تمهيد
أحببت هذه المرة أن أخالف المألوف، وأتمرد على ما هو معروف، حيث إنني لا أريد أن أكتب في هذا التمهيد شيئاً من عند نفسي، بل أريد فقط أن أورد بضع روايات عن أهل بيت العصمة توضح لنا التفسير، وشرائطه، ومناهجه.
والذي زاد من رغبتي في ذلك هو أنني لم أر أحداً من المفسرين حاول أن يركز اهتمامه على هذه الروايات، رغم أنها من الأهمية بمكان.
وهذه الروايات التي اخترتها هي التالية:
1.روي عن الإمام الصادق، وكذا عن الإمام الحسين عليهما السلام: أنه قال: (كتاب الله على أربعة أشياء: على العبارة، والإشارة،واللطائف، والحقائق.فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء).
2.لقد أوضح أهل بيت العصمة: أن على المفسر أن يبحث عن معنى الكلمات والتراكيب في الاستعمالات المتداولة بين الناس من مختلف الفئات والقبائل، ليعثر على القاسم المشترك الذي يمكن للجميع من خلاله أن يتلمسوا المعنى المراد، لأن الاقتصار على لغة فريق معين، أو قبيلة بعينها، ربما لا يكون مجدياً أن لم يكن سبباً في الإبتعاد عن المعنى الحقيقي والمراد أحياناً.
والمثال الذي نورده هنا: هو أنه قد روي أن بعضهم كان في مجلس الإمام السجاد عليه السلام، فقال له: يا ابن رسول الله، كيف يعاقب الله ويوبخ هؤلاء الأجلاف على قبائح أتى بها أسلافهم، وهو يقول: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (الأنعام/164). فقال عليه السلام: (إن القرآن نزل بلغة العرب، فهو يخاطب فيه أهل اللسان بلغتهم، يقول الرجل التميمي قد أغار قومه على بلد، وقتلوا من فيه: أغرتم على بلد كذا، وفعلتم كذا..ويقول العربي: نحن فعلنا ببني فلان، ونحن سبينا آل فلان، ونحن خربنا بلد كذا.
لا يريد أنهم باشروا ذلك.ولكن يريد هؤلاء بالعذل، وأولئك بالامتحان (الافتخار) أن قومهم فعلوا كذا.وقول الله عز وجل في هذه الآيات إنما هو توبيخ لأسلافهم، وتوبيخ العذل على هؤلاء الموجودين، لأن ذلك هو اللغة التي نزل بها القرآن، ولأن هؤلاء الأخلاف أيضاً راضون بما فعل أسلافهم، مصوبون ذلك لهم؛ فجاز أن يقال لهم: أنتم فعلتم، إذ رضيتم قبيح فعلهم.وعن الصادق عليه السلام: (نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة).
3.قد أشاروا عليهم السلام إلى ضرورة معرفة خصوصيات كل لفظ، وسر اختياره لموقعه دون سواه، فقد روي: أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ (الأنبياء/98) قال ابن الزبعرى: فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى (عليه السلام).
فأُخبر النبي(ص) فقال: يا ويل أمّهِ! أما علم أن (ما) لما لا يعقل، و(من) لمن يعقل الخ، وحينما سأل بعضهم الإمام الصادق - أو الباقر - عليهما السلام عن المسح في الوضوء، فقال له: من أين علمت أن المسح ببعض الرأس؟ وبعض الرجلين؟ قال عليه السلام: لمكان الباء.أي في قوله تعالى: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ﴾ (المائدة/6).
4. إن الطهارة من الذنوب أيضاً تعين على فهم القرآن؛ ففي دعاء ختم القرآن المروي عن السجاد عليه السلام: (واجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنساً.ومن نزعات الشيطان، وخطرات الوسواس حارساً.ولأقدامنا عن نقلها إلى المعاصي حابساً.ولألسنتنا عن الخوض في الباطل من غير ما آفة مخرساً.ولجوارحنا عن اقتراف الآثام زاجراً).ولما طوت الغفلة عنا من تصفح الاعتبار ناشراً.حتى توصل إلى قلوبنا فهم عجائبه، وزواجر أمثاله...الخ
5.وثمة رواية عن الإمام الصادق عليه السلام يذم فيها الغاصبين، ذكر فيها عليه السلام أصول التفسير، وشروطه التي لابد من الوقوف عندها، والانتهاء إليها، والانطلاق منها.وهي رواية مهمة جداً، نذكر إحدى فقراتها، وهي التالية: روي عن الإمام الصادق عليه السلام: أنه قال في جملة حديث له:
(وذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض، واحتجوا بالمنسوخ، وهم يظنون أنه الناسخ، واحتجوا بالمتشابه، وهم يرونه أنه المحكم، واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام، واحتجوا بأول الآية، وتركوا السبب في تأويلها، ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام والى ما يختمه، ولم يعرفوا موارده ومصادره، إذ لم يأخذوه عن أهله، فضلّوا وأضلّوا.
