البلاغة والمعاني

وهنا توجيهات:

التوجيه الأول: وجه تأكيد الجملة كان المقام يناسب تأكيد الجملة ب? " إن "، لأن المراد من " الذين كفروا " في مثلها غير المراد من " الذين كفروا " في قوله تعالى: (يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم) (1) حسب الظاهر ولأجل ما اشتهر عنهم: أن المقصود من " الذين كفروا " في هذه الآية هي الأشخاص المعينون وإن اختلفوا في تعديدهم: فعن ابن عباس: أنهم رؤساء اليهود المعاندون. وقال الآخرون: بل المراد قوم من المشركين، كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأمثالهم (2). والحق: أنه لمطلق المعاندين حسب اقتضاء العموم، إلا أنهم المعاندون المخصوصون الذين يحق أن يعبر عنهم بمثل ما في هذه الكريمة. فبالجملة: الآية تشهد على أن المقام يناسب التأكيد. ومن هنا يظهر: فساد ما عن الكندي المتفلسف من توهم: اتحاد معنى " زيد قائم " و " إن زيدا قائم " و " زيد لقائم " وهكذا (3)، غفلة عن أن المقتضيات تختلف في كيفية الاستعمالات، وقد كان علم البلاغة متصديا لرعاية هذه الشؤون والجهات.

التوجيه الثاني: حول شمول الآية لمطلق المعاندين قد أشير آنفا إلى أن اختصاص الآية بطائفة خاصة غير صحيح، لأنه تخصيص بلا مخصص، ولا حجية لرأي ابن عباس ولو ثبت، ولكن لا يكون عاما يشمل مطلق الكفار، الذين كانوا إذا يعرض عليهم الإيمان والهداية يؤمنون ويهتدون. وإنما الكلام فيما قد يقال: بأنه عام لمطلق المعاندين في صدر الإسلام (4)، فإنه أيضا بلا وجه، وقد بلغت موارد استعمال هذه الجملة في الكتاب الإلهي إلى قريب من مائتين (200)، ولو قامت القرينة في خصوص بعض منها على أن المراد من " الذين كفروا " هم الكفار في صدر الإسلام، كما أن المراد من " الذين آمنوا " هم المؤمنون في بدو طلوع الإسلام فهو، وإلا فلا سبيل إلى فهم القاعدة الكلية في المقام. ويظهر الكلام في صحة ما قيل في خصوص " الذين آمنوا " في المقام المناسب له. فعلى هذا هذه القضية أيضا - كسائر القضايا - كلية سارية في جميع الأعصار، وجارية في حق جميع المعاندين الذين تكون حالهم هكذا، ضرورة أن إنذار القرآن باق إلى يوم القيامة ولا يختص بالأولين.

التوجيه الثالث: حول الغرض من الآية المشهور المقطوع به أن الآية جملة إخبارية، وتخبر عن واقعية خارجية: إما بنحو القضية الخارجية، أو بنحو القضية الحقيقية، لأن نداء القرآن لا يخمد بخمود عصر النزول وبمضي زمان الوحي، فيصح أن تكون من قبيل القضايا الحقيقية. والذي يحتمل: هو أنها تكون في موقف الشعار والإعلان والتوبيخ والتثريب، ويعلن أن الذين كفروا حالهم في الانحطاط، بلغت إلى حد لا يؤثر فيه الإرشاد والتحذير والعظة والإنذار، من غير إرادة الأمر الواقعي، وأنه بحسب الخارج يكون الأمر كذلك، بل في هذا المنهج والمسلك نوع إرشاد وتبليغ إلى جانب الاهتداء، ونوع ترغيب وإغراء إلى جانب الإيمان والإسلام، فهي خبرية إنشائية، ولعل هذا المعنى يتراءى من مثل هذه الآية النازلة في سورة يس، قال: (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب) (5). فبالجملة: بذلك تسقط الاستدلالات الآتية في البحوث الأخر، كما أن من ملاحظتها في سورة " يس " يظهر: أن موضوعها ليس الكفار، لما في الآية السابقة على هذه الآيات هكذا: (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون) (6).

