الآيات 61-70
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ، فَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ، وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ﴾
القراءة:
قرأ حفص " معي ربي " بفتح الياء، وكذلك في جميع القرآن. الباقون بسكونها، فمن سكن ذهب إلى التخفيف، ومن فتح فعلى أصل الكلمة لان الاسم على حرف واحد، فقراءته - بالفتح - إن كان متصلا بكلمة على حرفين. وكان أصحاب موسى فزعوا من فرعون أن يلحقهم وحذروا موسى، فقالوا " انا لمدركون " فقال لهم موسى (ع) - ثقة بالله - " كلا " ليس كما تقولون " ان معي ربي سيهدين " وقرأ الأعرج " لمدركون " مفتعلون، من الادراك وادغم التاء في الدال. قال الفراء: دركت دراكا وأدركت ادراكا بمعنى واحد، مثل حفرت واخفرت، بمعنى واحد. وقرأ حمزة وحده " تراء الجمعان " بالإمالة. الباقون بالتفخيم على وزن (تراعى) لأنه تفاعل من الرؤية، وهو فعل ماض موحد، وليس مثنى، لأنه فعل متقدم على الاسم، ولو كان مثنى لقال تراءا ووقف حمزة " تراى " بكسر الراء ممدود قليلا، لان من شرطه ترك الهمزة في الوقف، فترك الهمزة التي آخر الألف، كأنه يريدها، فلذلك مد قليلا. ووقف الكسائي " ترآى " أي بالإمالة على وزن تراعى، وتنادى. الباقون وقفوا بألفين على الأصل. وكذلك جميع ما في القرآن مثل " أنشأناهن انشاء " (1) و ﴿ أنزل من السماء ماء ﴾ (2) كل ذلك يقفون بالمد بألفين. وحمزة يقف على الف واحدة. وإذا كانت الهمزة للتأنيث أسقطت الهمزة في الوقف عند الجميع نحو ﴿ بيضاء ﴾ (3) و ﴿ انها بقرة صفراء ﴾ (4) و ﴿ الأخلاء ﴾ (5) فيشم الضمة في موضع الرفع ولا يشم الفتحة في موضع النصب. اخبر الله تعالى انه ﴿ لما تراء الجمعان ﴾ جمع فرعون وجمع موسى أي تقابلا بحيث يرى كل واحد منهما صاحبه. ويقال: تراءى نارهما أي تقابلا، وإنما جاز تثنية الجمع، لأنه يقع عليه صفة التوحيد، فتقول: هذا جمع واحد، ولا يجوز تثنية مسلمين، لأنه لا يقع عليه صفة التوحيد، لأنه على خلاف صفة التوحيد. ﴿ قال أصحاب موسى انا لمدركون ﴾ أي لملحقون. فالادراك الالحاق، وأدركته ببصري إذا رأيته، وأدرك قتادة الحسن أي لحقه، وأدرك الزرع إذا لحق ببلوغه، وأدرك الغلام إذا بلغ، وأدركت القدر إذا نضجت، فقال لهم: موسى " كلا " ليس الامر على ذلك " إن معي ربي " بنصره إياي " سيهدين " أي سيدلني على طريق النجاة من فرعون وقومه كما وعدني، لان الأنبياء لا يخبرون بمالا دليل عليه من جهة العقل أو السمع. وقوله " فأوحينا إليه أن اضرب بعصاك البحر " اي أمرناه بضرب البحر بعصاه، وقيل: هو بحر قلزم الذي يسلك الناس فيه من اليمن ومكة إلى مصر، وفيه حذف، لان تقديره فضرب البحر " فانفلق " وقيل: انه صار فيه إثنا عشر طريقا لكل سبط طريق " فكان كل فرق كالطود العظيم " فالطود الجبل، قال الأسود بن يعفر النهشلي:
