اللغة والصرف

الآية السادسة من سورة البقرة قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾

وهنا مسائل:

المسألة الأولى: حول كلمة " إن " " إن " بالكسر والتشديد تأتي على وجوه التأكيد والتعليل وبمعنى نعم. والحق أن الكل بمعنى واحد، وهو التحقيق والتثبيت. قال عبد القاهر: والتأكيد بها أكثر وأقوى من التأكيد باللام. وقال: أكثر مواقعها بحسب الاستقراء الجواب لسؤال - ظاهر أو مقدر - إذا كان للسائل فيه ظن (1). وبناء عليه تكون الآية في المقام - بحسب التقدير - جوابا للسؤال عن أثر الإنذار في الذين لا يؤمنون. وبالجملة: لا معنى للتأكيد إلا في مورد الوهم والشك والتردد في ثبوت المسند إليه للمسند، فكأنه يقع سؤال فيجاب مؤكدا.

المسألة الثانية: حول كلمة " كفروا " الكفر - بالضم - ضد الإيمان، ويفتح، ويقال: " كفر نعمة الله يكفرها "، من باب نصر. وقيل: قول الجوهري - تبعا لخاله أبي نصر الفارابي -: إنه من باب ضرب غلط قطعا (2). وقيل: لا غلط، والحق ما ذهب إليه الجوهري، وتبعه الأئمة، وتبعهم " القاموس " وغيره، فإن الكفر الذي بمعنى الستر من باب ضرب بالاتفاق، وهو غير الكفر الذي هو ضد الإيمان، فإنه من باب نصر (3). والذي اشتهر بين المدققين وأبناء التفسير إرجاع الكل إلى أصل واحد، وأن أصل الكفر - بالضم - هو الكفر - بالفتح - بمعنى الستر والتغطية، ولأجله يسمى الليل كافرا، والبحر العظيم والزارع أيضا من الكفار، كما في قوله تعالى: (كمثل غيث أعجب الكفار نباته) (4) يعني الزراع، لأنهم يغطون الحب في الأرض، ولأجل ذلك يقال: رماد مكفور، أي لفت الريح عليه التراب، والكافر من الأرض ما بعد عن الناس. وقال الراغب: الكفر في اللغة ستر الشئ، والكافور أكمام الثمرة التي تكفرها، وكفر النعمة وكفرانها سترها بترك أداء شكرها، والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالا، والكفر في الدين أكثر، والكفور فيهما (5).

أقول: ما تخيله المتأخرون - تبعا لأمثال الراغب - مما لا يساعد عليه الدليل، فإن الكفر الذي معناه الستر يكون متعديا، والكفر الذي هو ضد الإيمان لا يكون متعديا، فلا يصح أن يقال الكافر ساتر، بل الكافر مستور عن الحق. هذا هو الظاهر من مواضع الاستعمالات مع كثرتها في الكتاب الإلهي (من كفر بالله) (6)، (أفرأيت الذي كفر بآياتنا) (7)، كفرت بما أشركتمون من قبل) (8)، (أكفرت بالذي خلقك) (9)، (قال جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) (10) ومن المحرر في محله: أن اسم المفعول لا يصاغ من الفعل اللازم، فلاحظ.

المسألة الثالثة: حول كلمة " سواء " " سواء " في " القاموس ": سواء العدل (11)، وفي شرحه: هكذا في النسخ بالقصر، والصواب بالمد (12). والأصوب: أن السواء - بفتح السين - ممدودا العدل والوسط بين الحدين. (في سواء الجحيم)، أي في وسطها، ويجئ بمعنى المستوي، فيقال: مكان سواء، أي مستو، والسوى والسوى - بالكسر والضم - مكتوبا بالياء العدل والوسط أيضا، وبمعنى المستوي في قولهم: مررت برجل سوى والعدم، أي مستو وجوده وعدمه. وبالجملة: إذا كان بعد " سواء " همزة التسوية فلابد من " أم " مع الكلمتين - اسمين كانتا أم فعلين - تقول: سواء علي أزيد جاء أم عمرو، و (سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين)، وإذا كان بعدها فعلان بغير همزة الاستفهام، عطف الثاني ب? " أو "، وقلت: سواء علي قمت أو قعدت، وإذا كان بعدها مصدران عطف الثاني بالواو وب? " أو " حملا عليها، فيقال: سواء علي قيامك وقعودك، وقيامك أو قعودك. وقد تجئ " سواء " حرف استثناء، كما في الألفية: وفي سوى سوى سواء اجعلا على الأصح ما لغير جعلا (13) وعلى جميع التقادير تكون منصرفة يدخلها التنوين، لأن الهمزة الأولى أصلية.

