الآيات 81-89

قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ، رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ، وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ حكى الله تعالى عن إبراهيم (ع) أنه قال بعد قوله: إن الله الذي يشفيه إذا مرض " والذي يميتني " بعد أن كنت حيا " ثم يحيين " أي يحيني بعد أن أكون ميتا يوم القيامة ﴿ والذي أطمع ان يغفر لي خطيئتي يوم الدين ﴾ أي يوم الجزاء وهذا انقطاع منه (ع) إلى الله دون أن يكون له خطيئة يحتاج ان تغفر له يوم القيامة، لان عندنا أن القبائح كلها لا تقع منهم (ع)، وعند المعتزلة الصغائر التي تقع منهم محبطة، فليس شئ منها بمغفور يحتاج ان يغفر لهم يوم القيامة. وقيل: إن الطمع - ههنا - بمعنى العلم دون الرجاء وكذلك في قوله ﴿ انا نطمع ان يغفر لنا ربنا خطايانا ﴾ (1) كما أن الظن يكون بمعنى العلم. وقيل: ان ذلك خرج مخرج التلطف في الدعاء بذكر ما يتيقن انه كائن كما أنه إذا جاء العلم على المظاهرة في الحجاج وذكر بالظن. ثم حكى انه سأل الله تعالى فقال ﴿ رب هب لي حكما ﴾ والحكم بيان الشئ على ما تقتضيه الحكمة، فسأل ذلك إبراهيم، من حيث كان طريقا للعلم بالأمور. وقوله ﴿ والحقني بالصالحين ﴾ معناه افعل بي من اللطف ما يؤديني إلى الصلاح. والاجتماع مع النبيين في الثواب. وفى ذلك دلالة على عظم شأن الصلاح وصلاح العبد هو الاستقامة على ما أمر الله به ودعا إليه. وقوله ﴿ واجعل لي لسان صدق في الآخرين ﴾ اي ثناء حسنا في آخر الأمم، فأجاب الله تعالى دعاءه، لان اليهود يقرون بنبوته، وكذلك النصارى، وأكثر الأمم. وقيل: معنى " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " أي اجعل من ولدي من يقوم بالحق، ويدعو إلى الله، وهو محمد صلى الله عليه وآله ثم سأله أن يجعله " من ورثة جنة النعيم، بأن يفعل معه من الألطاف ما يختار عنده الطاعات، لان الجنة لا يثاب فيها إلا بالاستحقاق. ثم قال " ولا تخزني يوم يبعثون " أي لا تفضحني بذنب، ولا تعيرني يوم يحشر الخلائق. و (الخزي) الفضيحة والتعيير بالذنب بما يردع النفس، يقال: خزي خزيا. وأخزاه الله إخزاء، وهذا موقف خزي. وهذا الدعاء منه (ع) انقطاع منه إلى الله تعالى، لأنا قد بينا أن القبائح لا تقع من الأنبياء على حال. ثم وصف اليوم الذي يبعث فيه الخلائق بأنه " يوم لا ينفع " فيه " مال " فيفادي به الانسان نفسه من العقاب " ولا " ينفع " بنون " ينصرونه " إلا من أتى " أي وإنما ينفع من يأتي " الله بقلب سليم " أي سليم من الفساد والمعاصي، إنما خص القلب بالسلامة، لأنه إذا سلم القلب سلم سائر الجوارح من الفساد، من حيث أن الفساد بالجارحة لا يكون إلا عن قصد بالقلب الفاسد فان اجتمع مع ذلك جهل، فقد عدم السلامة من جهتين، وقيل: سلامة القلب سلامة الجوارح، لأنه يكون خاليا من الاصرار على الذنب. وحكى انه سأل الله تعالى أن يغفر لأبيه، وذكر انه من الضالين، قالوا: إنما سأل الله أن يغفر له يوم القيامة بشرط تقتضيه الحكمة. وهو أن يتوب قبل موته، فلما تبين انه عدو لله تبرأ منه، ووصفه بأنه ضال يدل على أنه كافر، كفر جهل لا كفر عناد. وقيل: انه إنما دعا لأبيه لموعدة وعده بها، لأنه كان يطمعه سرا في الايمان فوعده بالاستغفار، فلما تبين انه كان عن نفاق تبرأ منه. وقال الحسن: عاب الله تعالى من فعل إبراهيم في قوله " إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك " بعد قوله " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه " (2). وليس الامر على ما قاله. ونحن نبين الوجه في هذه الآية إذا انتهينا إليها إن شاء الله. وعند أصحابنا ان أباه الذي استغفر له، كان جده لامه، لان آباء النبي صلى الله عليه وآله إلى آدم كلهم مؤمنون موحدون - بأدلة ليس هذا موضع ذكرها، والدلالة عليها.


1- سورة 26 الشعراء آية 52.

2- سورة 60 الممتحنة آية 4.