تفسير قوله تعالى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾

نسبة الصراط إلى غير الله سبحانه:

إن من يراجع الآيات القرآنية يجد: أنها جميعاً باستثناء آيتين قد نسبت الصراط إلى الله سبحانه. فاقرأ الآيات التالية، وقس عليها غيرها:

- ﴿صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (سبأ/6).

- ﴿صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا﴾ (الأنعام/126).

- ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ (الأنعام/153).

- ﴿صِرَاطِ اللَّهِ﴾ (الشورى/53).

والآيتان اللتان نسب فيهما الصراط لغير الله هما:

قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام/161) فإنه اعتبر في هذه الآية: أن الصراط المستقيم هو الدين القيم، أي هو صراط موصوف بأنه دين قيم، ولكنه تعالى أيضاً لم ينسب في هذه الآية الصراط إلى أحد.بل تركه عرضة للاحتمالات، مع العلم أن الدين القيم هو صراط الله سبحانه أيضاً.

فينحصر نسبة الصراط لغير الله سبحانه في خصوص: آية سورة الفاتحة: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ (الفاتحة/7)

فهنا أسئلة ثلاثة:

الأول: لماذا اختصت سورة الفاتحة بهذا الأمر؟

الثاني: ما هو السبب في نسبة الصراط هنا فقط لغير الله سبحانه؟

الثالث: لماذا احتاج إلى هذا التفصيل بعد قوله: الصراط المستقيم؟

ونقول في الجواب عن هذه الأسئلة:

أولاً: إن نسبة الصراط في سورة الفاتحة إلى الذين أنعم الله عليهم ليس معناها أنه لم ينسبه فيها إلى نفسه، وذلك لأن صراطهم هو في النتيجة والمآل صراط الله سبحانه.فهو ينسبه إليهم، لأنه صراطهم الذي اختاروه ومشوا فيه وقطعوه..وإن كان الله سبحانه هو الذي سنّه وشرعه لهم.

ثانياً: إن الله تعالى حين نسب الصراط، للذين أنعم عليهم، فقد أراد أن يقول: إن الذي اهتدى إلى صراطه المستقيم، فإنما اهتدى إليه بنعمة منه تعالى وبفضله وهدايته؛ فيكون ذلك أدعى للإخلاص له، والارتباط به سبحانه وتعالى. وليس هذا الاهتداء نتيجة لقدرات ذاتية بشرية كامنة، ومن خلال جهد شخصي، بعيد عن تسديد الله سبحانه، وهدايته، وأفضاله.

وثالثاً: إنه إذا ظهر لنا أن الآخرين قد اهتدوا إلى هذا الصراط، فإن ذلك يجعلنا نطمئن إلى إمكانية تحقق ذلك بالنسبة إلينا أيضاً، فهو إذن ليس أمراً نظرياً تجريدياً لا واقعية له، أو ليس فوق طاقة البشر، أو غير قابل للتطبيق، بسبب ظروف موضوعية ذات طابع معين.

ورابعاً: إنه تعالى في خصوص هذه السورة التي لا بد أن نقرأها في صلاتنا عشر مرات على الأقل يومياً، يريد أن يجسد لنا الأسوة والقدوة واقعاً حياً يمكن أن نترسم خطاه، ونهتدي بهديه.

وذلك لأن الإنسان ? بطبيعته ? يتعامل مع الأمور من خلال حواسه الظاهرية بالدرجة الأولى، ثم ينتزع من القضايا المحسوسة قضايا تصورية، ثم يبحث عن قواسمها المشتركة ويسقط خصوصياتها، ليكتشف المبدأ والنظرية، والقاسم المشترك، والقاعدة.

وقد أراد سبحانه لنا هنا: أن يجسد لنا هديه وتعاليمه لننتقل من المضمون الواقعي والحسي، الغني بالقيم والجمالات، ليمثل لنا إغراءً يدعونا إلى الاندفاع إليه، والالتزام به، والتعاطي معه، من موقع الوعي، والمشاعر المرتكزة إلى مناشئها، فنكون أكثر اقتناعاً، وأعمق إيماناً، وأشد تمسكاً والتزاماً به.حتى إننا لنضحي من أجله بالغالي والنفيس حين يقتضي الأمر ذلك.

أما إذا اقتصر على المضمون التصوري، والتخيلي التجريدي، فإن الاندفاع لن يكون بالمستوى المطلوب، بل سوف يعاني من حالات التردد والخوف من جدوى أو من إمكانية وواقعية ما يطلب منه.ولن يكون في موقع الرضى والثبات والطمأنينة في الممارسة وفي الموقف. ولا أقل من أن ذلك لن يكون قادراً على الإثارة والإغراء بمستوى ما لو كان المضمون حسياً ومتجسداً.

