النظرية الثالثة
وهي النظرية التي اختص بها العلاّمة الطباطبائي، تعرّض لها باختصار مع توضيح، وهي تمثل لوناً جديداً من ألوان الفكر التفسيري انطبعت بها مدرسة السيد الطباطبائي في التفسير.
وهذه النظرية تعتمد على مقدمات ثلاث تتلخص فيما يلي:
1 - هناك فرق بين (الإنزال) و (التنزيل) فالإنزال إنما يستعمل فيما إذا كان المُنزَل أمراً وُحدانياً نزل بدفعة واحدة والتنزيل إنما يستعمل فيما إذا كان المُنزَل أمراً تدريجياً وقد ورد كلا التعبيرين حول نزول القرآن: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ ﴿وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً﴾.
والتعبير بـ (الإنزال) إنما هو في الآيات التي يشار فيها إلى نزول القرآن في ليلة القدر أو شهر رمضان بخلاف الآيات الأخرى التي يعبّر فيها بـ (التنزيل).
2 - هناك آيات يستشعر منها أن القرآن كان على هيئة وحدانية لا أجزاء فيها ولا أبعاض ثم طرأ عليه التفصيل والتجزئة فجعل فصلاً، فصلاً، وقطعة، قطعة.
قال تعالى ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ (هود 2).
فهذه الآية ظاهرة في أن القرآن حقيقة محكمة، ثم طرأ عليها التفصيل والتّفريق بمشيئة الله تعالى والإحكام الذي يقابل التفصيل هو وحدانية الشيء وعدم تركّبه وتجزئه.
3 - هناك آيات قرآنية تشير إلى وجود حقيقة معنوية للقرآن غير هذه الحقيقة الخارجية اللّقطية، وقد عبّر عنها في القرآن بـ (التأويل) في غير واحدة من الآيات، قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ (يونس 39).
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ (الأعراف52-53).
فالتأويل على ضوء الاستعمال القرآني هو الوجود الحقيقي والمعنوي للقرآن وسوف يواجه المنكرون للتنزيل الإلهي تأويله وحقيقته المعنوية يوم القيامة.
واستنتاجاً من هذه المقدمات الثلاث فللقرآن إذن حقيقة معنوية وحدانية ليست من عالمنا هذا العالم المتغّير المتبدّل، وإنما هي من عالم أسمى من هذا العالم لا ينفذ إليه التغير ولا يطرؤه التبديل، وتلك الحقيقة هو الوجود القرآني المحكم الذي طرأ عليه التفصيل بإرادة من الله جلّت قدرته، كما أنه هو التأويل القرآني الذي تلمح إليه آيات الكتاب العزيز.
وإذا آمنا بهذه الحقيقة فلا مشكلة إطلاقاً في الآيات التي تتضمن نزول القرآن نزولاً دفعياً في ليلة القدر وفي شهر رمضان فإن المقصود بذلك الإنزال هو هبوط الحقيقة المعنوية للوجود القرآني على قلب رسول الله محمد صلّى الله عليه وآله وانكشاف ذلك الوجود التأويلي الحقيقي للقرآن أمام البصيرة الشفافة النبوية، فإن هذا الوجود المعنوي هو الذي يناسبه الإنزال الدفعي كما أن الوجود اللّقطي التفصيلي للقرآن هو الذي يناسبه (التنزيل) التدريجي.
وليس المقصود مما ورد من روايات عن أهل البيت (عليهم السلام) حول النزول الأول للقرآن في البيت المعمور إلا نزوله على قلب النبي محمد (صلى الله عليه وآله) فإنه هو البيت المعمور الذي تطوف حوله الملائكة، وقد رمز إليها الحديث بهذا التعبير الكنائي.
وهذه النظرية مع ما تتصف به من جمال معنوي لا نجد داعياً يدعونا إلى تكلّفها كما لا نرى داعياً يدعونا إلى محاولة نقضه وتكلّف ردّه، فليست النظرية هذه تتضمن أمراً محالاً، كما لا لزوم في الأخذ بها بعد أن وجدنا لحل المشكلة ما هو أيسر هضماً وأقرب إلى الذهن.