الفلسفة وبعض بحوثها

البحث الأول: حول حدوث كلام الله وقدمه قضية ما تحرر في التفسير أن قوله تعالى: (إن الذين كفروا) هم الكفار السابقون المكيون فقط أو هم وجماعة من المدنيين، ومقتضى هيئة الماضي أن المراد هي الجماعة المتقدمون على عصر النزول، أي نزول هذه الآية والسورة، فتدل الآية على أن كلام الله محدث ومتأخر عن المخبر عنه، خلافا لمن توهم قدم الكلام (1). أقول: كلام الله تعالى لا يخص بالحروف والأصوات المسماة بالقرآن والكتاب، بل العالم كله كلام الله، ومن العالم هذه الأصوات المنسجمة تحت النظام، فيكون من كلامه تعالى، فإذا كان العالم حادثا فجميع ما في العالم محدث بالضرورة. إنما البحث حول أن قضية حدوث الكلام والعالم حدوث الصفة، وهي الإرادة، لأنها متعانقة مع المراد، وغير منفكة عنه، فلابد من الالتزام بأن الإرادة من أوصاف الأفعال، وليست من نعوت الذات، خلافا للفلاسفة قاطبة، والذي هو الحجر الأساسي أن الإرادة التي هي الفعل، لابد وأن تستند إلى الإرادة الذاتية والاختيار الذاتي، وهي تابعة في عليتها لكيفية تعلقها، فإن تعلقت بشئ أن يوجد فيما لا يزال، فلابد أن يكون الأمر كذلك، والتخلف عن ذلك خلاف قاعدة العلية، فالإرادة وإن كانت في حقه تعالى الجزء الأخير من العلة التامة - على تسامح في التعبير - إلا أن أمرها بيد المريد المختار بالاختيار الذاتي، فما تخيله أبناء الكلام وأولاد العلوم المتروكة في هذه المقامات (2)، فهو مما لا يصغى إليه، لا سيما في هذا العصر عصر النبوغ والمحققين وزمان الفكر والمدققين. أعاذنا الله من شرور أنفسنا إن شاء الله تعالى.

البحث الثاني: حول الجبر والتفويض إن الظاهر من قوله تعالى: (إن الذين كفروا) هو أنهم قد كفروا عن اختيار، فلهم أن يرجعوا إلى الإيمان، لأن الكفر الاختياري تبقى اختياريته، فإذا كان الأمر كذلك فيكون التسوية بين الإنذار وعدم الإنذار بلا وجه. وإن كان المراد من الكفر هو الكفر الذاتي، البالغ إلى حد الخروج عن الاختيار، فيكون الذم بلا وجه، لأنه لا معنى للذم على الفعل غير الاختياري، مع أن الظاهر من قوله تعالى: (سواء عليهم) أنه في موقف هجوهم وذمهم. وإن قلنا: بأن المراد من الكفر هو الاختياري منه إلا أنه تعالى كان يعلم أنهم لا يؤمنون بالاختيار، ويكون عنادهم أبديا، فيلزم أن يثبت لهم الاختيار على تجهيل الله تعالى وقلب علمه جهلا، وهذا مما يكذبه العقل، فإن علمه تعالى يوصف بالوجوب الذاتي، ولا يتعلق به القدرة حتى قدرته تعالى، ولا يقال: هو تعالى قادر على أن لا يعلم، بخلاف أوصافه الاخر كالهداية والإضلال.

وإن قلنا: بأن اختيارهم مسلوب، فيعود المحذور السابق، مع أن سلب الاختيار أيضا خلاف ضرورة العقل. فبالجملة: هذه الآية تنبئ عن مقالة الأشعريين حسب بعض التقارير وعن مقالة المعتزلة حسب التقريب الآخر، كما أشير إليه (3). أقول: الكفر والإيمان من المسائل والموضوعات الاختيارية باختيارية مبادئها وأسبابها، ولأجله يتعلق به الأمر والنهي، ثم إن النفوس وإن كانت - بحسب الطينة والخلقة - مفطورة على التوحيد والإيمان، إلا أنها لمكان الجهات الخارجية والأسباب العرضية، تميل إلى الشرور والأباطيل إلى حد لا يتمكن من إصلاحها الأنبياء وغيرهم، من غير أن يكون الكفر القولي على خلاف الاختيار، ولكن الكفر القلبي والباطني - لتلك العوارض الراسخة البالغة إلى حد الملكات الرذيلة - لا يكون بالاختيار، إلا أن إصلاح الحال أيضا لا يخرج عن حد القدرة والاختيار بالضرورة. فالذين كفروا - بأي قسم من أقسام الكفر - لا يخرجون عن حد الاختيار والإرادة، فيكون كفرهم بسوء الاختيار، ولو لأجل عدم القيام على إصلاح أمرهم واستقامة حالهم، وهذا المعنى أمر معلوم لله تعالى ولغيره أيضا، إلا أن صفة المعلومية لله تعالى لا تورث سلب الاختيار، كما لا تورث صفة المعلومية لغيره تعالى سلب الاختيار عن الكافر.