واعلموا رحمكم الله أنه من لم يعرف من كتاب الله عز وجل الناسخ من المنسوخ، والخاص من العام والمحكم من المتشابه، والرُّخص من العزائم والمكي من المدني، وأسباب التن-زيل، والمبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة والمؤلفة، وما فيه من علم القضاء والقدر، والتقديم والتأخير، والمبين والعميق، والظاهر والباطن والابتداء والانتهاء، والسؤال والجواب، والقطع والوصل، والمستثنى منه والجاري فيه، والصفة لما قبل مما يدل على ما بعد، والمؤكد منه، والمفصّل، وعزائمه ورخصه، ومواضع فرائضه وأحكامه ومعنى حلاله وحرامه الذي هلك فيه الملحدون، والموصول من الألفاظ، والمحمول على ماقبله، وعلى ما بعده، فليس بعالم بالقرآن، ولا هو من أهله، ومتى ما ادّعى معرفة هذه الأقسام مدّع بغير دليل، فهو كاذب مرتاب، مفتر على الله الكذب ورسوله، ومأواه جهنم وبئس المصير).
هذه هي الروايات التي أحببت أن أقدمها أمام تفسير سورة الفاتحة، (إن صح إطلاق اسم التفسير على هذه المطالب).ولا أريد أن أضيف عليها شيئاً.
إلفات نظر لا بد منه: إننا نذكر القارئ الكريم بالأمور التالية:
الأول: إن مراجعتنا لكتب اللغة أحياناً، إنما كانت من أجل الاطلاع على موارد استعمالات الألفاظ أو التراكيب، وذلك للتعرف على آفاق المعنى وحدوده، وإلماحته، وإشاراته، وإيحاءاته.لأن ذلك مهم جداً في نيل المعاني القرآنية، وتحديد مدلولات مفرداتها، وتراكيبها على حد سواء.
هذا..إلى جانب لزوم ملاحظة الاستعمالات القرآنية، والتوفر التام على مناحي وجهات الاستعمالات فيه للفظ، أو للتركيب الذي هو محط النظر، بهدف اكتشاف الحدود والقيود أو حتى المنحى القرآني الخاص، بما له من مزايا وحالات، قد تختلف في مراميها ومغازيها عن غيرها مما هو معروف ومألوف، ومتداول.
الثاني: إننا قد حاولنا: أن نقوم ببعض المقارنات فيما بين البدائل اللفظية، التي يمكن اقتراحها، أو الإلتجاء إليها، ثم تحديد الفوارق التي يمكن تلمسها بين اللفظ المختار،وبين اللفظ الآخر، الذي يفترض كونه بديلاً.
وقد شعرنا من خلال ذلك: أن هذه المحاولة تسهم في وضوح وتحديد المعنى القرآني بصورة ظاهرة، من حيث انها تساعد على اكتشاف الخصوصيات التي لها مساس بالمعنى المدلول،وتؤثر في معرفة حدوده وآفاقه.بل وقد تساعد على تحديد مناشئه وغاياته.هذا ان لم تكن قد ساعدت على انتاج معانٍ جديدة من خلال إيحاءاتها المختلفة، ودلالاتها، التي تستند الى وسائل تعبيرية لم يسبق أن خضعت للتحديد في معاجم اللغة، ولا في علومها المتداولة.
الثالث: إننا نتمنى على القارئ الكريم أن يتابع فصول الحديث عن سورة الفاتحة الى نهايته، لأن هذه السورة المباركة كل لا يتجزأ، يسهم آخره في فهم أوله، وأوله يساعد على فهم واستكناه حقيقة المراد من آخره.
فقد حددت هذه السورة المباركة كل الملامح لحياة هذا الإنسان بكل فصولها وأبعادها، من البداية الى النهاية، وأختصرت كل الخطة الإلهية في هدايته لهذا الإنسان ليقوم بدوره على النحو الأكمل والأمثل والأفضل في هذا العالم العتيد.
علي عليه السلام وتفسير سورة الفاتحة، والبسملة:
- عن علي عليه السلام: (لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً في تفسير فاتحة الكتاب).
- وعنه عليه السلام: (لو شئت لأوقرت بعيراً من تفسير بسم الله الرحمن الرحيم).
- وفي حديث آخر عنه: (لو شئت لأوقرت أربعين بعيراً من شرح: بسم الله).
- وفي نص ثالث عنه عليه السلام: (لو شئت لأوقرت ثمانين بعيراً من معنى الباء).
