موقف القرآن والكتب الأخرى في مجال التوحيد

أ- يقرر القرآن الكريم في آيات عديدة أن الذات الإلهية المقدسة منزهة عن شوائب الجسمانية، وأنه تعالى ليس بجسم ولا جسماني، وأنه لا يشبهه شيء من مخلوقاته، وأنه لا يرى، وأنه سبحانه ليس في مكان، ولا يخلو منه مكان، وأنه واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد.

قال تعالى: ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾ (الشورى/ 11).

وقال تعالى: ﴿لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير﴾ (الأنعام/ 103).

وقال تعالى: ﴿أينما تولوا فثم وجه الله) (البقرة/ 115).

وقال تعالى: (الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا﴾ (الفرقان/ 1).

وقال تعالى: ﴿قل هو الله أحد﴾ ﴿الله الصمد﴾ ﴿لم يلد ولم يولد﴾ ﴿ولم يكن له كفوا أحد﴾ (سورة الأخلاص).

وقال تعالى: ﴿ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلّى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أولُ المؤمنين﴾ (الأعراف 143).

وما قرره القرآن الكريم في هذا الصعيد يؤيده العقل السليم، وتؤكّده الفطرة النقية لاستلزام الجسمية التركيب، والتغيّر، والتخير والاحتياج، وكل ذلك ينافي وجوب الوجود الذي يُفترض أن يتصف به الحق تعالى، وإلا لكان أحد المخلوقين من جنسهم. هذا والتفصيل، والتوسع، والبرهنة، والاستدلال العقلي والفطري متروك إلى محله في كتب الكلام والفلسفة.

ولكن التوراة والإنجيل الرائجينِ يصرّحان، ومن دون تحرّج، بأنه تعالى جسم ينتـقل ويمشي، وله مكان، وأنه ينزل ويصعد، ويرى، وله صوت عند مشيه كالبشر.

فإن التوراة عندما تتعرض لذكر بدء الخلق، وتصرح بأن الله خلق آدم وحواء وأسكنهما في الجنة، وأوصاهما بأن يأكلا من كل الأشجار والثمار فيها إلا شجرة واحدة، ولكنهما أكلا منها رغم المنع والتحذير، فانفتحت أعينهما على أنهما عريانان تقول:

وسمعا صوت الرب ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار. فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة، فنادى الإله آدم وقال له: أين أنت؟ فقال سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت. (العهد القديم- سفر التكوين الإصحاح الثالث: 8- 11).

وتقول التوراة أيضا: (لما عزم بنو آدم بعد الطوفان أن يبنوا في بابل مدينة وبرجا حصينا لئلا يتبددوا على وجه كل الأرض) نزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذينِ كان بنو آدم يتبنونهما وقال الرب هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتـنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه. هلمّ ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض) (سفر التكوين الإصحاح الحادي عشر: (6- 8)).

ولم تكن التوراة هي وحدها التي تنحو هذا المنحى في مجال التوحيد والمعارف الإلهية بل شاركها الإنجيل في ذلك أيضاً.

جاء في إنجيل مرقس الإصحاح السادس عشر: 20 ثم أن الرب (أي عيسى عليه السلام) بعد ما كلمهم ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله.

وجاء في الرسالة إلى العبرانيين من العهد الجديد الإصحاح العاشر: 13.

وأما هذا فبعد ما قدم عن الخطايا ذبيحة واحدة جلس إلى الأبد عن يمين الله.

وجاء في أعمال الرسل من العهد الجديد الإصحاح السابع: 56 و58: وأما هو فشخص إلى السماء وهو ممتلئ من الروح القدس فرأى مجد الله ويسوع قائما عن يمين الله. فقال ها أنا أنظر السماوات مفتوحة وابن الإنسان قائما عن يمين الله.

كل هذا يقتضي التجسيم وأن الله جل جلاله يحويه المكان ويكون له جهة يمين.

والجدير بالذكر أن أهل التوراة والإنجيل لا يملكون أي تفسير عقلائي، وأي تأويل منطقي لهذه العبارات، من شأنه أن يرفع عنها طابع التجسيم، بل ويرفضون أن يحملوا هذه العبارات على المجاز والتجوز، أو يعالجوها بالتأويل وما شابه ذلك.

على أن هناك ما هو أصرح في التجسيم من هذه العبارات في التوراة نذكر أبرزها:

1- لله تعالى رجل ويد: ورأوا إله اسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف وكذرات السماء في النقاوة، ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل فرأوا الله وأكلوا وشربوا. (سفر الخروج الإصحاح 23: 10- 12).

