الآيات 111-122
قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ، قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ، وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ، قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ، قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾
القراءة:
قرأ يعقوب ﴿ واتباعك ﴾ على الجمع. الباقون ﴿ واتبعك ﴾ على الفعل الماضي قال الزجاج: من قرأ على الجمع فقراءته جيدة، لان الواو (واو) الحال، وأكثر ما يدخل على الأسماء. تقول جئتك وأصحابك بنو فلان، وقد يقولون: وصحبك بنو فلان، وأكثر ما يستعملونه مع (قد) في الفعل، حكى الله تعالى عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح حين دعاهم إلى الله وخوفهم من معصيته: أنصدقك فيما تدعونا إليه وقد اتبعك الأرذلون ؟! يعني السفلة وأوضاع الناس. والرذل الوضيع، ونقيض الرذيلة الفضيلة وجمعه الرذائل. وقيل: انهم نسبوهم إلى صناعات دنيئة، كالحياكة والحجامة. وانهم مع ذلك أهل نفاق ورذالة، فأنفوا من اتباعه لما اتبعوه هؤلاء، ولم يجز من نوح أن يقبل قول هؤلاء فيهم، لأنهم كفار يعادونهم، فلا تقبل شهادتهم. ويجوز أيضا ان يكونوا لما آمنوا تابوا من قبيح ما عملوا، لان الايمان يجب الخطايا، ويوجب الاقلاع عنها. ولم يجز استصلاح هؤلاء باقصاء من آمن، كما لا يجوز استصلاحهم بفعل الظلم، لان في ذلك اذلالا للمؤمنين، وذلك ظلم لهم، لا يجوز أن يفعل بأهل الايمان، لأنه قبيح. ومن قرأ - على الجمع - أراد ان الذين اتبعوك هم الأرذلون. ومن قرأ على الفعل أراد: تبعك من هذه صفته. فقال لهم نوح (ع): لم أطردهم " وما علمي بما كانوا يعملون " فيما مضى، لأني ما كلفت ذلك، وإنما أمرت بأن ادعوهم إلى الله، وقد أجابوني إليه، وليس حسابهم الا على ربي الذي خلقني وخلقهم لو علمتم ذلك وشعرتموه، وليس أنا بطارد المؤمنين، لأني لست الا نذيرا مخوفا من معصية الله مبين لطاعته، داع إليه. و (الطرد) ابعاد الشئ على وجه التنفير، طرده يطرده، واطرده جعله طريدا، واطرد في الباب استمر في الذهاب كالطريد، وطارده مطاردة وطرادا. فقال له قومه عند ذلك ﴿ لئن لم تنته ﴾ وترجع عما تقوله، وتدعو إليه ﴿ يا نوح لتكونن من المرجومين ﴾ بالحجارة، وقيل: من المرجومين بالشتم، فالرجم الرمي بالحجارة، ولا يقال للرمي بالقوس رجم، ويسمى الشتوم مرجوما لأنه يرمى بما يذم به. والانتهاء بلوغ الحد من غير مجاوزة إلى ما وقع عنه النهي. وأصل النهاية بلوغ الحد، والنهي الغدير، لانتهاء الماء إليه. فقال نوح عند ذلك يا رب ﴿ إن قومي كذبون ﴾ وإنما قال ذلك مع أن الله تعالى عالم بأنهم كذبوه، لأنه كالعلة فيما جاء بعده، فكأنه قال ﴿ افتح بيني وبينهم فتحا ﴾ لأنهم كذبوني، إلا أنه جاء بصيغة الخبر دون صيغة العلة. وإذا كان على معنى العلة حسن أن يأتي بما يعلمه المتكلم والمخاطب. ومعنى ﴿ افتح بيني وبينهم فتحا ﴾ احكم بيننا بالفعل الذي فيه نجاتنا، وهلاك عدونا وعامل كل واحد منا بما يستحقه، يقال للحاكم: الفتاح، لأنه يفتح وجه الامر بالحكم الفصل، ويتقرر به الامر على أداء الحق، فقال الله تعالى له مجيبا لدعائه " فأنجيناه ومن معه " من المؤمنين ﴿ في الفلك ﴾ يعنى السفن، يقال شحنه يشحنه شحنا فهو شاحن إذا ملأه بما يسد خلاءه، وشحن الثغر بالرجال. ومنه الشحنة، قال الشاعر، في الفتح بمعنى احكم:
ألا أبلغ بني عصم رسولا * فاني عن فتاحتكم غني (1)
والفلك السفن يقع على الواحد والجمع. ثم اخبر تعالى انه لما أنجى نوحا وأصحابه أغرق الباقين من الكفار بعد ذلك، وأهلكهم. ثم قال تعالى: إن فيما أخبرنا به من قصة نوح وإهلاك قومه لآية واضحة على توحيد الله، وإن كان أكثرهم لا يؤمنون، ولا يعتبرون به. وقيل: إن قوله ﴿ ان في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ﴾ في عدة مواضع ليس بتكرير وإنما هو ذكر آية في قصة نوح، وما كان من شأنه مع قومه بعد ذكر آية فيما كان من قصة إبراهيم وقومه، وذكر قصة موسى وفرعون فيما مضى، فبين أنه إنما ذكر ذلك لما فيه من الآية الباهرة، وكرر ﴿ وإن ربك لهو العزيز الرحيم ﴾ لان المعنى انه ﴿ العزيز ﴾ في الانتقام من فرعون وقومه ﴿ الرحيم ﴾ في نجاة موسى ومن معه من بني إسرائيل، وذكر - ههنا - ﴿ العزيز ﴾ في إهلاك قوم نوح بالغرق الذي طبق الأرض ﴿ الرحيم ﴾ في إنجائه نوحا ومن معه في الفلك. والعزيز القادر الذي تتعذر مما نعته لعظم مقدوراته، فصفة (عزيز) وإن رجعت إلى معنى قادر، فمن هذا الوجه ترجع، ولا يوصف بالعزيز مطلقا الا الله، لأنها تفيد معنى قادر، ولا يقدر أحد على ممانعته. والله تعالى قادر أن يمنع كل قادر سواه. ومعنى وصفه بأنه عزيز مبالغة من ثلاثة أوجه:
أحدها: لأنه بزنة (فعيل).
الثاني: انه لا يوصف به مطلقا سواه.
الثالث: لما فيه من التعريف بالألف والام.
1- مر تخريجه في 1 / 315، 345 و 4 / 500.