الآيات 4-5
قوله تعالى: ﴿إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ، وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾
لما بين الله تعالى حرص النبي صلى الله عليه وآله على إيمان قومه، واجتهاده بهم حتى كاد أن يقتل نفسه تأسفا على تركهم الايمان، أخبره بأنه قادر على أن ينزل عليهم آية ودلالة من السماء تظل أعناقهم لها خاضعة بأن تلجئهم إلى الايمان، لكن ذلك نقيض الغرض بالتكليف، لأنه تعالى لو فعل ذلك، لما استحقوا ثوابا ولا مدحا، لان الملجأ لا يستحق الثواب والمدح على فعله، لأنه بحكم المفعول فيه. وقيل: المراد بالأعناق الرؤساء. وقال قتادة: المعنى لا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية. وقيل في وجه جمع " خاضعين " بالياء والنون وهو صفة (الأعناق) والأعناق لا تعقل، وهذا الجمع يختص بمن يعقل قيل فيه أربعة أقوال:
أحدهما: فظل أصحاب الأعناق لها خاضعين، وحذف المضاف، واقام المضاف إليه مقامه لدلالة الكلام عليه.
الثاني: انه أراد بالأعناق الرؤساء والجماعات، كما يقال جاءه عنق من الناس أي جماعة.
الثالث: أن يكون على الاقحام. قال أبو عبيدة، والمبرد " خاضعين " من صفة الهاء والميم، في قوله " أعناقهم " كما قال جرير:
أرى مر السنين أخذن مني * كما أخذ السرار من الهلال (1)
فعلى هذا يكون ترك الأعناق وأخبر عن الهاء والميم، وتقديره فظلوا خاضعين لها والأعناق مقحمة.
الرابع: أنها ذكرت بصفة من يعقل لما نسب إليها ما يكون من العقلاء كما قال الشاعر:
تمززتها والديك يدعو صياحه * إذا ما بنوا نعش دنوا فتصوبوا (2)
ويروي نادى صباحه. ثم اخبر تعالى عن هؤلاء الكفار الذين تأسف النبي صلى الله عليه وآله على عدولهم عن ايمانهم انه ليس يأتيهم ذكر من الرحمن يعني القرآن. كما قال تعالى " انا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " (3) وقال " إن هو إلا ذكر وقرآن مبين " (4) ووصفه بأنه محدث، ولذلك جره، لأنه صفة ل? (ذكر). وقوله " إلا كانوا عنه معرضين " أي يتولون عنه ولا ينظرون فيه. قال الفراء: إنما قال " فظلت " ولم يقل " فتظل " لأنه يجوز أن يعطف على مجزوم الجزاء ب? (فعل) لان الجزاء يصلح في موضع (فعل، يفعل) وفي موضع (يفعل، فعل) لأنك تقول: إن زرتني زرتك وإن تزرني أزرك، والمعنى واحد.
1- ديوانه " دار بيروت " 341.
2- قائله النابغة الجعدي. اللسان (نعش).
3- سورة 15 الحجر آية 9.
4- سورة 36 يس آية 69.