ملخص دلائلنا على نفي التحريف

وبعد..فإن لعلمائنا الأعلام دلائل وافية باثبات صيانة القرآن الكريم عن التبديل والتحريف طول تاريخ الإسلام المجيد نلخصها فيما يلي:

1- بديهة التاريخ:

إذ من بديهة العقل أن مثل القرآن الكريم الذي كان منذ أول يومه موقع عناية المسلمين قاطبة، أن يسلم عن أي تغيير أو تبديل في نصه أو تحريف في لفظه. فالأمة برمتها، وعلى مختلف نزعاتها واتجاهاتها في مسائل الأصول والفروع، كانت تقدس شأن هذا الكتاب العزيز، وتعظم مقامه الكريم، درسا وعناية، قراءة وتلاوة، فهما ومراجعةً، في كل آونة حياتها، وفي مختلف مسائلها السياسية والإدارية والاجتماعية وغيرها..ومن ثم دأب الجميع على حراسته والحفاظ عليه بتمام الوجود وكمال العناية والوعي..ولم يسبق في التاريخ كتاب له عناية بالغة من أمة كبيرة بشأنه كالقرآن..فيا ترى كيف يمكن للأغيار التطاول عليه، وهو في المحلّ الأرفع!؟

هكذا استدل الشريف المرتضى والشيخ الكبير كاشف الغطاء على سلامة القرآن عن طوارق الحدثان(1).

2- ضرورة تواتر القرآن:

من الدلائل ذوات الشأن، الداحضة لشبهة التحريف هي: ضرورة تواتر القرآن في مجموعه وأبعاضه، في سوره وآياته، وكلماته وحروفه، بل حتى في هجائه وقراءته، حرفا حرفا وكلمة كلمة، وحركة وسكونا..هكذا تلقته الأمة يدا بيد سليما عن أي تغيير أو تبديل.

وإذا كان من الضروري لثبوت قرآنية كل حرف وكلمة ولفظ وحركة أن يثبت تواتره منذ عهد الرسالة إلى مطاوي القرون وفي جميع أدوار التاريخ، فإن ذلك لمما يرفض احتمال التحريف نهائيا. لأن ما قيل بسقوطه، إنما نقل بخبر الواحد. وهو غير حجة في هذا الشأن حتى ولو كان صحيح الإسناد حسب مصطلحهم. إذا فكل ما ورد بهذا الشأن، بما أنه خبر واحد، مرفوض ومردود على قائله.

هكذا استدل العلامة الحلي في كتابه ((نهاية الأصول إلى علم الأصول)) وعلى غراره سائر الأصوليين كالسيد المجاهد في كتابه ((وسائل الأصول)). والمحقق الأردبيلي في ((شرح الإرشاد)). والجواد العاملي في موسوعته القيمة ((مفتاح الكرامة)).وغيرهم(2).

3- مسألة الإعجاز:

مما يتنافى واحتمال التحريف في كتاب الله هو مسألة الإعجاز القرآني، التي تحدى بها أبدا. والإعجاز كما هو قائم بمعناه في أصول معارفه ومباني تشريعاته.

كذلك قائم بلفظه في جمله وتراكيبه، وفي تناسب نظمه ونغمه، في انتقاء كلماته وحروفه، بحيث إذا أبدل حرف منه أو كلمة، ثم فتّشت بها لغة العرب كلها، على أن يوجد في مثل موضعها الخاصّ، لم يوجد، كما صرح به علماء البيان.

وكلام هذا شأنه، كيف يا ترى يمكن تبديل كلمة منه أو تغيير تعبير فيه، بما يجعل الوضع غير وضعه الأول، فهل هذا إلا كسر لشوكة التحدي الذي صرخ به القرآن الكريم؟! إذن فكيف يجرؤ مسلم أن يتفوّه بهكذا كلام يكون نقضا صريحا لمسألة الإعجاز؟!

4- صريح القرآن:

ومن الدلائل على نفي التحريف، هي صراحة القرآن الكريم في مواضع من آياته، منها: آية الحفظ. قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(3). فقد ضمن تعالى حراسة القرآن وسلامته عبر الخلود، لا فوق أطباق السماوات ولا في صدور الخواص من الأولياء، إذ لا مباهاة بذلك..وإنما هو على أيدي الناس وبين أظهرهم، رغم وفرة الدواعي إلى تقويض دعائمه، وهذا هو الإعجاز المباهى به بشأن هذا الكتاب العزيز.

