معرفة القرآن العلامة الشهيد الشيخ مرتضى المطهري

كلمة المترجم

"أوصي الطلبة الجامعيين الأعزاء، والطبقة المثقفة المتنورة الملتزمة أولا يدعو الدسائس غير الإسلامية تنسيهم مطالعة كتب هذا الأستاذ العزيز" الإمام الخميني كثيرا ما كنت أجد عناء، وأنا بعد شاب يافع، في مطالعة كتب التفسير، وتاريخ الإسلام والسير وفهمهما، بسبب صعوبة اللغة، فكنت أجدني مضطرا إلى أن أتركها جانبا على مضض، بالرغم من شغفي وولعي بالاستزادة من تلك المواضيع. وكان معى جمع من اصحابي لا يقلون عنى ضيقا بضعف ادركنا للغة تلك الكتب التي كانوا يصفونها بالكتب الصفر.

بل لقد خاب ظننا حتى في خطبائنا الذين كان معظمهم يردد ما كان في بطون تلك الكتب الصفر نفسها، دون أن يحاول التجديد فيها، وتقريبها إلى الأذهان، وتبسيط لغتها، لتشويق الناس إلى سماعها.كان الناس قد حفظوا عن الخطباء كل ما في "مقتل أبي مخنف"، ويرددون معهم قصائد رثاء الحسين (ع) بالقريض وبالعامية، ويروون كل رواياتهم وقصصهم، ويتباكون، لا تغيير ولا تبدل.

ثم سمعنا يوما ان أحد مشاهير الخطباء الايرانيين قد قدم إلى النجف الأشرف وانه سوف يخطب في جامع الهندي بضع ليال.

كان ذلك قبل ثلاثين ونيف من السنين، وكان اسم الخطيب، إذا لم تخنى الذاكرة، الشيخ الطبسي (رحمه الله حيا وميتا).

وحضرت مجلسه مع آلاف غيري حتى اكتظ بهم المسجد على سعته.

وما انتهى من خطبته في الليلة الأولى، حتى شعرت أن هذا ما كان ينقصنا، وما نفتقر إليه نحن الشباب الذين كنا نريد أن نبدأ الفهم من البداية وبشيء من التجديد.لقد فسر لنا الشيخ الطبسي بعض الآيات الكريمة من القرآن المجيد، وكان تفسيرا مزيجا من التاريخ، والفلسفة، والمنطق، والحديث، والروايات المنقولة عن الأئمة - عليهم السلام - وحتى النكتة والنادرة (حدث في ليلة حارة ان فك الشيخ الطبسي حزامه، وراح يمسح به العرق عن رأسه ووجهه، ثم اعتذر عن ذلك بقوله ان حزامه أشبه بعصا موسى، فهو حزام يوما، وعمامة يوما آخر، ومنديل لتجفيف العرق، وسفرة يتناول عليها الطعام احيانا اخرى).

واذ عاد الرجل بعد تلك الليالي إلى بلده، عدنا نحن نجتر ذكرياتنا منه، وقد احسسنا ان الفراغ الذي تركه اخطر بكثير مما كنا نظن، فقد افتقدنا اسلوبه الجديد، وبساطة عرضه، وسعة اطلاعه ولم ينفع معنا ما أخذ يردنا بعد ذلك من مصر ولبنان من الكتب الجديدة لكتاب أفاضل.

صحيح انها كانت كتبا عظيمة رائعة، إلاّ انها كانت كتب للتاريخ، وللنخبة من الناس، وليس للناس العاديين من الطبقات المتوسطة.

لقد كانت السنوات التي اعقبت الحرب العالمية الثانية سنوات حرب اعنف وأشد، حرب العقائد والافكار والايديولوجيات التي وفدت على الشرق مع ما ورد من الغرب من بضائع وعادات.

إلاّ انها كانت حربا غير متكافئة، وقودها الطبقة الكادحة، والشباب المثقف الأعزل، الذي لولا تأصل فطرته الدينية وتشبثه بمبادئه الأصيلة، لجرفه التيار العارم.

ومع ذلك فالخسائر لم تكن قليلة، فقد اخذ التيار الكثير، ولقد كان بالامكان تقليل الخسائر إلى ادنى حد، لو ان المدافعين كانوا قد تسلحوا بمثل ما تسلح به رجال الدين الافاضل في ايران، فهم إلى جانب تضلعهم في العلوم الدينية، درسوا العلوم الحديثة، واخذوا من لغة العصر جانبا مهما اعانهم على إيصال الأسس التي بني عليها الإسلام إلى قلوب الكثرة الكاثرة من عموم أبناء الشعب، بلغة سهلة، ومنطق سليم، وقرع الحجة بالحجة، ودحض المفتريات بالأدلة الدامغة، مما حفظ للامة الإسلامية في ايران وحدتها وتوحدها، وتمسكها بعلمائها الاعلام.

واليوم، وانا نزيل طهران، أجدني محاطا بحشد من خيرة العلماء المتنورين المجاهدين، وبفيض من الكتب القيمة التي تعين عامة الناس على التمسك بالاسلام دينا، وخلقا، وسلوكا.

ولقد اتاح لي حسن الحظ أن أقوم بجولة ماتعة في مجموعة مؤلفات الاستاذ الشهيد مرتضى مطهري، اطاعة لوصية امام الأمة، وإذا بي استرجع ذكرى الايام الخوالي، وإذا بالكلمة تند من فمي "وجدته".

نعم وجدته، فهذا انسان عرف نفسه، وعرف بني جلدته، وعرف ما ينبغي لهم، فقدمه في تدرج سليم، وفي لغة سائغة، خطبا، ومحاضرات، وكتبا، بخبرة الطبيب النطاسي العارف بالداء، والعارف بالدواء، فيصفه بنيّة خالصة تقربا إلى الله تعالى.

فما كان مني إلاّ ان عقدت العزم، بعون الله على ان أقدم هذه الكتب النفيسة إلى ابناء اللغة العربية، تلك اللغة الشريفة التي ما فتئ شهيدنا الاستاذ مطهري ينادي في كتبه بضرورة تعلمها وتعميمها حتى في المدارس الابتدائية.

واني إذا اضع اليوم بين يدي القارئ العربي هذا الكتاب الأول من سلسلة "القرآن" ليحدوني الامل في ان يمد الله تعالى في توفيقي، فاقدم ما بقي من كتبه ودراساته وبحوثه، فأكون قد حققت بذلك ما كان ينبغي ان يتحقق من قبل لسد الفراغ الذي مازلنا نحسه في نفوس شبيبتنا وطلابنا حتى اليوم.

ولا يسعنى هنا إلاّ أن اسجل تقديري وشكري لمؤسسة "بنياد بعثت" التي كانت سببا في ما حباني به الله من توفيق، والله لا يضيع اجر من أحسن عملا.

جعفر صادق الخليلي