التوجيه الرابع: وجه إيجاز الآية قد عرفت فيما سبق: أن الآيات الأولى من سورة البقرة في حال المؤمنين، وهي الطائفة الأولى من الناس، والآيتان - وهما هذه الآية والتي بعدها - في حال الكفار، والآيات التي تجئ إلى الآية العشرين في حال المنافقين. وحيث إن السورة مدنية يعلم من الاختصار الملحوظ في جانب الكافرين، أن المنافقين في المدينة كانوا أشد قوة وأكثر إضرارا. وعلى هذا كانت البلاغة تقتضي الإيجاز.

التوجيه الخامس: المراد من الكفر حذف المتعلق دليل العموم، فالذين كفروا أعم من الكافرين بالله أو الكافرين بالقيامة، أو بالكتب والرسل والولاية، ولأحد أن يقول: إن قوله تعالى (لا يؤمنون) قرينة على أن المراد من الكافرين معنى يجتمع مع المسلمين غير المؤمنين بالولاية، وعلى أي تقدير قضية الإطلاق أن المراد مطلق الكفار سواء كانوا من الكافرين بكفر الجحود بقسميه: جحود بعلم وجحود بغير علم، أو كانوا من الكافرين بكفر البراءة، أو الكافرين بكفر الشرك، كما في ذيل آية (فمن كفر فإن الله غني عن العالمين) (7)، أو من الكافرين بكفر النعم الباطنية أو الظاهرية. وإن شئت قلت: إن المنصرف إليه من الكفر في الكتاب والسنة، هو كفر الوجوب الذاتي، وكفر الإلهية، وكفر التوحيد، وكفر الرسالة، وكفر الولاية، وكفر المعاد، وكفر النعماء، وفي قبالهم المؤمن بالوجوب الذاتي الذي لا يقول بالبخت والاتفاق، والمؤمن الذي يقول بالهيئة تعالى في مقابل طائفة من اليهود والمعتزلة القائلين بأن الأمور مفوضة إليهم، وهم الفاعلون بالاستقلال، والمؤمن الذي يقول بالمبدأ الوحيد الفريد المؤثر، في مقابل من يقول بالمبدأين أو بالمؤثرين وإن كان المبدأ واحدا في قبال من يقول بالنور والظلمة والأهورامزدا والأهريمن، وهم المجوسية أو الزردشتية، والمؤمن الذي يقول بالرسالة المطلقة والرسول الخاص في مقابل من ينكر ذلك، أو ينكر الرسالة الخاصة، كاليهود والنصارى وبعض الأصناف والفرق الاخر، والمؤمن الذي يقول بعدم انقطاع الرسالة بباطنها، وهي الولاية المطلقة الثابتة لولي الأمر ولصاحب العصر، وفي مقابلهم الفرق المنتحلة للإسلام الضالون عن الحقيقة، ويهديهم الله إلى تلك الولاية إن شاء الله تعالى، والمؤمن بالمعاد وبيوم الميعاد على طبق الكتاب والعقل المصيب، وفي حذائه الجاحد به، والقائل بأن للعالم مبدأ، ولكن المعاد غير ممكن لامتناع إعادة المعدوم، وإن المعاد في المعاد غير الموجود في البدء.

