النتائج المترتبة على هذا البحث

وتترتب على هذا البحث نتائج عديدة هامة أبرزها ما يأتي:

1- إن القرآن الكريم يقرر- في ضوء هذا البحث- وحدة الأديان الإلهية في الأصول والأسس، إذ أنه يثبت ما ورد منها وبصورة صحيحة في الكتب السماوية المتقدمة عليه، ويصدقها ويؤيدها ويؤكدها بأمانة.

2- ان القرآن ليس متخذا من كتب اليهود والنصارى إذ لو كان متخذا ومقتبسا منها لكان أمينا على ما يأخذ منها، ولما عارض الكثير من مقررات تلك الكتب في مجال التوحيد والتكوين والتشريع، والتاريخ والأخلاق، ولما هاجمها في هذه المواقع، وشدد النكير على مرتكبي التحريف فيها.

صحيح أن هناك تشابها بين الحقائق القرآنية التوراتية والإنجلية وهو شيء أمَرَ به القرآن نفسه إذ يقول من دون خيفة أو توجس: ﴿وإنه لفي زبر الأولين﴾ (الشعراء/ 196) ﴿إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى﴾ (الشعراء/ 197).

ولكن التشابه والإتفاق شيء والاقتباس شيء آخر وبينهما فراغ شاسع وفرق كبير.

3- ان على البشرية أن تتبع القرآن الكريم وتتخذه دستورا لحياتها، لأن القرآن وأن لم ينكر انتساب أصول الكتب السماوية الرائجة والديانات المستـندة إليها، إلى الله، إلا أنه بنسخه ما لا يتناسب من أحكامها من احتياجات البشرية المتطورة، وإتيانه بأحكام وقوانين عامة وجزئية تتمشى مع متطلبات الأجيال والعصور يكون قد عرض منهجا أكمل وشريعة أفضل، ودينا أقوم.

4- أن الثغرات والعيون الموجودة في الكتب السماوية الرائجة هي التي دفعت بعلماء الغرب ومثـقـفيه إلى الابتعاد عن الدين المتمثل في الكنيسة وكتبها ورجالها لتصادم أكثر مقررات هذه الكتب مع القضايا العقلية المسلمة، والقوانين العلمية الثابتة عن طريق التجربة والاستدلال، وهذا ما صرح به أكثر من واحد منهم.

ومن هنا يكون إعطاء مقارنات ومقايسات دقيقة بين القرآن الكريم والكتب السماوية الرائجة مدعومة بالأدلة العقلية والمنطقية القوية أفضل وسيلة لاجتذاب أولئك المثقفين والعلماء إلى حظيرة الإسلام.

5- ان هذه المقايسة، بين معارف القرآن الكريم ومحتويات الكتب السماوية الرائجة، ومسألة الهيمنة القرآنية على تلك الكتب من شأنها أن تثبت مسألة (مصونة القرآن من التحريف).

فإن أيدي الدس والتحريف وان طالت بعض مصادر الحديث، وبعض مجالات السنة كما عرفت، إلا أنها- رغم الدواعي القوية لدى مسلمة أهل الكتاب- لم تطل الكتاب العزيز، ولم تستطع أن تنال منه. ولهذا كان هذا الكتاب (القرآن الكريم) المصدر الإسلامي الوحيد الذي لم تطرأ عليه الزيادة والنقصان، ولا التصحيف ولا التحريف وبذلك يكون المعيار الوحيد لتمحيص حتى السنة النبوية والأحاديث والأخبار. ولهذا جاء في الحديث (إذا جاءكم عني شيء فاعرضوه على القرآن).

6- ان هذه الهيمنة التي يمتاز بها القرآن الكريم تؤهّله لأن يكون- بحق- الكتاب الأبدي الخالد الذي يغني البشرية عن أي كتاب آخر إلى قيام الساعة، لكونه يقرر الحقائق النهائية في جميع المجالات التي يخوضها، ويرفع النقاب بعناية إلهية عن كل ما لا يتوصل إليه البشرية إلا بعد لأي ومن خلال قرون من التجارب المختبرية والتحقيقات العلمية من أمور تتعلق بالكون والإنسان والحياة.