وعن ابن عباس قال: (يشرح لنا علي عليه السلام نقطة الباء من "بسم الله الرحمن الرحيم" ليلة؛ فانفلق عمود الصبح، وهو بعد لم يفرغ).
ونقول:
1.انه قد لا يكون ثمة منافاة بين البعير الواحد، والأربعين والثمانين بعيراً؛ إذا كان عليه السلام قد قال ذلك في مجالس ومناسبات مختلفة، اقتضت كل مناسبة منها أن يشير الى مستوى معين من المعاني والمعارف بل وحتى في مجلس واحد، فإن ذكر الأقل لا ينافي ذكر الأكثر ولا يناقضه.فهو لو شاء لأوقر بعيراً، ولو شاء لأوقر أكثر من ذلك الى أربعين.بل لو شاء لأوقر ثمانين أيضاً.
2.إن سعة علم علي عليه السلام وغزارته مما لا يختلف فيه اثنان.وقد أثبت عليه السلام عملاً ما يقرِّب إلى الأذهان معقولية تلك الأقوال وواقعيتها.
3.إنه عليه السلام بقوله هذا يريد أن يفتح الآفاق الرحبة أمام فكر الإنسان لينطلق فيها، ويكتشف أسرار الكون والحياة، ويتعامل معها من موقع العلم والمعرفة ويقود مسيرة الحياة فيها من موقع الطموح والهيمنة الواعية والمسؤولة.
4.إن هذه الأرقام ليست خيالية بالنسبة لسورة الفاتحة، التي هي أم القرآن، وهي السبع المثاني التي جعلت عدلاً للقرآن العظيم في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ (الحجر/87) كما روي. كما أن ذلك ليس بعيداً عن بسم الله الرحمن الرحيم، أعظم آية في كتاب الله العزيز.كما روي عن الإمامين الصادق وأبي الحسن الكاظم عليهما السلام.
5.أما بالنسبة لحديث نقطة الباء فلا ندري مدى صحته، بعد أن كان المؤرخون يذكرون أن تنقيط الحروف قد تأخر عن عهد علي عليه السلام بعدة عقود من الزمن.إلا أن يكون ثمة نقط لبعض الحروف في أول الأمر، ثم استوفي النقط لسائرها بعد ذلك.
مناوئوا علي عليه السلام وحساده:
وحين رأى حساد علي عليه السلام ومناوئوه المتسترون: أن علياً عليه السلام قد ذهب بها فخراً ومجداً وسؤدداً في جميع المواقع، وفي مختلف الجهات انبروا ليدعوا لأنفسهم ما هو أعظم من علي ومن علم علي عليه السلام.رغم أن كل أحد يعرف مبلغهم من العلم.ويعرف نوع ومستوى ما يتداولونه من أمور عادية ومبتذلة، أطلقوا عليها اسم العلم، وهي أبعد ما يكون عنه.وذلك بسبب ما فيها من شوائب، وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان.
فلنقرأ ما يقوله هؤلاء عن أنفسهم في انتفاخات وادعاءات استعراضية خاوية.فقد ادعى أعظم مفسريهم الفخر الرازي: أنه يمكن أن يستنبط من فوائد سورة الفاتحة عشرة آلاف مسألة.كما ويدعون أن أبا بكر ابن العربي قد استنبط من القرآن بضعاً وسبعين ألف علم.
أما البكري، فقد تكلم عن بعض علوم البسملة في سنين بكرة كل يوم في الأشهر الثلاثة منها.وقال في بعض مجالسه: لو أردت التكلم على ذلك العمر كله لم يف، أوكما قال.بل إن البكري قد تكلم في نقطة البسملةفي ألفي مجلس ومائتي مجلس.
ونقول: حدث العاقل بما لا يليق له، فإن لاق له فلا عقل له: ونحن لا ندري كيف لم تظهر فرق ومذاهب من الغلاة في البكري يقدسونه، بل ويؤلهونه، كما غلا بعض الناس في علي عليه السلام حتى ألهوه؟! ولا ندري أيضاً كيف ضاعت تلك العلوم التي نشرها البكري في محاضراته تلك؟ وكيف لم يحفظها تلاميذه وينشروها في سائر الأقطار والأمصار، ليستفيد منها الناس، في أمور معاشهم ومعادهم؟!
وليت الناس قد نقلوا لنا ولو أسماء وهمية للعلوم التي استنبطها أبو بكر ابن العربي من القرآن.وتلك هي مؤلفات هذا الرجل متداولة بين الناس، ولا نجد فيها أي رائحة لهذه العلوم.بل لا نجد فيها أي تميز لها عما سواها من مؤلفات أقرانه، ومن هم على شاكلته، إن لم نقل: إن الآخرين أكثر براعة منه، وأدق نظراً.