وهذه الفرق كلها يمكن اندراجها في هذه الآية. نعم الكافر بأنعمه تعالى وكافر الأحكام وتاركها، لا يندرجان تحتها إلا على وجه بديع، وهو أن هذه الآية - كما تكون ساكتة عن متعلق الكفر - ساكتة عن المنذر منه، وساكتة عن متعلق قوله: (لا يؤمنون)، فعند ذلك تحصل النتيجة المقصودة، وتصير الآية في غاية البلاغة، لأن من البلاغة الراقية كون الكلام قابلا للشمول العام لجميع الأقسام. ومن هذه الأقسام: الكفر المقالي، والكفر الجناني، والكفر الحالي، والقلبي، والكفر الشهودي، أو التحققي. وفي اعتبار آخر: الكفر الفطري، والكفر العارضي، وفي قبال هؤلاء الكفار المؤمنون، فإن من المؤمنين من يؤمن باللسان في مقابل الكافر المقالي، كقارون حين قال: (إنما أوتيته على علم) (8) أو فرعون، كما زعم في حقه أنه إذا قال: (أآمنتم به قبل أن آذن لكم) (9) فكأنه المؤمن الكافر مقالا، ومن المؤمنين من يؤمن قلبا وجنانا وحالا وروحا، في مقابل المنافقين الذين هم كفروا قلبا ويؤمنون مقالا ولسانا، وكعامة الناس فإنهم مؤمنون قولا واعتقادا، ولكن الإيمان لم يرسخ في قلوبهم، ولما يدخل الإيمان في أرواحهم وقلوبهم. ومن المؤمنين من يؤمن بهذه الأمور، ويكون إيمانه شهوديا أو تحققيا في قبال إيمان الشيطان، فإنه لما لم يكن كذلك سلك مسلكه وسبيله، وهذه الطائفة الأخيرة من المؤمنين في غاية القلة بعد الأنبياء والأولياء، والإيمان التحققي معناه: أن مفهوم الإيمان بالنسبة إليه يكون ذاتيا، ويعد من الخارج المحمول، لا المحمول بالضميمة، بخلاف سائر المؤمنين حتى المؤمن بالشهود، فكما أنه تعالى مؤمن، وينتزع مفهوم الإيمان من صراح ذاته وصميم حقيقته، كذلك المظهر ربما يبلغ إلى هذا الحد، والله من ورائهم محيط.

ومن هنا يظهر الكفر الفطري والعرضي. والآية حسب ما حررنا وأسمعناها لا تختص بطائفة دون طائفة، ولو كانت الأدلة الخاصة على خلاف ما تبين وتقرر، فهي ناظرة إلى بيان بعض المدلول، وليست صريحة في حصر الدلالة، فليلاحظ جيدا. ثم اعلم: أن كثيرا من هذه الأقسام لها أصناف، ولا يهمنا توضيحها، مثلا: كفر التوحيد ينقسم حسب أقسام التوحيد: إلى التوحيد الذاتي والصفاتي والأفعالي والعبادي، والتوحيد الذاتي: إلى توحيد خاص الخاص وأخص الخواص وتوحيد الخاص والعام والعوام، كما تحرر في الكتب العقلية والرسالات العرفانية، وهكذا في ناحية الصفات والآثار، فتكون الأقسام ستة عشر، وفي حذائها أقسام الكفر. أعاذنا الله تعالى من جميع مراحله ومراتبه، ويغفر لي، آمين يا رب العالمين.

