بحث وتحصيل

الذي يساعد عليه الاعتبار في ميزان المكي والمدني ما عليه الأكثر، وهو: أن ما نزل في مكة ونواحيها قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل بالمدينة بعد الهجرة وإن نزل بغيرها فهو مدني، ولذلك تكون سورة النصر مدنية مع أنها نزلت بمنى في حجة الوداع.

وغير خفي أن عهد نزول القرآن ينقسم إلى زمانين متمايزين:

الأول: مدة مقامه (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة، وهي اثنتا عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما، وقيل: من يوم 17 رمضان سنة 41 - يوم الفرقان - إلى أول يوم من ربيع الأول سنة 54 من ميلاده.

الثاني: زمان نزوله بعد الهجرة إلى المدينة، فالمدني نحو 1130. قال أبو الحسن ابن الحصار في كتابه " الناسخ والمنسوخ ": المدني بالاتفاق عشرون سورة، والمختلف فيه اثنتا عشرة سورة، وما عدا ذلك مكي بالاتفاق، وهي:

1 - البقرة

2 - آل عمران

3 ? النساء

4 - المائدة

5 - الأنفال

6 ? التوبة

7 ? النور

8 ? الأحزاب

9 ? محمد

10 ? الفتح

11 ? الحجرات

12 ? الحديد

13 - المجادلة

14 ? الحشر

15 ? الممتحنة

16 ? الجمعة

17 ? المنافقون

18 ? الطلاق

19 - التحريم

20 - إذا جاء نصر الله (1).

ووافقه على جميعها في ذلك أبو بكر ابن الأنباري (المتوفى 328)، ومحمد بن القاسم إلا في الأنفال، وأبو عبيدة القاسم بن سلام (المتوفى 334) في " فضائل القرآن " إلا في الحجرات والجمعة والمنافقون، وصاحب الفهرست محمد بن إسحاق (المتوفى 385) برواية محمد بن نعمان بن بشير المذكورة في " أول ما نزل من القرآن " إلا في الأحزاب. فالمتفق عليه بين هؤلاء الأربعة - الذين اشتهر صيتهم بين الأفاضل والأعلام - خمسة عشر سورة مما ذكره أبو الحسن في كتابه " الناسخ والمنسوخ ". والمختلف فيه خمسة: الأنفال، خالف فيها ابن الأنباري، والحجرات والجمعة والمنافقون، خالف فيها أبو عبيدة، والأحزاب، خالف فيها صاحب الفهرست.

المسألة الرابعة: إذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي قبل البعثة أو بعدها وقبل نزولها، فماذا كان يقرأ في صلاته؟

لا شبهة في أن الصلاة كانت مخترعة قبل الإسلام، ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ﴾ (2)، وأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) - على ما قيل - كان يصلي في المسجد الحرام في ابتداء البعثة بل وقبلها. فإن كان بعد البعثة وبعد تشريعها، فالجواب واضح. وإن كان قبلها، أو قلنا بأنها مدنية، أو مكية ولكنها نزلت بعد تشريع الصلاة، فربما يشكل. ولكن التاريخ قاطع بأن نزولها لم يكن بعد تشريعها. نعم لا يمكن الإحاطة العلمية بسيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

والذي يمكن أن يقال: إنه كان يصلي من غير الفاتحة، لأنها ليست ركنا، وأدلتها لا تفيد بطلانها بدونها على الإطلاق، كما هو الظاهر.

أو يقال: بنزولها عليه قبل البعثة أو بعدها وقبل أن يأمر بإبلاغها إلى الأمة الإسلامية، فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان قبل البعثة على دين اليهود والنصارى، فربما كان نبيا ثم صار رسولا. قال ابن عطية: ظن بعض العلماء أن جبرئيل (عليه السلام) لم ينزل بسورة الحمد، لما رواه مسلم عن ابن عباس، قال: " بينما قاعد عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سمع نقيضا (هو الصوت) من فوقه، فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته " (3).

والذي يصطاد منه: أن هذه المسألة، ليست حديثة، فلعل الملك كان ينزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل ذلك، وكان يأخذ عنه المعارف قبل البعثة، وكان عارفا بأحكامه الفردية، فيقرأ القرآن قبل أن يقضى إليه وحيه بتوسط جبرئيل بعنوان الرسالة.

وربما يشهد لذلك قوله تعالى في سورة طه: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ (4). أو أن القرآن حسب قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (5) وقوله تعالى: ﴿فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ (6) وقوله تعالى ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ (7) - ولو كان بمعنى بعض القرآن لما كان له اختصاص بالذكر وشرف - فهو يوحى بصورة وحدانية مرة، وأخرى بصورة مفصلة نجوما وتدريجا، ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ (8)، وربما كان ذلك الإجمال - حسب ما يظهر من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل البعثة - يوحى إليه قبلها، فكان عارفا بحقائقه وبواطنه أو بألفاظه على نعت الإجمال والاندماج.

المسألة الخامسة: حول ألقاب هذه السورة عددا وعلة وهي عشرة: الفاتحة، الحمد، أم الكتاب، والسبع من المثاني، والسبع، والمثاني، والوافية، والكافية، والأساس، وأم القرآن.

وهنا أخريات غير معروفة: الشفاء، والشكر، والدعاء، وتعليم المسألة والصلاة.

ووجه الكل معروف ومذكور في المفصلات (9).


1- الإتقان في علوم القرآن 1 : 44.

2- مريم ( 19 ) : 31.

3- الجامع لأحكام القرآن 1 : 116.

4- طه ( 20 ) : 114.

5- القدر ( 97 ) : 1.

6- الدخان ( 44 ) : 3.

7- البقرة ( 2 ) : 185.

8- هود ( 11 ) : 1.

9- انظر التفسير الكبير 1 : 173 - 177 ، والإتقان في علوم القرآن 1 : 187 - 191 ، والجامع لأحكام القرآن 1 : 111 - 113 ، وروح المعاني 1 : 33 - 37.