أضف إلى ما تقدم: أن من مصلحة الإنسان أن يتطلب أقصى درجات الهداية وأجداها وأوضحها، وأشدها تأثيراً، والهداية الحسية هي الأقوى والأجدى حيث تريك القيم، والجمالات متجسدة أمامك، وتدفع بك، وتشدك إليها.

فإذا صاحب ذلك تنفير، وتخويف من صراط الضالين والمغضوب عليهم.فإن كل المقومات المطلوبة للاندفاع بقوة تصبح جاهزة ومستعدة للتأثير وللتحريك باتجاه الهدف الأقصى والأسمى.

وبعبارة أوضح: إن النعمة والاستزادة هي هدف الطالب في جامعته، وهدف المزارع في حقله، وهدف العابد في محرابه، و..ويتحرك الإنسان من أجل الحصول عليها بصورة عفوية فيسلك إليها أقرب السبل وأكثرها أمناً.وهو الصراط المستقيم.

فإحساسه بأن ثمة نعمة وثمة استزادة، يمثل دافعاً له إلى التحرك نحوها.وإن الغضب الإلهي ? والله سبحانه هو أعظم قوة تملك التصرف في حياة وشؤون الإنسان وغير الإنسان.ثم الضلال عن الهدف، وعن طريق الوصول إليه، نعم، إن هذا الغضب وذلك الضلال لما كان الإنسان ينفر منه ويبتعد عنه بصورة عفوية أيضاً..لأن الغضب والضلال يوحيان بزوال النعمة، أو بعدم الحصول عليها، فلا بد له إذن من الابتعاد عن سبل المغضوب عليهم والضالين لتفادي أية سلبية تنشأ من اتباع سبيلهما.

ويلاحظ أخيراً: أنه تعالى قد عبّر بكلمة "أنعمت" التي تفيد معنى ينطبق على جميع الأمور التي تعني الإنسان من صحة أو مال أو قدرة، أو جاه أو هداية أو علم، أو أمن أو أي شيء آخر يسهم في إسعاد الإنسان، ويمكن له أن يحصل عليه.وهذا نوع آخر من الترغيب والتحفيز للسير على ذلك الصراط.

وكل ذلك يفسر لنا السبب في أن ذلك قد ورد في سورة الفاتحة التي تتكرر في كل يوم عشر مرات على الأقل.فقد أريد منه أن يصبح خلقاً، وطريقة، وحركة عفوية، من خلال ارتكاز ذلك في نفس الإنسان وروحه وكل وجوده.

النعمة والنقمة:

وقد يتخيل البعض: أن الذين أنعم الله عليهم.قد تسببت لهم نفس تلك النعمة بالنقمات، فقد أوذي الأنبياء، وقتل الحسين بن علي عليه السلام في كربلاء بصورة مفجعة.وقال علي عليه السلام لأهل العراق: "لقد ملأتم قلبي قيحاً". ومع هذا، فكيف نفسر قوله تعالى: ﴿فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ (النساء/69)؟

حيث عد سبحانه الشهداء أيضاً في جملة من أنعم عليه، مع أنهم يواجهون الحتوف، بشفار السيوف، مع ما يصاحب ذلك من آلام ومشقات وأهوال، ومحن. هذا بالإضافة إلى الأنبياء الذين يواجهون المصائب والبلايا، والعظائم والرزايا.

وخلاصة الأمر: إن هذا ?وفق تصورهم - لا يتناسب مع نسبة النعمة لهم، بل ذلك نقمة، لأنه ليس إحساناً وتكريماً إلهياً.فكان المناسب أن يقول: صراط الذين أتعبتهم وأشقيتهم بالمصائب في سبيل هذا الدين.

ونقول في الجواب:

صحيح أن النعمة هي الشيء الحاصل للإنسان على سبيل الإفضال والتكريم منه تعالى.ولكن المهم هو أن ندرك نحن هذه النعمة، ونعرف كيف نتلمسها، وما هي المفردات التي تتجسد فيها.فهل تتجسد بالمال، أو بالسلطة، أو بالجاه، أو بالمنصب، أو بالقوة الجسدية، أو بالجمال، أو بالعرق، أو..

