نظرة متجددة إلى آية الهيمنة

ولتكميل الصورة الطبيعية عن طبيعة القرآن ومكانته، وطبيعة الكتب السماوية المتقدمة على القرآن، يوم نزوله، ينبغي إلقاء نظرة أخرى إلى الآية 48 من سورة المائدة المذكورة في مطلع هذا المقال من حيث السياق، والآيات الحافة بها. فإن مثل هذه النظرة المتجددة تعيننا على الوقوف على ما ذكرناه من هيمنة القرآن على الكتب السماوية الرائجة.

لقد مهد القرآن لهذه الحقيقة (أعني كون القرآن مهيمنا وشاهدا على الكتب السماوية الرائجة يصحح منها ما صحّ، ويفند ما لم يصح) لقد مهد لهذه الحقيقة في نفس سورة المائدة عبر الآيات السابقة واللاحقة على آية الهيمنة.

فقد تعرض القرآن الكريم في الآيات السابقة لذكر عملية التحريف البغيضة، والتي كان منها تحريف الكلم عن مواضعها.

قال تعالى في الآية 13 من هذه السورة: ﴿فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكّروا به﴾.

وقال سبحانه في الآية 41 إلى 44 من هذه السورة: ﴿يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواهمم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتـنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم﴾ ﴿سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين﴾ ﴿وكيف يحكمونك وعندهم التوارة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين﴾ ﴿إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾.

قال العلامة الطباطبائي عند تفسير هذه الآيات: يتحصل من المجموع أن عدة من اليهود ابتلوا بواقعة دينية فيما بينهم لها حكم إلهي عندهم، لكن علماءهم غيروا الحكم بعد ثبوته، ثم بعثوا طائفة منهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وأمروهم أن يحكّموه في الواقعة، فإن حكم بما أنبأهم علماؤهم من الحكم المحرّف فليأخذوه، وإن حكم بغير ذلك فيحذروا.

ثم قال رحمه الله: وفي الآية (الأخيرة) تصديق ما للتوراة عند اليهود اليوم، وهي التي جمعها لهم عزراء بإذن (كورش) ملك إيران بعد ما فتح بابل، وأطلق بني إسرائيل من أسر البابليين، وأذن لهم في الرجوع إلى فلسطين، وتعمير الهيكل، وهي التي كانت بيدهم، في زمن النبي صلى الله عليه وآله وهي التي بيدهم اليوم، فالقرآن يصدّق أن فيها حكم الله، وهو أيضا يذكر أن فيها تجريفاً وتغييراً.

ويستنتج من الجميع: أن التوراة الموجودة الدائرة بينهم اليوم فيها شيء من التوراة الأصلية النازلة على موسى عليه السلام، وقد حُرّفت وغُيّرت، أما بزيادة أو نقصان، أو تغيير لفظ أو محل، أو غير ذلك، وهذا هو الذي يراه القرآن في أمر التوراة، والبحث الوافي عنها أيضا يهدي إلى ذلك(1).

ولم يكن هذا شأن اليهود وتوراتهم خاصة بل شملت هذه الحالة حتى النصارى قال سبحانه عنهم: ﴿ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به﴾.

ثم يشير بعد هذا التلويح بل والتصريح بما قام به أهل الكتاب يهودا ونصارى من التحريف والتغيير والتبديل في كتبهم إلى نماذج ومصاديق لهذا الأمر.

ثم يشير بعد هذا التلويح بل والتصريح بما قام به أهل الكتاب يهودا ونصارى من التحريف والتغيير والتبديل في كتبهم إلى نماذج ومصاديق لهذا الأمر.

فنستنتج من كل ما مضى أن القرآن كتاب حكيم عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإن الكتب السماوية المتقدمة عليه، الدائرة بين أهل الكتاب تعرضت للتحريف والتغيير. وهذا هو ما أهل القرآن الكريم لأن يكون المحك الذي يميّز به الأصيل عن الدخيل في الكتب السماوية الرائجة، وأن يكون المعيار الذي يُعرف به ما يصح في هذه الكتب وما لم يصحّ، وهل هذا إلا مهمة الشاهد، وهل هي إلا الشهادة التي هي أبرز معاني الهيمنة.


1- الميزان ج1، ص340 ـ 343.