2- لله سبحانه حدقة عين: إن قسم الرب هو شعبه يعقوب حبلُ نصيبه، وجده في أرض قفر وفي خلأ مستوحش خرب. أحاط به ولاحظه وصانه كحدقة عينه!! (التوراة، سفر التثنية الإصحاح 932- 11).

3- لله سبحانه أجفان: الرب في هيكل قدسه. الرب في السماء كرسيُّه. عيناه تنظران أجفانه تمتحن بني آدم!! (المزامير المزمور الحادي عشر: 4).

4- لله سبحانه فم: بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان!! (سفر التثنية: الإصحاح الثامن: 8).

5- لله جناحان: إحفظني مثل حدقة العين. بظل جناحيك استرني!! (المزامير المزمور السابع عشر: 8) وجاء في المزامير في المزمور الحادي والتسعين أيضا: أقول للرب ملجأي وحصني إلهي فاتكل عليه لأنه ينجيك من فخ الصياد ومن وباء الخطر بخوافيه(1) يظلّلك وتحت أجنحته تحتمي!

6- لله سبحانه أنف: يمينك يا رب تحطّم العدو... وبريح أنفك تراكمت المياهُ!! (سفر الخروج الإصحاح الخامس عشر: 8).

7- لله سبحانه موطئ قدم: ووقف داوود الملك على رجليه وقال اسمعوني يا أخوتي وشعبي. كان في قلبي أن ابن بيت قرار لتابوت عهد الرب ولموطئ قدمي إلهنا.!! (أخبار الأيام من العهد القويم- الإصحاح الثامن والعشرون: 2).

8- الله سبحانه يبتلع: ابتلع السيد (أي الله تعالى) ولم يشفق كل مساكن يعقوب. (العهد القديم مراثي ارميا الإصحاح الثاني: 2).

9- الله يلتحف بالسحاب: نحن أذنبنا عصينا. أنت لم تغفر.. إلتحفت بالسحاب حتى لا تنفذ الصلوات!! (مر العهد القديم- مراثي أرميا، الإصحاح الثالث: 42- 45).

10- الله سبحانه يضحك: الشرير يتـفكر ضد الصديق ويحرّق عليه أسنانه. الرب يضحك به لأنه رأى أن يومه آت!! (العهد القديم المزامير المزمور السابع والثلاثون: 13).

هذه طائفة من نصوص العهد القديم (التوراة) التي تصرح بجسمانية الله، وقيامه سبحانه بكل ما يقوم به البشر من ابتلاع، وضحك، والتحاف، وله كل ما للبشر من يد، ورجل، وأنف، فم، وحدقة عين، وأجفان، وجناحان، وموطئ قدم، وما شاكل ذلك.. وشابه.

يقول العلامة الطباطبائي بعد ذكر قضايا ونصوص من التوراة مماثلة لهذه النصوص.

أول ما يبدو لك من التوراة أنها جعلت الرب تعالى موجودا أرضيّا على صورة إنسان.. فحاله حال إنسان أرضي من جميع الجهات، غير أنه نافذ الإرادة إذا أراد، ماضي الحكم إذا حكم، وعلى هذا الأساس يبتـني جميع تعليمات التوراة والإنجيل فيما يبثان من تعاليم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. (إلى أن يقول): مع أن الله جل شأنه متـنزه عن الاتصاف بصفات المادة وأحوالها، متـقدس عن لحوق عوارض الإمكان وطوارق النقص والحدثان، وهو الذي يبينه القرآن(2).

ومن المؤسف جدا أن شيئا كثيرا من هذه السفاسف حول الله تعالى أدخلت بين ثنايا السنة الشريفة عبر رجال من أهل الكتاب، أسلموا ظاهرا، ودسوا في أحاديث الرسول من تلك الأباطيل ليطعنوا الإسلام من خلف بعد أن فشلوا في مواجهته وجها لوجه.

ومن المؤسف أن هذه المدسوسات- التي اصطلح على تسميتها بالإسرائيليات- وجدت طريقها إلى مصادر بعض المسلمين الحديثية، والتفسيرية، والتاريخية، وتلقيت بالقبول رغم معارضتها لمعارف القرآن الكريم الواضحة البينة، ورغم أنه كان يتوجب على المسلمين أن يعرضوا كل حديث مشتبه على الكتاب العزيز، ويحققوا فيه في ضوء ومقررات القرآن الكريم. فإن انسجم معه أخذوا به ونقلوه ودوّنوه في كتبهم، وأن تعارض مع روحه ونصه ضربوه عرض الحائط، وأعرضوا عن ذكره، وتسجيله، لكيلا يشوبوا عقيدة المسلمين بمثل هذه الشوائب.