فقد يشعرك المال بالطمأنينة، والسعادة، والراحة النفسية، ولكنها طمأنينة، وراحة وسعادة تبقى محدودة بحدود، ومقيدة بقيود لا تتجاوز قيمة المال نفسه.فإذا مرضت فقد تستفيد من مالك لدخول أرقى المستشفيات، واستخدام أحدث الأجهزة، والاستفادة من خبرات أمهر الأطباء، وو..ولكن هل هذا هو كل شيء.وهل حصلت على الطمأنينة وعلى السعادة بأعلى مراتبها؟ وهل زال هاجس الخوف على حياتك بصورة نهائية؟

إن المال يماشيك ويصل معك إلى حد معين، ثم يقف عنده، وكذلك الجاه، والسلطة وو..وبعد ذلك ? وهذه هي المرحلة الأخطر والأهم ? لا بد أن تبحث من جديد عن السعادة والطمأنينة الحقيقية في غير ذلك كله، لتجدها متمثلة في رضى الله سبحانه، وفي الإيمان والسكون بذكره كما قال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ (الفجر/27) ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ (الفجر/28) ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾ (الفجر/29) ﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ (الفجر/30).

وقال سبحانه: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد/28) ولأجل ذلك يكون الشهداء سعداء، والأنبياء والصالحون والأولياء سعداء، وفي نعمة حقيقية.هم في نعمة وفي سعادة حتى وهم يتألمون ويواجهون المحن، والبلايا، ويستشهدون.وتأكل السيوف أجسادهم.

وهذا ما يفسر لنا: قول مسلم بن عوسجة،أو سعيد بن عبد الله الحنفي للإمام الحسين عليه السلام في كربلاء: لو علمت أني أقتل فيك ثم أحيا، ثم أحرق حياً، ثم أذرى، يفعل بي ذلك سبعين مرة، ما فارقتك، حتى ألقى حمامي دونك.

وقال علي عليه السلام: والله، لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه. وحين ضرب عليه السلام بسيف ابن ملجم لعنه الله قال: فزت ورب الكعبة. وحين قال ابن زياد لزينب رحمها الله: كيف رأيتِ فعل الله بأهل بيتك؟ قالت: ما رأيت إلا جميلاً.

وسأل الحسين عليه السلام القاسم ابن الحسن عليه السلام: يا بني، كيف الموت عندك؟ قال: يا عم، أحلى من العسل. إلى نماذج كثيرة أخرى للرضى والتسليم والإيمان والاطمئنان، والإحساس بالسعادة وبالفوز بلقاء الله سبحانه.

وهذه هي النعمة الحقيقية التي يختار الله الشهيد على أساسها، ثم يمضي القرار الإلهي بها من خلال التكليف الإلهي، ثم المبادرة العملية من هذا المكلف لإنجاز ذلك التكليف، ويتوج ذلك بالاصطفاء، الذي هو التعبير عن الرضى الإلهي الغامر.

أما المال والجمال والقوة وسوى ذلك فلن يستطيع أن يمنحك هذه السعادة، التي قد يجدها الفقير المعدم، ويفقدها الغني بماله، الفقير بما سوى ذلك ? بل إن أفقر الناس هم الأغنياء. ولأجل ذلك صح التعبير عن الشهداء والأولياء وو..ب-"أنعمت عليهم".

وإن شئت لخصت ما تقدم على الشكل التالي:

إن النعمة هي الحصول على المطلوب، وتحقيق الغاية المتوخاة، والنقمة هي الخيبة والخسران في هذا المجال..أما الألم والتعب الموصولان إلى الغاية فليسا نقمة أبداً.فما تعرض له الأنبياء والأوصياء والمؤمنون، لا يعتبر نقمة، لأن ذلك لم يجعلهم يخسرون نعمة القرب من الله، والحصول على مقامات الزلفى منه، بل قد زاد ذلك في علو درجاتهم، وفي صقل إيمانهم، وتصفية وتغذية نفوسهم.الأمر الذي زاد في استحقاقهم للألطاف الإلهية، وللتوفيقات والبركات الربانية.فآلامهم تلك كانت سبباً في زيادة توغلهم في النعم.

من هم الذين أنعم الله عليهم:

لقد حدد الله سبحانه لنا الذين أنعم عليهم، فقال: ﴿فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ (النساء/69).

شمول الآية للنبي (ص) والأئمة عليه السلام:

وقد يدّعي البعض: أن الآية تشمل الأنبياء السابقين على نبينا (ص)، لأنها نزلت في أول البعثة، ولا تشمل نبينا الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم، والأئمة الطاهرين من أهل بيته عليهم السلام، لأنهم حين نزول الآية لم يكونوا موجودين، أو ما كانوا يمثلون أسوة وقدوة للناس ليأمر الله سبحانه بالتمسك بهم، والاتباع لهم.