المسألة الرابعة: حول كلمة " إنذار " أنذره بالأمر إنذارا ونذرا ونذرا ونذرا ونذيرا، والأربعة الأخيرة مصادر غير قياسية. وبالجملة: هو بمعنى الإعلام والتحذير عن عواقب الأمر قبل حلولها، والتخويف في الإبلاغ، وربما يستشم من قوله تعالى: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة) (14) ومن قوله تعالى: (إنا أنذرناكم عذابا قريبا) (15) ومن غير ذلك مما يكثر ذكره في الكتاب: أن الإنذار هو الإعلام إلا أن أكثر استعمالاته في الإعلام المشفوع بالتخويف. ويؤيده كنية الديك بأبي المنذر، ولكنه بمعزل، فالمنذر منه في هذه الآيات هي الحصة الخاصة من العذاب والعقاب، وما هو مدلول اللغة هو مطلق التخويف والتهديد، ونظيره قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) (16) فإن الإسراء هو السير في الليل، والآية تفيد أن السير كان في واحدة من الليالي. هذا، مع أن التجريد نوع تحسين في الفصاحة أو البلاغة، وقد تعارف ذلك بين أهل الأدب.

وهم ودفع

يظهر من اللغة أن " نذر " الثلاثي بمعنى علمه فحذره واستعد له، يقال: نذروا بالعدو، أي علموا به فحذروه. وفي " الأقرب ": أنذرت القوم سير العدو إليهم فنذروا (17). فيكون مطاوع الإنذار. وبالجملة: النذير مصدر وجمعه نذر، وهو بمعنى الإنذار، والمنذر الرسول، فعلى هذا يشكل الأمر في الاستعمالات الرائجة في الكتاب، من جعل " النذير " صفة كالبشير، وقد قصد بذلك أنه المنذر، لا المنذر. أقول: إني وإن بنيت على أن لا أذكر خصوصيات كل لغة لدى المناسبات، حذرا عن الإطالة، إلا أنه قد وقعت الزلة، فليعذرني القارئ الكريم. ولو كان ما أفيد صحيحا لكان قوله تعالى: (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا) (18) خلاف القاعدة حتى في كلمة " البشير " لأن " بشر " الثلاثي أيضا ليس بمعنى التبشير. نعم قد صرح اللغويون: بأن البشير بمعنى المبشر، وهكذا النذير بمعنى المنذر (19)، وظاهر كتاب " المنجد " خلاف ذلك (20)، ولكن الأغلاط في هذا الكتاب الصغير كثيرة، ويكفي مما في غيره ك? " الأقرب "، ونحوه ما في الكتاب الإلهي. والله العالم.


1- راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 205 - 206.

2- راجع تاج العروس 3: 524.

3- نفس المصدر.

4- الحديد (58): 20.

5- المفردات في غريب القرآن: 433 - 434.

6- النحل (16): 106.

7- مريم (19): 77.

8- إبراهيم (14): 32.

9- الكهف (18): 37.

10- الإسراء (17): 45.

11- القاموس المحيط: 1673.

12- تاج العروس 10: 187.

13- الألفية، ابن مالك: مبحث الاستثناء، رقم البيت 12.

14- فصلت (41): 13.

15- النبأ (78): 40.

16- الإسراء (17): 1.

17- أقرب الموارد 2: 1287.

18- البقرة (2): 119.

19- راجع أقرب الموارد 1: 44 و 2: 1288.

20- راجع المنجد: 38 و 800.