فقد نسبت طائفة من هذه الأحاديث المدسوسة، إلى الله سبحانه ما نسبته التوراة والإنجيل من الجسمانية واليد والرجل، والساق والقدم؟ والعين، والصوت، والذراع والصدر والوجه والإصبع والضحك والرؤية، والمكان والتنقل والنزول وموطئ قدم إلى آخر(3).

ولا شك في أن كل هذه الأباطيل مما دسه اليهود والنصارى في الأحاديث. يقول الشهرستاني: وضع كثير من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام أحاديث متعددة

في مسائل التجسيم والتشبيه وهي كلها مستمدة من التوراة(4).

2- ان القرآن الكريم يصرح في الكثير من آياته بنفي صفات المخلوقين عن الله سبحانه من جهل وعجز، وعبث وشر، وخداع وكذب، وندم وضعف بل يصفه تعالى بأنه العالم القادر، الحكيم الرحيم المحيط بما خلق، الهادف مما يعمل، والآيات في هذا المجال أكثر من أن تحصى، ولكننا نذكر هنا نماذج منها للعالم:

قال سبحانه: ﴿ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير﴾ (آل عمران/ 29).

وقال تعالى: ﴿وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين﴾ (الإنعام/ 90).

وقال سبحانه: ﴿إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون﴾ (الحجرات/ 18).

وقال تعالى: ﴿إلا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير﴾ (الملك/ 14).

وقال تعالى: ﴿وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض﴾ (فاطر/ 44).

وقال تعالى: ﴿وأعلموا أنكم غير معجزي الله﴾ (التوبة/ 2).

وقال تعالى: ﴿أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون﴾. (المؤمنون/ 115).

وقال تعالى: ﴿وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا﴾ (ص/ 27).

وقال تعالى: ﴿وكان الله بكل شيء محيطا﴾ (النساء/ 126).

إن ما يقرره القرآن الكريم من هذه الصفات لله تعالى أمر يؤيده العقل، بل ويوجبه للإله الخالق، المدبر للكون الواجب الوجود، وتفصيل القول في هذا المجال موكولٌ إلى كتب علم الكلام والفلسفة.

ولكننا نلاحظ في التوراة والإنجيل (العهدين) نصوصا تصرّح بوصف الله تعالى بالجهل، والعبثية، والندم والحزن مما فعل:

جاء في الإصحاح السادس من سفر التكوين: 6- 8: ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم. فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض. وتأسف في قلبه. فقال الرب امحوا عن وجه الرب لإنسان الذي خلقته. الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء. لأني حزنت أني عملتهم.

وجاء في الإصحاح الثاني من سفر التكوين: 15- 18:

وأخذ الرب الإله آدم وضعه في جثة عدن ليعملها ويحفظها وأوصى الرب الإله آدم قائلا: من جميع شجر الجنة نذكر أكلا. أما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها. لأنك يوم تأكل منها موتا تموت.

ثم جاء في الإصحاح الثالث من نفس السفر (التكوين): 2- 8:

وكانت الحية أحيل جميع الحيوانات البرية التي عملها الرب الإله، فقالت للمرأة أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة، فقالت المرأة للحيّة من ثمر الجنة نأكل.. وأما ثمر الجنة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا؛ فقالت الحية للمرأة: لن تموتا. بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين والخير والشر. فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعين وأن الشجرة شهية للنظر فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضا معها فأكل. فانفتحت أعينهما أنهما عريانان.

وجاء في آخر هذا الإصحاح: 22- 24 من نفس السفر: وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد.

انظر كيف تنسب التوراة الخداع والكذب إلى الله تعالى. في النصوص الثلاثة الأخيرة، كما نسب الندم والتأسف إلى الله في النص الذي تقدمها.

الجدير بالذكر هنا هو أن القرآن الكريم دأب على عرض كل المسائل التوحيدية، على العقول، وحثها على التفكير فيها، حتى أنه تكررت لفظ (العقل) و(الفكر) و(اللب) و(النظر) بصيغها المختلفة خاصة عقيب آيات العقيدة أكثر من خمسمائة مرة، بينما لا يدعو إلا إلى التعبد في التشريعات على الأغلب، وكأن القرآن يعتبر نفسه في مجال الاعتقادات بمثابة المرشد والمشير، ويرى أن على العقل بنفسه أن يسلك طريق المعرفة، ويرتقي في مدارجها في ضوء إرشادات القرآن وتوجيهاته، وبالتالي: عليه أن يتدبر في استدلالات الكتاب العزيز، ويتأمل في براهينه، فيعتقد ما يعتقده في هذا المجال عن تحقيقه لا تقليد. وهذا ينبئ عن صحة وسلامة ما يعرضه القرآن الكريم من المعارف والمفاهيم، فهو يخاطب العقلاء ويدعوهم إلى التحقيق فيما يقول، ويتحدى أن يأتي أحد بما يفند شيئا من مفاهيمه.