ونقول:

إن الجميع مقصود بالآية حتى نبينا الأكرم وأئمتنا عليهم الصلاة والسلام.لأن الآية هنا مسوقة على نحو القضية الحقيقية، لا القضية الخارجية أو الذهنية. ولتوضيح ذلك: نقول: إن كل قضية لا بد لها من موضوع يكون الحكم عليه، وهو أقسام؛ فإنك:

إذا قلت: كل جبل ياقوت ممكن الوجود.فجبل الياقوت لا وجود له في الواقع الخارجي، بل هو موجود في ذهنك فقط (فهذه قضية ذهنية موجبة).

إذا قلت: كل من في الغرفة عمره أقل من عشرين سنة، أو كل من في المعسكر قد درب على حمل السلاح، أو كل من في هذا المدرسة يحمل الشهادة الابتدائية.فقد لوحظ موضوع الحكم هنا موجوداً في الواقع الخارجي، ومتحققاً في أفراده في أحد الأزمنة الثلاثة (فهذه قضية خارجية موجبة).

إذا قلت: كل إنسان قابل للتعليم العالي.أو قلت: من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله فهو مسلم.أو قلت: كل ماء كريّ فهو طاهر ومطهّر.أو كل من أنعم الله عليه فهو مهتد إلى الصراط المستقيم.أو من بلغ وهو عاقل فقد وجبت عليه الصلاة.وكذا: لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً.

فموضوع الحكم في هذه الأمثلة كلها قد لوحظ وجوده في نفس الأمر والواقع: أي أن الحكم إنما كان على الطبيعة بما لها من أفراد محققة الوجود، ومفروضة ومقدرة الوجود معاً.فكلما فرض وجوده ? وإن لم يوجد بعد ? فهو داخل في الموضوع ويشمله الحكم.فإذا وجد فإن الحكم يثبت له بصورة تلقائية، ولا يحتاج إلى إنشاء حكم جديد. وهذا ما نسميه بالقضية الحقيقية الموجبة.

وما نحن فيه من هذا القبيل.فمن أنعم الله عليه من الأولين والآخرين قبل نزول الآية وبعد نزولها فهو مهتد إلى الصراط.كما أن من شهد الشهادتين فهو مسلم حتى ولو ولد بعد آلاف السنين، من هذا التاريخ، وهكذا سائر الأمثلة

نحن والسابقون:

وقد يتخيل البعض: أن الذين أنعم الله عليهم إذا كانوا هم الأئمة والنبي والشهداء والصالحون.من هذه الأمة بالإضافة إلى من سبقهم.فإن معنى ذلك: هو أن المصاديق الفضلى والمثلى لذلك يكون عمرها من عمر رسالة نبيناً (ص) نحن المسلمين، ولم يكن بمقدور من سبقنا من الأمم أن يصل أو أن يتصل به، ولا أن يطلع على ما استجد من تعاليم توجب المزيد من الرقيّ والسمو والقرب.

أضف إلى ذلك: أن معنى ذلك أن الصراط المستقيم أصبح من الأمور النسبية، التي تتفاوت وتختلف باختلاف الأشخاص والأزمان.فالمرتبة التي يمكن أن يصل إليها الناس بعد بعثة نبيناً (ص) وإمامة الأئمة الأطهار عليهم السلام تصبح أكمل وأتم من المراتب التي توفرت للأمم السابقة على بعثته (ص).

فإن نبيناً أفضل من أنبيائهم، وتعاليمه أكمل وأتم من تعاليمهم، وتجربتنا أغنى من تجربتهم.وبهذا فسر العلماء تعدد الشرائع بعدد الأنبياء أولياء العزم،حيث كان السابق منهم عليهم السلام يمهد للاحق، على مستوى تنمية القابليات والاستعدادات لتأهل الإنسان وتمكينه من مواكبة وتقبل وتحمل المستوى الجديد والشريعة الجديدة، التي ستنسخ سابقتها.

ونقول:

إننا نجمل توضيحنا في إطار النقاط التالية: إن الصراط الموصل إلى الله سبحانه واحد، لا يمكن التعدد فيه ولا الاختلاف، فمن يسير على تعاليم إبراهيم عليه السلام يصل إلى الله سبحانه، وكذلك من يسير على تعاليم موسى وعيسى عليهما السلام.

