قلب كل واحد منهم، مع أن ذلك ربما ينتهي إلى الكذب وخلاف الواقع، لما أن في قلب كل واحد منهم ليس إلا مرض واحد، يقتضي انحرافهم عن الحق وميلهم إلى الباطل، ولكنه أم الأمراض. ويؤيد وحدة المرض - كما مر - التنوين. وفي الآلوسي: أن التنوين للدلالة على أنه نوع غير ما يتعارفه الناس من الأمراض (9). وأنت خبير بأنه لم يعهد في أنواع التنوين هذا النوع. نعم بمناسبة خصوصيات المورد، يستكشف أن في قلوبهم ونفوسهم المجردة نوع مرض غير الأمراض الجسمانية.

الوجه السادس: حول تنكير " مرضا " ربما يخطر بالبال أن يقال: كان الأنسب أن تقرأ الآية هكذا: في قلوبهم مرض فزادهم المرض، فإن الاسم الأول إذا كان نكرة، وكان المراد من الاسم الثاني عين المراد من الأول، ينبغي أن يؤتى به معرفا إشارة إلى وحدة المراد، للزوم توهم التعدد. وربما يستدل على التعدد بإتيان الاسم الثاني نكرة. ولكنه هنا غير تام، لقيام القرينة القطعية - وهي مفهوم الزيادة - على وحدة المراد من الاسمين، فإذا كان في الكلام دليل سابق على وحدة المراد منهما، يتعين إتيان الاسم الثاني نكرة، لأن التعريف غير محتاج إليه، وتنوين المرض الثاني تنوين التمكن والإعراب، ولا يدل على شئ زائد على أصل الطبيعة. وربما يؤيد ذلك كون المرض الثاني تمييزا لا مفعولا، أي زادهم الله تعالى من حيث المرض، لا من الحيثيات الاخر، فافهم وتدبر. ومن الغريب توهم: أن تنكير المرض الثاني لكون المزيد غير المزيد عليه (10)، وهذا من سوء الفهم وقلة التحصيل، فإن الاشتداد والتشكيك في الكيفيات لا يتصور إلا مع الوحدة، فاغتنم.

الوجه السابع: حول البلاغة في ذيل الآية (ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) فيه البشارة الكاشفة عن غاية البلاغة، وفيه الاستهزاء الذي قال الله تعالى: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم) (11)، وإليها يشير اللام، وأيضا - في نهاية البلاغة - بعد كون الجملة في مقام البشارة، توصيف العذاب بالأليم، ولا سيما على كونه في مقام المبالغة والتشديد، بناء على إمكان هذا النحو من المبالغة، وقد مر أن كون الأليم بمعنى المؤلم مما قد صرح به أهل اللغة، ولكنه اجتهاد منهم، فيكون على احتمال صفة العذاب، وتعتبر مبالغة لأجل تجاوز ألمه إلى غيره، كما في اعتبار الطهور صفة للماء واعتبار الشاعر للشعر، فيقال: شعر شاعر، ومنه: الجد للجاد. ثم إن هذه الآية لاشتمالها على إيهام استفادة كون العذاب الأليم، مستندا إلى المرض الذي زاده الله وإلى تلك الزيادة، خصوصا وهذا مما لا يمكن تصديقه أحيانا لذوي الأفهام البدوية، تعرضت لإفادة أن هذا العذاب الأليم مستند إلى فعلهم الصادر عنهم بالاختيار، دون الله تعالى، ودون ذواتهم وأوصافهم الغير الاختيارية. فمن هذه الجهة تكون الآية مشتملة على أرقى جهات البلاغة، وأحسن أسلوب البحث في ضمن تشريح أحوالهم السيئة، مع أن المتراءى من سياق الآيات: أن ختم الآية بقوله: (ولهم عذاب أليم) كان أقرب إلى أوزان الآيات، ولذلك ترى في الآية السابقة: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم). ولكن مع ذلك استزادت الآية لحل المشكلة - هنا وفي الآية الأولى - بقوله تعالى: (بما كانوا يكذبون)، حتى يكون العذاب العظيم والأليم، مقابل كذبهم أو تكذيبهم وجزاء لذلك، ولقولهم: (آمنا بالله وباليوم الاخر وما هم بمؤمنين). وغير خفي: أن القرآن يكون على نهج في الإلقاء، بحيث يحتمل نوعا في كثير من جمله كونه شعارا ودعاء، ومنها قوله تعالى: (ولهم عذاب أليم) من غير نظر إلى الإخبار عن واقعية ونفس الأمرية.

الوجه الثامن: لم قال: (في قلوبهم مرض) ولم يقل: " في صدورهم مرض "؟يمكن أن يقال: إن الصدر - حسب ما يستظهر من بعض الآيات الإلهية - محل الخطور والزوال، وقد كان المنافقون يظهرون الإسلام بأفواههم فحسب، ولا سيما إذا كانت الآيات تشمل الإيمان والإسلام المستودع، فيكون اختيار القلب لأجل عدم رسوخ الحقائق في باطنهم، وعدم تمركز الإسلام والإيمان في نفوسهم. وأما القلب فهو محل الإيمان والاطمئنان، فلما لم يدخل الإيمان في قلوبهم؟قيل لهم: (قولوا أسلمنا ولا تقولوا آمنا)، فكان المنافقون في قلوبهم المرض، لا في صدورهم. والله العالم.

الوجه التاسع: توصيف العذاب بالأليم لم قال الله تعالى في الآية السابقة عند بيان حال الكفار: (ولهم عذاب عظيم)، وهنا قال: (ولهم عذاب أليم)؟قيل: فرق بين العذابين، فإن عذاب المطرودين في الأول أعظم فلا يجدون شدة ألمه، لعدم صفاء إدراك قلوبهم، كحال العضو الميت أو المفلوج بالنسبة إلى ما يجري عليه من القطع والكي، وغير ذلك من الآلام. وأما المنافقون فلثبوت استعدادهم في الأصل وبقاء إدراكهم، يجدون شدة الألم، فلا جرم كان عذابهم مؤلما مسببا عن المرض العارض المزمن الذي هو الكذب ولواحقه (12). ولا يخفى ما فيه. نعم يمكن أن يقال: إن العذاب الأول لمكان كونه من توابع الذات والصفات وصف بالعظيم، والعذاب الثاني لمكان كونه من الأعمال والأفعال وصف بالأليم، أو لمكان كونه عذابا خارجيا وصف به.


1- راجع البحر المحيط 1: 59.

2- راجع البحر المحيط 1: 59.

3- نفس المصدر.

4- راجع تفسير الطبري 1: 121، والبحر المحيط 1: 58 / السطر 21.

5- راجع الكشاف 1: 59، والتفسير الكبير 2: 65، والبحر المحيط 1: 58، وروح المعاني 1: 38.

6- مجمع البيان 1: 48.

7- مجمع البيان 1: 48.

8- راجع مجمع البيان 1: 48.

9- روح المعاني 1: 139.

10- روح المعاني 1: 139.

11- البقرة (2): 15.

12- تفسير القرآن الكريم، المنسوب إلى محيي الدين العربي 1: 21 / السطر 9 - 14.