ومنها: آية نفي الباطل عنه: (وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)(4) والباطل المنفي هو الضياع والفساد، فهو مصون عن النقض والتحريف وتناول أهل العبث والطيش، حفظا إلى الأبد وسلامة مع الخلود(5).

وآيات غيرهما ذكرناها في رسالة ((صيانة القرآن من التحريف))، وتعرّضنا لشبهات دارت حولها ومناقشات تكلمنا فيها بالتفصيل(6).

5- نصوص الروايات:

هناك وفرة من روايات صحيحة وصريحة في عدم إمكان وقوع التحريف في كتاب الله:

منها: روايات العرض على كتاب الله. الواردة عن النبي(ص) والأئمة المعصومين (ع) الآمرة بعرض الأحاديث على كتاب الله، فما وافق كلامه تعالى فهو حق، وما خالف فهو زخرف وباطل(7)..وفي ذلك دلالة واضحة على سلامة المعيار، ليكون مقياسا تاما لتمييز الغثّ من السمين..فإن المشتبه لا يوثق به ذاتا، فكيف يوثق به معيارا.؟

هكذا استدل المحقق الكركي والسيد الطباطبائي بحر العلوم على سلامة القرآن(8)

ومنها: نصوص صادرة عن أئمة أهل البيت(ع) صريحة في نفي التحريف عن كتاب الله. وهي كثيرة ناصّة على نفي التحريف إما تصريحا أو تلويحا، نذكر منها نماذج:

1- جاء في رسالة الإمام أبي جعفر(ع) إلى سعد الخير: ((وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده..))(9). وهذا تصريح بأن الكتاب العزيز لم ينله أي تحريف في نصّه ((أقاموا حروفه)). وإن كانوا قد فسّروه على غير وجهه تأويلا باطلا، وهو تحريف معنوي ـ على ما أسبقنا ـ ومن ثم فإنهم ((حرفوا حدوده)).

والمراد من تحريف الحدود هو تضييعها، كما ورد في حديث آخر: ((ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيع حدوده))(10).

2- سئل الإمام الصادق (ع) عن قوله تعالى: ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾(11) وما يقوله الناس: ما باله لم يسم عليا وأهل بيته؟ فقال: ((إن رسول الله (ص) نزلت عليه الصلاة ولم يسم لهم ثلاثا ولا أربعا، حتى كان رسول الله (ص) هو الذي فسّر لهم ذلك))(12).

فقد قرر (ع) أنه لم يأت ذكرهم في الكتاب نصا، وإن كانوا مقصودين بالذات فحوى على خلاف ما يقوله أهل التحريف في زعم سقوط أساميهم لفظا.

3- روى المفيد بإسناده إلى جابر عن الإمام الباقر (ع) قال: ((إذا قام قائم آل محمد (ص) ضرب فساطيط لمن يعلم الناس بالقرآن، على ما أنزل الله جل جلاله فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم، لأنه يخالف فيه التأليف))(13). فكانت صعوبة حفظ القرآن ذلك اليوم، إنما لأجل مخالفته للتأليف الراهن، أي من حيث النظم والترتيب لا شيء سواه.

ومن ثم قال سيدنا الأستاذ الإمام الخوئي طاب ثراه: كانت أمثال هذه الأحاديث، الصحيحة الإسناد، الصريحة المفاد، حاكمة على كل ما رووه بشأن إثبات التحريف في كتاب الله.

إذ قد تبين بوضوح: أن المقصود من التحريف الواقع في كلام الأئمة، هو التحريف المعنوي، وأن المخالفة هي في النظم والترتيب، لا ما زعمه أهل الزيغ والتحريف(14).


1- راجع: مجمع البيان1: 15.وكشف الغطاء: 298 ـ 299. والحق المبين: 11.

2- راجع: البرهان للبروجردي: 111 و120. ومجمع الفائدة 2: 280. ومفتاح الكرامة 2: 390.

3- سورة الحجر: 9.

4- سورة فصلت: 41 و42.

5- راجع: البيان للإمام الخوئي: 226.

6- الصيانة: 43 ـ 50.

7- راجع: الكافي1: 69 باب وجوب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب.

8- أنظر: البرهان للبروجردي: 116 ـ 120.

9- رواها ثقة الإسلام الكليني بإسناد صحيح في روضة الكافي8: 53 رقم 16.

10- أصول الكافي2: 627 رقم 1.

11- سورة النساء: 59.

12- أصول الكافي1: 286.

13- الإرشاد: 365. بحار الأنوار 52: 339 رقم 85.

14- راجع البيان: 251.