والباب مفتوح أمام الجميع والشريعة وسيلة للوصول.غاية الأمر: أن هناك من يصل نقطة وهناك من يصل إلى نقطة أبعد منها.ثم أبعد، وهكذا.

والمعيار هو ما يحصل علية من درجة خلوص وإخلاص، وصفاء ونقاء، ومعرفة.ولا ينحصر ذلك في سابق، ولاحق، فإبراهيم الخليل عليه السلام قد سبق من سبقه ومن لحقه من الأنبياء حتى موسى وعيسى، باستثناء نبينا محمد (ص).

فكما استطاع إبراهيم الوصول إلى تلك المرتبة العليا، فيمكن لغيره أن يصل أيضاً إليها، وقد وصل نبينا (ص) من خلال شريعة إبراهيم إلى درجات ربما لم يبلغها إبراهيم نفسه.

إن نبينا محمداً (ص) كان في الأصل على شريعة إبراهيم عليه السلام قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (النحل/123).

وقد كان موسى وعيسى على شريعة إبراهيم أيضاً، وقد أرسلهما الله سبحانه إلى بني إسرائيل.وقد كان هناك شريعتان فقط: هما شريعة إبراهيم عليه السلام، وشريعة نبينا محمد (ص).بل إن شريعتهما أيضاً واحدة وقد قال تعالى: ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ﴾ (الحج/78) ولذلك نصلي على نبينا وآله وعلى إبراهيم وآل إبراهيم في سياق واحد، ولعل ذلك للإلماح إلى هذا الأمر.

وكون موسى وعيسى وغيرهما من أولياء العزم لا يلزم منه أن يكون لهما شرائع مستقلة.لأن المقصود بكون النبي من أولي العزم، هو أنه يملك طاقة وقدرة يستطيع معها مواجهة التحديات الكبرى، حتى ليواجه عليه السلام فرعون الذي كان يدعي الربوبية، ويواجه بني إسرائيل وهم قتلة الأنبياء، وأصعب الناس انقياداً لنبي.

ونسخ بعض الأحكام في شريعة سابقة، لا يعني نسخ أساس الشريعة، بل هو على حد النسخ الذي يكون في أحكام الشريعة الواحدة.كما تنسخ آية في القرآن آية قرآنية أخرى.

فهذا كله لا يعني: أننا أمام شرايع مختلفة، كما أنه لا يعني رفعة مقام النبي اللاحق في أولي العزم أو غيرهم، على مقام النبي السابق.وقد ذكرنا إبراهيم كمثال ناقض لذلك التصور الخاطئ.

إننا لا نمنع من أن يستفيد اللاحقون من تجربة السابقين.ولا أن يسهم السابقون في تنمية قابليات واستعدادات من يأتي بعدهم.ولكن هذا لا يعني: أن يكون طريق الوصول إلى أعلى المراتب قد كان موصداً أمام السابقين، فإن طريق الوصول لله مفتوح أمام الجميع، وإذا كان ثمة من تفاوت أو اختلاف في الوصول، فيعود إلى الإنسان نفسه.

ليس لله على الكافر نعمة؟:

ومن الأمور المثيرة للعجب أن نجد بعض المفسرين يدعي: أنه ليس لله سبحانه على الكافر نعمة، واستدل على ذلك بقوله تعالى: صراط الذين أنعمت عليهم.حيث خصت الآية النعمة بالمؤمنين، إذ لو شملت الكافرين لكان معنى ذلك هو أننا نطلب هنا الهداية إلى صراط الكافرين أيضاً، لأنهم ممن أنعم الله عليهم حسب المدعى.

وهذا الكلام وإن كان باطلاً، لا يستحق الالتفات إليه، لكننا مع ذلك نقول: إن هذا القائل ليس فقط لم يقرأ القرآن، فإنه أيضاً لم يقرأ بقية نفس هذه الآية:

وهو قوله تعالى: ﴿غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ (الفاتحة/7).

ولم يقرأ أيضاً قوله تعالى: ﴿ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته، فإن الله شديد العقاب﴾.

وقوله: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾(البقرة/40).

وقوله: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (النحل/83).

وقال تعالى: ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾ (العنكبوت/67).

وقال سبحانه: ﴿أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ﴾ (النحل/71).

وقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾ (إبراهيم/28).

إذن، هناك قسمان من الذين أنعم الله عليهم: أحدهما لم يبدل نعمة الله كفراً، ولم يغضب الله عليه، ولم يضل الخ..وهم الذين تطلب الهداية إلى صراطهم. والآخر: بدل وغيّر، وغضب الله عليه ووالخ..فنحن نحترس منهم ونستثنيهم.

