جب

جب(1)

"اذا رأى احد ان الحاح القرآن على فعل الخير غير كثير اثبتنا له بالحجة القاطعة خطأه وسقنا اليه ذلك التعريف الشامل للبر في تلك الاية العظيمة ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (البقرة/177) فالبر اذن تاج الايمان الحق، حين يدرك المؤمن اخيراً ان الله شاهد ابداً، ويستجيب لشهوده في كل افكاره واعماله"(2)

"هذه، إذن، هي الرسالة التي بلغها القرآن الى الجيل الاول من المسلمين وظل يبلغها الى جميع الاجيال منذ عهدئذ. فالقرآن سجل لتجربة حية مباشرة في ميدان الالوهية، تجربة ذات طرفين: واحد مطلق وآخر متصل بشؤون الحياة العامة، ودعوة للمخلوق كي ينظم حياته ليتمكن من الاخذ بنصيب في تلك التجربة. وحين يتبع المسلم اوامر القرآن ويسعى ليستكنه روح تعاليمه، لا بفكره فحسب بل بقلبه وروحه ايضاً، فانه يحاول ان يستملك شيئاً من الرؤى الحدسية ومن التجربة التي كانت للرسول الحبيب. ويعظم في عينيه مغزى كل آية فيه، لإيمانه بانه كلام الله. ولو لم يكن هذا الايمان شعبة من عقيدته لما تناقصت قيمته لديه من حيث هو منبع حي للالهام والاستبصار الديني"(3)

"مهما يكن امر استمداد الاسلام من الاديان التي سبقته فذلك لا يغير هذه الحقيقة ايضاً وهي: ان المواقف الدينية التي عبر عنها القرآن ونقلها الى الناس تشمل بناء دينياً جديداً متميزاً"(4)

".. على الرغم مما قام به العلماء المتأخرون من تطوير لعلم كلام اسلامي منهجي، يبقى صحيحاً ما ذكرناه سابقاً وهو: ان جمهور الجماعة الاسلامية كان يتألف من شعوب احدثت لديها ممارسة حقائق الدين ممارسة حدسية اثراً اقوى واسرع من كل اثر خلفه اي قدر من الجدل العقلي او من حذاقته وبراعته"(5)

" إننا نخطئ خطأً فاحشاً إذا اقتصرنا على النظر الى هذه العقيدة نظرتنا لمذهب لاهوتي اتقن بشكل وراثى من جيل الى جيل منذ الف وثلاثمائة سنة. انها على العكس من ذلك يقين وايمان حي يتجدد ويتأكد باستمرار في قلوب المسلمين وارواحهم وافكارهم، ولدى العربي بشكل خاص، حين يدرس النصّ المقدس. لقد عارض المذهب السني المتمسك بشكل عام ترجمة القرآن الى اللغات الاسلامية الاخرى على الرغم من ان النص العربي يظهر في بعض الاحيان مقترنا بترجمة تركية او فارسية او اوردية وغيرها من اللغات. ان هذا الموقف يستند على محاكمة شرعية متماسكة تصوغ حججها الى حد ما بشكل عقلاني مستندة في ذلك على اعتبارات بعيدة عن هذا الشكل العقلاني. والواقع ان القرآن لا يمكن ترجمته بشكل اساسي كما هي الحال بالنسبة للشعر الرفيع، اذ ليس بالامكان التعبير عن مكنون القرآن باللغة العادية، ولا يمكن ان يعبر عن صوره وامثاله لان كل عطف او مجاز او براعة لغوية يجب ان تدرس طويلاً قبل ان ينبثق المعنى للقارئ. والقرآن كذلك له حلاوة وطلاوة ونظم بديع مرتب لا يمكن تحديده لانها تعد بسحرها افكار الشخص الذي يصغي الى القرآن لتلقي تعاليمه. ولا شك ان تأويل كلمات القرآن الى لغة اخرى لا يمكن الاّ ان يشوهها ويحول الذهب النقيّ الى فخار.."(6)


(1)سير هاملتون الكساندر روسكين جب (1895 - 1967)Prof.SilHamirton A. l. Gibb : يعد امام المستشرقين الانكليز المعاصرين، استاذ اللغة العربية في جامعة لندن سنة 1930، واستاذ في جامعة اكسفورد منذ سنة 1937، وعضو مؤسس في المجمع العلمي المصري، تفرغ للأدب العربي وحاضر بمدرسة المشرقيات بلندن. من آثاره: (دراسات في الادب العصرية)(1926)، (الفتوحات الاسلامية في آسيا الوسطى وعلاقتها ببلاد الصين)، (رحلات ابن بطوطة)، (اتجاهات الاسلام المعاصرة)، وهو احد محرري دائرة المعارف الاسلامية.

(2)دراسات في حضارة الاسلام، ص 254.

(3)نفسه، 254.

(4)نفسه، ص254 - 255.

(5)نفسه، ص255.

(6)الاتجاهات الحديثة في الاسلام، ص 30 - 31.