ولا شك أن إثبات هذا الكلام بصورة جزئية وعبر بيان المصاديق والشواهد العينية يحتاج إلى بذل جهود كثيرة، وإعداد دراسات يقوم بها علماء أو لجان بصورة مستمرة على أن لا يقتصر ذلك على مسألة الاعتقادات والأخلاق بل تشمل كل مناحي الحياة، والكون، والإنسان.

7- ان المقارنة والمقايسة بين معارف القرآن الكريم وبين محتويات الكتب السماوية المتداولة تكشف عن المصدر الإلهي للقرآن من أوله إلى آخره، بينما تكشف- في الوقت نفسه- عن المصدر البشري لكثير من محتويات التوراة والإنجيل، حيث طابع التفكير البشري المحدود والمادي يغلب على أكثر محتويات هذين الكتابين. وهذا بدوره يضع الإنسان أمام مرجعين أحدهما مطمئن، والآخر غير مطمئن. الأول هو القرآن والآخر هو غيره من والملفت للنظر أن هذه النقطة استوقفت الكثير من المفكرين الغربيين فراحوا يتساءلون عن مدى أصالة وإلهية العهدين، ونمثل لذلك بالكاتب الفرنسي (موريس بوكاي) في تأليفه (التوراة والإنجيل والقرآن والعلم) حيث قال في الصفحة 11 منه: وثمة فرق أساس آخريين المسيحية والإسلام فيما يتعلق بالكتب المقدسة ذلك هو غياب النص الموحى به- والمحدد في الوقت نفسه- عند المسيحية، بينما يملك الإسلام القرآن الذي يحقق هذا التعريف.

إن القرآن هو نص الوحي المنزّل على محمد من سيد الملائكة جبرئيل قد كتب في الحال ثم حفظه المؤمنون على ظهر قلب. رددوه أثناء صلواتهم، وبخاصة طيلة شهر رمضان. وقد رتب محمد آياته في سور(1)، جمعت مباشرة عقيب وفاته.. (إلى أن قال) وخلافا لما جرى في الإسلام فإن الوحي المسيحي أنبنى على شهادات إنسانية (بشرية) متعددة وغير مباشرة، لأننا لا نملك أية شهادة من شاهد عاين حياة المسيح، خلافا لما يتصوره كثير من المسيحيين وهكذا تجدها مطروحة مسألة أصالة نصوص الوحي المسيحي والوحي الإسلامي.

ثم يطرح سؤالا في الفصل الذي عقده تحت عنوان (العهد القديم) هو: من هو مؤلف العهد القديم؟ كم من قارئ للعهد القديم يُلقى عليه هذا السؤال فلا يحير جواباً إلا مردداً ما قرأه في مدخل التوراة بأن مؤلف هذه الكتب المقدمة كلها هو الله، مع أن الذين كتبوها هم بشر من الذين أوحى الروح القدس إليهم. (راجع ص15).

ويقول في الصفحة 22 من هذا الكتاب تحت عنوان أسفار العهد القديم وبعد أن يستعرض قضية أشياء كتبت بعد النبي موسى بقرون ثم ألحقت بالتوراة: لقد اختلط الوحي بكل هذه الكتابات. ولا نعرف اليوم إلا ما تركه لنا منه الذين عالجوا نصوصه حسب أهوائهم وفقا للظروف التي وجدوا فيها، والضرورات التي واجهوها.

إن هذا الكلام من الأهمية بمكان فهو اعتراف يكتبه فرنسي في أواخر القرن العشرين، وهو يكشف عن إعجاز القرآن، وأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وعلى صدق دعوة محمد صلى الله عليه وآله وصدق الله تعالى إذ يقول ﴿فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلاً﴾ ﴿فويل لهم مما كسبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون﴾ (البقرة/ 78).

هذه دراسة عابرة وموجزة لهذه الناحية الهامة في القرآن الكريم نرجوا أن نوفق إلى متابعتها مستقبلاً إن شاء الله تعالى.


1- كما في قصة البقرة التي جاءت قصتها مفصلة في الآيات/ 67 ـ 72 ولم تذكر في التوراة الموجودة عند اليهود، راجع تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي ج1، ص200.