إعراب غير المغضوب:

إذا قلنا: إن كلمة غير المغضوب بدل من كلمة: الذين أنعمت عليهم، فإن المقصود هو إضافة الصراط إلى البدل نفسه أي: صراط غير المغضوب الخ..ويكون غير المغضوب عليهم هم نفس الذين أنعم الله عليهم.

وأما إذا قلنا: إن كلمة: غير المغضوب صفة للذين.فيرد سؤال: كيف يصح وصف المعرفة بكلمة غير، التي هي متوغلة في الإبهام.ولا تتعرف بالإضافة، وهم يقولون: لا يصح وصف المعرفة بالنكرة.

ونقول في الجواب:

أولاً: إن كلمة غير قد يوصف بها المعرفة أيضاً، وذلك إذا وقعت بين متقابلين، مثل: الحركة غير السكون، حيث إن التقابل بين السابق واللاحق يقرّبها من المعرفة، لإتضاح معناها بواسطة الطرف الآخر الذي وقعت وصفاً له..وما نحن فيه من هذا القبيل، لوقوعها بين من أنعم عليهم، وبين المغضوب عليهم.فصح وصف المعرفة بها هنا أيضاً لأجل ذلك.

وثانياً: كلمة الذين ليست من قبيل المعرف بالعلمية، لأنها إنما تعرفت بواسطة الصلة، وهذا التعريف لا يصل إلى درجة سائر المعارف من حيث درجة التحديد، بل يبقى لكلمة (الذين) عموم وسعة.فكلمة الذين شبيهة ب- (ال) الجنسية أو الحقيقية التي تدخل على كلمة (رجل).و (بعير) فتقول: الرجل.والبعير.والكريم.فإنها لا تصل إلى درجة التحديد والتعريف بالعلمية.

إذن، فيصح وصف كلمة الذين التي عرّفت بالصلة بكلمة: غير المغضوب عليهم.وإن كانت متوغلة في الإبهام، لأنها قد تضيقت بالمضاف إليه كما تضيقت كلمة الذين بصلتها.

لماذا المغضوب:

أما السؤال: من هم الذين صدر منهم الغضب على أولئك الناس، فجوابه:

1. أننا لا نجد ضرورة لاعتبار فاعل الغضب على أولئك المجرمين هو خصوص الذات الإلهية المقدسة، إذ أن كل من له ذرة من الوجدان، والعقل والضمير لا بد أن يغضب على المجرمين والمنحرفين.فليكن غضب كل هؤلاء أيضاً بالإضافة إلى غضبه تعالى مقصوداً في هذه الآية.ولأجل ذلك لم يعين سبحانه فاعل الغضب، بل جاء باسم المفعول:  المغضوب عليهم.

والله تعالى يريد منا أن نغضب من الإنحراف وأن نشعر بأننا معنيين بسلامة الحياة الإنسانية، وأن نترجم هذا الشعور غضباً ونفوراً ممن يعبث ويهدد السلامة. أليس الله وملائكته، والمؤمنون، وكل الشرفاء، والعقلاء، وأصحاب الضمير الحي معنيين بمكافحة من سب الله ورسوله، وسب علياً، وفاطمة، والحسنين، والأئمة على منابر، وابتزهم حقهم؟

ألسنا جميعاً معنيين بمكافحة من احتل أرضنا وعاث فيها فساداً، وأهان وعبث بمقدساتنا، واستحل دماءنا، وأعراضنا، وأموالنا، وأوطاننا؟ إذن، فالله قد أبهم فاعل الغضب ولم يصرح به، ليفيد المشمول والعموم لكل من يغضب للحق.وينفر من فعل الباطل.

2. ثم إنه تعالى قد عبر عن هذا الغضب بصيغة اسم المفعول، ولم يستعمل صيغة الفعل، حيث لم يقل: الذين غضب عليهم.لأن صيغة الفعل تفيد التصرم والزوال، وهو تعالى إنما يريد أن يقرر فعلية الغضب، والدوام والثبات والاستمرار فإن هذا أشد من الزجر، وأدعى للإنزجار.

3. وإنما عبر بالمغضوب، مشيراً بذلك إلى الغضب من أجل أن يعرفنا الداعي والسبب لسلب النعمة، وهو إجرامهم المقتضي للغضب، ثم للعقوبة والجزاء.

من هم المغضوب عليهم والضالون:

وقد ورد في الروايات، وذهب إليه عدد من المفسرين: أن المقصود ب- (المغضوب عليهم): اليهود.والمقصود ب- (الضالين): النصارى.