حلوا بانقرة يحيس عليهم * ماء الفرات يجئ من أطواد (6)
وقوله " وأزلفنا ثم الآخرين " قال ابن عباس وقتادة: معناه قربنا إلى البحر فرعون، ومنه قوله " وأزلفت الجنة للمتقين " (7) أي قربت وأدنيت قال العجاج:
ناج طواه الأين مما وجفا * طي الليالي زلفا فزلفا
سمارة الهلال حتى احقوقفا (8)
أي منزله يقرب من منزله، ومنه قيل ليلة المزدلفة. وقال أبو عبيدة: معنى أزلفنا جمعنا، وليلة مزدلفة ليلة جمع، والمعنى قربنا قوم فرعون إلى البحر كما يسرنا لبني إسرائيل سلوك البحر وكان ذلك سبب قربهم منهم حتى اقتحموه وقيل: معناه قربناهم إلى المنية لمجئ وقت هلاكهم قال الشاعر:
وكل يوم مضئ أو ليلة سلفت * فيها النفوس إلى الآجال تزدلف (9)
وأنجينا موسى ومن معه يعني بني إسرائيل أنجيناهم جميعهم من الهلاك والغرق " ثم أغرقنا الباقين " من فرعون وأصحابه. وقال تعالى " إن في ذلك " يعني في فلق البحر فرقا، وانجاء موسى من البحر، وإغراق قوم فرعون، لدلالة واضحة على توحيد الله وصفاته التي لا يشاركه فيها أحد. ثم اخبر تعالى ان " أكثرهم لا يؤمنون " ولا يستدلون به بسوء اختيارهم كما يسبق في علمه. فالاخر - بفتح الخاء - الثاني من اثنين قسيم (أحد) كقولك نجا الله أحدهما، وغرق الآخر، والآخر - بكسر الخاء - هو الثاني قسيم الأول كقولك نجا الأول وهلك الآخر. وقيل: معنى " وما كان أكثرهم مؤمنين " ان الناس مع هذا البرهان الظاهر، والسلطان القاهر، بالامر المعجز الذي لا يقدر عليه أحد غير الله، ما آمن أكثرهم، فلا تستنكر أيها المحق استنكار استيحاش من قعودهم عن الحق الذي تأتيهم به، وتدلهم عليه، فقد جروا على عادة اسلافهم، في انكار الحق وقبول الباطل. وقوله " وإن ربك لهو العزيز الرحيم " أي هو القادر الذي لا يمكن معارضته في أمره، وهو مع ذلك رحيم بخلقه. وفى ذلك غاية الحث على طلب الخير من جهة الموصوف بهما. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله " واتل " يا محمد على قومك " نبأ إبراهيم " أي خبره، حين " قال لأبيه وقومه ما " الذي " تعبدون " من دون الله ؟! يعني أي شئ معبودكم على وجه الانكار عليهم، لأنهم كانوا يعبدون الأصنام.
1- سورة 56 الواقعة آية 35.
2- سورة 2 البقرة آية 22 وسورة 13 الرعد آية 19 وسورة 14 إبراهيم آية 32 وسورة 16 النحل آية 65 وسورة 20 طه آية 53 وسورة 22 الحج آية 63 وسورة 35 فاطر آية 27 وسورة 39 الزمر آية 21.
3- سورة 7 الأعراف آية 107 وسورة 20 طه آية 22 وسورة 26 الشعراء آية 33 وسورة 27 النمل آية 12 وسورة 28 القصص آية 32 وسورة 37 الصافات آية 46.
4- سورة 2 البقرة آية 69.
5- سورة 43 الزخرف آية 67.
6- تفسير القرطبي 13 / 107 والطبري 19 / 46 واللسان (نقر) وروايته نزلوا بأنقرة يسيل عليهم * ماء الفرات يحئ من أطواد.
7- سورة 26 الشعراء آية 90.
8- مر تخريجه في 6 / 79.
9- تفسير القرطبي 13 / 107.