الفصل الثالث القلب في نظر القرآن

لعله لا حاجة بنا إلى أن نقول إن المقصود بالقلب في المصطلح الأدبي والديني ليس ذاك العضو العضلي الذي يقع في الطرف الايسر من الجسم ويضخ الدم كالمضخة في العروق.

ففي قول القرآن: (إنّ في ذلك لذكري لمن كان له قلب). (1).

أو ما جاء في هذا التعبير الأدبي اللطيف لحافظ:

هلع قلبي وإني أيها الدرويش غافل*** فماذا جرى يا ترى لهذا الصياد الحائر (2).

يتضح إن المقصود من القلب شيء سام ورفيع، يختلف عن عضو الجسم هذا كل الاختلاف.

وإن أصابه المرض أيضا (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا). (3).

إلاّ ان معالجة هذه الأمراض ليست من اختصاص أطباء القلب. وإذا كان ثمة طبيب يعالجها، فذاك هو الطبيب المختص بالأمراض الروحية.

تعريف القلب

إذن ما المقصود بالقلب؟ علينا أن نبحث عن جواب هذا السؤال في حقيقة وجود الإنسان.

فعلى الرغم من إن الإنسان كائن فرد واحد.فإن له مئات الأبعاد، بل آلافها. فال- (أنا) انسان يتألف من العديد من الأفكار والآمال.ومن الخوف والرجاء والحب، الخ.. وكل هذه الأفكار أشبه ما تكون بالأنهر والنهيرات التي تلتقي في مركز واحد.وهذا المركز نفسه بحر عميق، لم يدّع أحد من البشر بعد أنه قد سبر أعماقه وعرف كنهه.على الرغم من أن الفلاسفة، والروحانيين، وعلماء النفس، قد وصل كل منهم إلى كشف بعض أسراره.ولكن الظاهر إن الروحانيين، كانوا أكثر توفيقا من غيرهم.فالذي يسميه القرآن بالقلب هو في الحقيقة ذلك البحر، وإن ما نسميه نحن بالروح إن هو إلا الأنهر، والروافد، التي تتصل بهذا البحر.

وبما أن القرآن يتحدث عن الوحي، فإنه لا يذكر العقل، بل يقتصر على التوجه إلى قلب الرسول.وهذا يعني إن القرآن لم يحصل للرسول عن طريق قوة العقل، ولا بالاستدلال العقلي.وإنما هو قلب الرسول الذي بلغ حالة لا نستطيع نحن تصورها.

فاصبح فيها قادرا على إدراك تلك الحقائق السامية وشهودها. إن كيفية هذا الأرتباط مبينة إلى حد ما في آيات من سورتي النجم والتكوير (4).

وإذ يتحدث القرآن عن الوحي، وإذ يخاطب القرآن القلب، يكون بيانه أوسع من العقل، ولكنه ليس ضده.

ذلك لأن ما يعرضه القرآن أوسع في منظوره من منظور العقل والشعور، بحيث لا يقدر على إدراكه ويعجز عن نيله.


1- سورة بقرة: 10.

2- نقرأ في سورة النجم الآيات التالية:

(وما ينطق عن الهوى، إن هو إلاّ وحي يوحى، علّمه شديد القوى، ذو مرة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى، ثمّ دنا فتدلّى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى).

يذكر القرآن كل هذه الأمور لكي يبين إن مستوى هذه المسائل أرفع من مستوى العقل، فالحديث هنا عن الرؤية والسمو.

ونقرأ في سورة التكوير: (إنّه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين، وما صاحبكم بمجنون، لقد رآه بالأفق المبين، وما هو على الغيب بضنين).

يقول اقبال اللاهوري في تعبير لطيف بهذا الخصوص: "ان الرسول هو من تفيض عنه الحقائق إذ يمتلئ بها فيعرض مما أوتي على الناس لكي يغير ويبدل ويرتب وينظم"..

3- سورة الشمس: 9.

4- سورة الأنفال: 29.