والظاهر: أن هذا من باب الانطباق، حيث إن اليهود والنصارى من مصاديق المغضوب عليهم، ومن مصاديق الضالين.

والآية عامة صالحة للانطباق عليهم وعلى غيرهم ممن يعمل عملهم.وفي الآيات القرآنية ما يدل على انطباق (المغضوب عليهم) على غير اليهود، وانطباق الضالين على غير النصارى. فأما بالنسبة لعنوان المغضوب عليهم، فنقرأ الآيات التالية:

- ﴿وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (النور/9).

- ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (المجادلة/14).

- وخاطب سبحانه أهل الكتاب بقوله: ﴿وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ (آل عمران/112).

- وبالنسبة للضلال، فقد قال تعالى: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾ (النساء/136).

- ﴿إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ (النمل/92).

- ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ (الأحزاب/36).

وهناك آيات كثيرة أخرى. فترى: أن الآيات الكريمة إما ناظرة إلى المؤمنين، كالآية الأخيرة، وإما ناظرة إلى العصاة والمنحرفين بغض النظر عن الديانة التي ينتمون إليها ...

التوضيح والتطبيق:

ولتوضيح ما سبق نقول: إنه تعالى قد ذكر صفتين، قد تتوافقان، وقد تختلفان أي أن النسبة بينهما يكون هي العموم والخصوص من وجه، كالطير والأسود، حيث يتوافقان في الغراب، الذي هو طير وأسود، وقد لا يكون الأسود طيراً، بل يكون ثوباً مثلاً.والطير قد يكون حماماً أبيضاً.فكل من الطير والأسود أعم من الآخر، وأخص منه من وجه.

والمغضوب عليهم والضالون أيضاً كذلك، فقد يكون الإنسان ضالاً في عقيدته، وأفكاره.ومجرماً في سلوكه وأفعاله، وإجرامه يثير الغضب، فيبادر الغاضب إلى مجازاته. وقد يكون ضالاَ لكنه ليس بمجرم، فلا يثير غضباً ولا يستحق التأديب والجزاء المناسب.وقد يكون مجرماً، لكنه ليس بضالِِ.

فهناك إذن صفتان في مقابل المنعم عليهم، قد توجدان في واحد من الناس أو أكثر. وقد توجد إحداهما في بعض الناس، وتوجد الأخرى في بعض آخر. ولا بأس بأن نطبق إحدى الصفتين على اليهود والذين اجرموا إجراماً ظاهراً، فقتلوا الأنبياء، وأفسدوا في الأرض.فغضب الله عليهم لأجل ذلك. وعلى النصارى الذين ضلوا وأضلوا الناس.فكان إجرامهم خفياً وذكياً.

مع العلم بأن اليهود أيضاً مصداق للشق الثاني، فإنهم أيضاً ضالون ومضلون.والنصارى أيضاً حين يقتلون الأبرياء ويشنون حروبهم الصليبية على الحق والدين، ويناصرون اليهود الغاصبين هم أيضاً مجرمون مغضوب عليهم لإجرامهم، ولا بد من مجازاتهم على هذا الإجرام.فالآية لا تخص اليهود بوصف المغضوب عليهم، ولا تخص النصارى بوصف الضالين.بل هي عامة تشمل حتى الملحد، بل والمسلم إذا أجرم، فاستحق العقاب، وكذا إذا ضل وأضل.

فمن أغضب فاطمة عليها السلام يدخل في المغضوب عليهم لقوله (ص): من أغضبها فقد أغضبني، وذلك ظاهر لا يحتاج إلى مزيد بيان.

تناقض يسيء إلى المعنى:

والغريب في الأمر هنا: أننا نجد نفس أولئك الذين فسروا الآية باليهود والنصارى قد ناقضوا أنفسهم حين أضافوا إلى ذلك قولهم: إن المغضوب عليهم هم قوم عرفوا الحق ثم عاندوه.وهم الذين وصفهم الله تعالى بأنهم ﴿قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم﴾ (المجادلة/14).

أما الضالون فهم: قوم ما عرفوا الحق، وقصروا في طلبه، فضلوا.وهم الذين وصفهم الله بأنهم ﴿قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ﴾ (المائدة/77).

وهذا كلام عجيب، قد لا يخطر حتى على بال النصارى أنفسهم في صياغة البراءة لأنفسهم، إذ أنه يعني: أن يكون النصراني معذوراً في ضلاله، ويكاد يكون هذا تبريراً لانحرافهم، حيث إن ضلالهم كان نتيجة تقصير، فلا يرقى إلى درجة الجريمة الفاحشة.