وأما قدرته على تجهيله تعالى فهي أمر ثابت، ولا منع منه عقلا، لأن مجرد القدرة لا يورث ولا يستلزم إشكالا، ما دام لم تتعلق بخلاف المعلوم، فهو قادر على ذلك إلا أنه لا يتعلق قدرته إلا بما تعلق به علمه تعالى. فبالجملة: تحصل أن الآية لا تكون ظاهرة في واحد من المذاهب الباطلة، وأمثال هذه الآيات كثيرة تأتي في محالها إن شاء الله تعالى. ومن هنا ينقدح - مضافا إلى بطلان بعض البحوث المذكورة هنا -: أن تقريب الشبهة لا يتوقف على كون المراد من " الذين كفروا " الأشخاص المعينون (4)، بل لو كانت القضية بنحو الحقيقة أيضا يمكن تقرير الإشكال، وقد تبين حله بما لا مزيد عليه. وأما ما قد يقال: إن صفة العلم لا تتعلق بها القدرة دون سائر الصفات، فكيف تتعلق بتجهيله تعالى قدرة العباد، فهو من الجزاف، لأن العلم الذاتي وسائر الأوصاف الكمالية الذاتية لا يتعلق بها القدرة، وأما العلم الفعلي وسائر الكمالات الفعلية يتعلق بها القدرة، إلا أنه في الأزل تعلقت قدرته بأن يعلم في مقام الفعل، كما تعلقت قدرته في الأزل بالإضلال والهداية.

تذنيب

هذه الشبهة تأتي بالنسبة إلى إخباره تعالى بأنهم لا يؤمنون، فإن كان الخبر صادقا فيخرج الأمر عن الاختيار، وإن كان كاذبا فهو بديهي البطلان. والجواب الجواب، ضرورة أن صدق الخبر لا يورث كون مفاد القضية خارجا عن اختيار المخبر عنه، بل المخبر عنه يوجد ذلك بالاختيار، كما إذا أخبر بأن زيدا يكفر بالاختيار، فإن صدق هذه القضية منوط بأن يكفر بالاختيار، فلا يلازم صدق القضايا الجبر وانسلاب القدرة.

تنبيه

إن الآية في موقف الترغيب قد تبين فيما سبق أن هذه الآية وأمثالها الكثيرة في أثناء الكتاب والتنزيل ربما تكون إخبارية في موقف الإنشاء والترغيب، وكأنه تعالى - مثلا - يريد أن يستبدلوا كفرهم بالإيمان، ولو كان ذلك عنادا له تعالى وقصدا إلى أن يصير خبره تعالى كاذبا، فإنهم لأجل ذلك كانوا يؤمنون، وإذا آمنوا فربما يبقون في إيمانهم، لأن نوره يجرهم ويبقيهم، وهذا نهاية اللطف والرأفة بحق العباد الكافرين، فالآية خبرية صورة وترغيب وإغراء واقعا وجدا.

إفاضة

حول الأمر بين الأمرين من الممكن أن تكون الآية هكذا: إن الذين كفروا سواء أنذرتهم يا محمد أم لم تنذرهم لا يؤمنون لأجل انذارك، وأما أنهم لا يؤمنون مطلقا فلا يستفاد من الكتاب، فيسقط الاستدلال. ومن إسناد الفعل إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن إسناد الكفر إليهم - خذلهم الله تعالى - يثبت الاختيار، وينتقض قول المجبرة والقدرية، ومن إثبات التسوية بين الإنذار واللا إنذار يستشم قول المعتزلة والمفوضة. ومن انضمام قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت) (5) إلى هذه الآية، يستظهر أن إنذاره (صلى الله عليه وآله وسلم) وعدم إنذاره متساوي النسبة إلى الكفار وغير الكفار، فالذين كفروا لا يؤمنون بإنذارك والذين آمنوا أيضا لا يؤمنون بإنذارك، ومقتضى الجمع بين هذه المقتضيات المختلفة والآثار المتشتتة، ثبوت الحد الوسط والقول العدل، وهي مقالة الإمامية، وعليها بعض أبناء التحقيق من العامة، وهي الأمر بين الأمرين، وهو أن العلل المتوسطة في النظام الإلهي علل إعداد، والعلة المفيضة هي العلة الأولى والحق الأول، وضرورة أن النسبة إلى علة الإفاضة أقوى بمراتب من النسبة إلى العلل الإعدادية، إلا أن الفيض لا يصل إلى المتأخر بدون تلك الوسائط الإعدادية. فالقول بأن الصغرى والكبرى في حصول العلم بالنتيجة غير دخيلة، قول في جانب الإفراط (6)، والقول بأن العلم الثالث معلول العلمين الأولين إعدادا وإفاضة، قول في جانب التفريط (7)، والجاهل: إما مفرط أو مفرط، وأما الصراط المستقيم الخارج عن حدي الإفراط والتفريط فقول الحكماء العظام، حيث قالوا: والحق أن فاض من القدسي الصور وإنما إعداده من الفكر (8).


1- راجع شرح المقاصد 4: 144، وشرح المواقف 8: 92.

2- راجع شرح المقاصد 4: 128 - 137، وشرح المواقف 8: 81 - 87.

3- انظر التفسير الكبير 2: 42 - 49.

4- تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 289، التفسير الكبير 2: 42، روح المعاني 1: 121.

5- القصص (28): 56.

6- راجع شرح المقاصد 1: 236 - 240، وشرح المواقف 1: 241 - 242.

7- راجع شرح المقاصد 1: 237، وشرح المواقف 1: 243.

8- راجع شرح المنظومة (قسم المنطق): 73.