التوجيه السادس: هل الإنذار لغو؟أن الجملة الاستفهامية بحسب الصورة تكون ظاهرة في أن إنذارك فيما مضى وسبق وعدم إنذارك سيان، فيكون ما صدر من جنابه (صلى الله عليه وآله وسلم) من اللغو غير اللائق بجنابه (صلى الله عليه وآله وسلم)، كأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا ترك إنذارهم فما كان تارك الامتثال، ولا مخالفا لأمر مولاه. وبالجملة: قضية التسوية بين الإنذار وعدم الإنذار في الزمان الماضي، هو كون الإنذار من اللغو ومما لا فائدة فيه، ولا وجه لحمل الجملة على المعنى الاستقبالي حتى يكون في موقف النهي عن الإنذار بعد ذلك، وأنه يلزم الاكتفاء بما سبق منه، كما لا يخفى. فالآية من هذه الجهة مورد المناقشة حسب الفصاحة أو البلاغة، بل لازم التسوية أن ترك الإنذار كان أولى، لأنه كان من ترك ما لا ينبغي لمقامه، فكان ينبغي من الابتداء أن يتنبه إلى التسوية حتى لا يكون من المنذرين. أقول: وجه هذا التسويل والخيال الغفلة عن حقيقة الحال، حيث قال الله تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم)، ولم يقل: سواء لك، فلا منع من كون الإنذار وعدم الإنذار متساوي النسبة بالنسبة إليهم، ولازما ومفيدا بالنسبة إليه (صلى الله عليه وآله وسلم). هذا ولو كانت الجملة في موقف الترغيب والإنذار أيضا وبيان سوء الحال، حتى يتنبهوا ويتوجهوا إلى الإسلام، فلا يأتي الإشكال. ثم إن ما أمر به (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الإنذار وقد امتثله، ولو كان يترك الإنذار كان مخالفا لأمر مولاه، وأما ترتب الأثر على الإنذار وعدمه، فهو أمر آخر وراء ما هو المطلوب منه (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما أمر الله تعالى موسى وهارون أن يقولا (له قولا لينا) وعليهما الامتثال وإن كان فرعون ممن لا ينتهي، ويكون الإنذار وعدم الإنذار بالنسبة إليه أيضا على السواء. هذا مع أن في إنذارهم أيضا لا تلزم اللغوية، لأن بذلك تتم الحجة البالغة الإلهية، فلا يقولون يوم القيامة: ولو هدانا الله لما كنا من الضالين.

التوجيه السابع: حول ذكر " لا يؤمنون " لأحد أن يوجه السؤال عن وجه تعقيب الجملة الأولى، وهي قوله تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) بقوله تعالى (لا يؤمنون)، مع أن الجملة الثانية بلا إفادة، ولأجل ذلك ذكر الأكثر: أنها في مقام توضيح الجملة الأولى، ولا محل لها من الإعراب، ولو أمكن الفرار من أنها لا محل لها من الإعراب، لما تحرر منا في بحث الإعراب: من أنها خبر " إن "، لما أمكن الجواب عن السؤال المطروح بوجه آخر: وهو أن كل واحدة من جملة (سواء عليهم أأنذرتهم) وجملة (لا يؤمنون) تفيد معنى واحدا. ويشهد له: تصحيح أخذ كل واحدة منهما علة للأخرى، فتكون علة الاستواء أنهم لا يؤمنون، وتكون علة عدم إيمانهم استواء حالهم بالنسبة إلى الإنذار وعدم الإنذار، وهذا يشهد على أن العلية الواقعية أمر آخر غير ذلك، فلا تغتر بما في بعض التفاسير. والذي يظهر للمتدبر: أن الآية الشريفة ربما تستلزم يأس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من النبوة والإنذار بالنسبة إلى جميع المنحرفين عن الصراط السوي، وعن كافة المعوجين عن الطريق المستقيم، وهذا من موهنات البلاغة، ولا سيما في الكتاب الإلهي. ولأجل هدم هذا الموهن وتلك الخيلاء أفاد أمرا آخر، وهو أنك لا تيأس من إنذارك، لأنهم - على ما يأتي - عالم بحالهم لا يؤمنون، بخلاف غيرهم، ولعله لأجل ذلك جئ بها مؤخرة، وحالت جملة " سواء أنذرتهم " بينها وبين اسم " إن ". والله العالم.


1- التحريم (66): 7.

2- راجع مجمع البيان 1: 43، والتفسير الكبير 2: 40، والبحر المحيط 1: 50.

3- التفسير الكبير 2: 36 - 37.

4- تفسير الميزان 1: 52.

5- يس (36): 7 - 11.

6- يس (36): 6.

7- آل عمران (3): 97.

8- القصص (28): 78.

9- الأعراف (7): 123، طه (20): 71، الشعراء (26): 49.