ومعنى ذلك: أنه تعالى قد انتقل من الحديث عن أمر عظيم الخطورة، قد وصف به اليهود،وهو كونهم من المغضوب عليهم إلى أمر سهل وبسيط، وهو ضلال قوم بسبب تقصير منهم.لا بسبب التعمد لغير الحق !

ونقول:

إن الحقيقة قد تكون عكس ذلك، أي قد تكون جريمة النصارى أعظم وأخطر من جريمة اليهود، إذا عرفنا: أن النصارى أيضاً قد رأوا الحق وأعرضوا عنه، وعاندوه.ثم قاموا بدور الإضلال للناس بصورة ذكية وخفية.

أما اليهود، فإنهم قد ضلوا عن الحق، وهم يعرفون.ثم ارتكبوا الجرائم والموبقات.فهم ضالون ومجرمون.فلا بد من الحذر مرة من ضلالهم الظاهر، ومن إجرامهم المفضوح، أما النصارى فلا بد من الحذر منهم ألف مرة، لأنهم ينساقون وراء أهوائهم، ويعملون على إضلال الناس بصورة ذكية وماكرة.وقد نجحوا في ذلك، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ﴾ (المائدة/77) وقال: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الأعراف/157).

فهم إذن يعرفون الحق، ولكنهم يتبعون أهواءهم، ويضلون الناس أيضاً.

وليست القضية مجرد ضلال ناشئ عن تقصير، قد لا يكون له هذا المستوى من الخطورة والقبح.

ولا الضالين:

وإنما قال تعالى: ولا الضالين، بإضافة كلمة (لا) ولم يقل: والضالين، أو: وغير الضالين، لسببين:

الأول: إن كلمة (لا) صريحة في نفي ما بعدها، أما كلمة غير فإنما تنفيه بصورة نفي اللازم.

الثاني: إنه تعالى لا يريد أن يكون المجموع المركب من المغضوب عليهم والضالين هو مدخول غير، ليكونوا فريقاً واحداً مقابل الذين أنعم الله عليهم.

بل يريد أن يستثني الفريقين أي: (المغضوب عليهم) و(الضالين).لا بشرط.

حيث إنه يريد مقابلة الذين أنعم الله عليهم بالمغضوب عليهم تارة،وبالضالين أخرى، وبالمجموع المركب منهما ثالثة.

وهذا إنما يتسنى في ظل كلمة (لا)دون كلمة غير التي قد توهم المعنى الآخر.

إمامة أبي بكر في سورة الفاتحة:

ويحاول البعض أن يجعل من قوله تعالى: صراط الذين أنعمت عليهم، دليلاً على إمامة أبي بكر، لأن المقصود بالذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في قوله تعالى: ﴿فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين﴾ باعتبار أن أبا بكر هو رأس الصديقين: وقد أمرنا الله أن نطلب الهداية إلى صراط أبي بكر الصديق.

ونقول: لنفترض: أن الآية تدل على إمامة الصديقين، فهل تدل على إمامة الصالحين، والشهداء أيضاً.

1. قد ذكرنا في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (ص) عدم صحة ما يستندون إليه في تسمية أبي بكر بالصديق، لتتناقض الروايات في سبب هذه التسمية، وقلنا هناك: إن الظاهر هو أن هذا اللقب قد أطلق على أبي بكر بعد وفاته.ولهذا لم يستدل به هو ولا أحد من مؤيديه في يوم السقيفة على استحقاقه الخلافة مع حاجتهم الملحة لاستدلالِِ كهذا، ولا عطر بعد عروس.

3. هناك روايات كثيرة صحيحة السند، مروية في عشرات المصادر الإسلامية المتنوعة تنص على أن الصديق الأكبر هو علي عليه السلام، سماه بذلك رسول الله (ص).

وروي عن النبي (ص) أيضاً: أنه قال: الصديقون ثلاثة: حزقيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجار، صاحب آل ياسين.وعلي بن أبي طالب.الثالث أفضلهم.

- وقال على عليه السلام على منبر البصرة: أنا الصديق الأكبر، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، وأسلمت قبل أن يسلم أبو بكر.

- وعنه عليه السلام؛ بسند صحيح على شرط الشيخين: أنا عبد الله، وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر الخ...

- وعن النبي (ص): أنه قال لعلي: أنت الصديق الأكبر، وأنت الفاروق الخ ?والروايات في ذلك كثيرة، فلترجع في مظانها...