وفي ختام هذا البحث ينبغي أن نشير إلى ما كتبه العلامة الطباطبائي في ميزانه حول قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب، ومهيمنا عليه).

فقد كتب رحمه الله يقول: (هيمنة الشيء على الشيء- على ما يُتحصل من معناها- كون الشيء ذا سلطة على الشيء في حفظه ومراقبته وأنواع التصرف فيه، وهذا حال القرآن الذي وصفه الله تعالى بأنه تبيان كل شيء بالنسبة إلى ما بين يديه من الكتب السماوية، يحفظ منها الأصول الثابتة غير المتغيرة، وينسخ منها ما ينبغي أن ينسخ من الفروع التي يمكن أن يتطرق إليها التغير، والتبدل حتى يناسب حال الإنسان بحسب سلوكه صراط الترقي والتكامل بمرور الزمان، قال تعالى: ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم﴾ (الإسراء/ 9) وقال: ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها﴾ (البقرة/ 106).

وقال: ﴿الذين يتبعون النبي الأمي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون﴾. (الأعراف/ 157).

فهذه الجملة أعني قوله: ﴿ومهيمنا عليه﴾ متممةٌ لقوله: ﴿ومصدقا لما بين يديه من الكتاب﴾ تتميم إيضاح إذ لولاها لأمكن أن يتوهم من تصديق القرآن للتوراة والإنجيل إنه يصد ما فيهما من الشرائع والأحكام تصديق إبقاء من غير تغير وتبديل، لكن توصيفه بالهيمنة يبين أن تصديقه لها تصديق أنها معارف وشرائع حقة من عند الله، والله يتصرف فيها بما يشاء من النسخ ولا تكميل كما يشير إليه قوله ذيلا: ﴿ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم﴾.

فقوله: ﴿مصدقا لما بين يديه﴾ معناه تقرير ما فيها من المعارف والأحكام، بما يناسب حال هذه الأمة، فلا ينافيه ما تطرّق إليها من النسخ والتكميل والزيادة كما كان المسيح عليه السلام أو انجيله مصدقا للتوراة من إحلاله بعض ما فيها من المحرمات كما حكاه الله عنه في قوله: ﴿ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرّم عليكم﴾ (آل عمران/ 50).

إذن فالهيمنة القرآنية على الكتب الأخرى- حسب هذا التفسير- تعني أن القرآن، يصدق ما تتضمنه الكتب السماوية المتقدمة عليه من المعارف والشرائع، لكن لا تصديق إبقاء لجميع تلكم المعارف والشرائع بل يغير منها ما لا يراه مناسبا لحال البشرية، في مرحلتها الراهنة، ومراحلها المستقبلة.

ويشير صاحب كتاب (في ظلال القرآن) إلى ما يشمل هذا الرأي وما ذكرناه في المبحث السابق، إذ قال عند قوله تعالى: (ومهيمنا عليه).

(فهذه الصورة الأخيرة لدين الله، وهو المرجع الأخير في هذا الشأن، والمرجع الأخير في منهج الحياة وشرائع الناس، ونظام حياتهم بلا تعديل بعد ذلك ولا تبديل، ومن ثم فكل اختلاف يجب أن يردّ إلى هذا الكتاب، ليفصل فيه سواء كان هذا الاختلاف في التصور الاعتقادي، بين أصحاب الديانات السماوية، أو في الشريعة التي جاء بها هذا الكتاب بصورتها الأخيرة، أو كان هذا الاختلاف بين المسلمين أنفسهم، فالمرجع الذي يعودون إليه بآرائهم، في شأن الحياة كله هو هذا الكتاب، ولا قيمة لآراء الرجال، ما لم يكن لها أصل يستـند إليه من هذا المرجع الأخير)(5).


1- الخوافي هي الريش الصغار من الأجنحة..

2- الميزان ج6، ص326 ـ 325.

3- راجع الكتاب السنة للإمام أحمد بن حنبل، والتوحيد وإثبات صفات الرب لابن خزيمة، وصحيح البخاري ج أو 2، و5، و6، و8 ,9 وصحيح مسلم1 ج2 و6 و8.

4- راجع الملل والنحل ج1؟ 117 ومقدمة تبيين كذب المفتري ومقدمة ابن خلدون والمنار للسيد محمد رشيد رضا، وضحى الإسلام لأحمد أمين وأضواء على السنة المحمدية للشيخ أبو رية.

5- إن كان يقصد عن طريق وبواسطة هذا الملك فصحيح، وإلا فلا، فإن القرآن نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) من جانب الله.