النظرية الثانية

إن المراد من إنزاله في شهر رمضان وفي ليلة ابتداء القدر منه ابتداء إنزاله في ذلك الوقت ثم أستمر نزوله بعد ذلك على الرسول صلى لله عليه وآله بالتدريج ووفقاً للمناسبات والمقتضيات.

قال صاحب المنار (وأما معنى إنزال القرآن في رمضان مع أن المعروف باليقين أن القرآن نزل منجماً متفرقاً في مدة البعثة كلها فهو أن ابتداء نزوله كان في رمضان وذلك في ليلة منه سميت ليلة القدر - أي الشرف والليلة المباركة - كما في آيات أخرى وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه)(1).

وقال الشيخ المفيد:

(وقد يجوز في الخبر الوارد بنزول القرآن جملة في ليلة القدر أنه نزل جملة منه في ليلة القدر ثم تلاه ما نزل منه إلى وفاة النبي صلى الله عليه وآله)(2).

ويبدو أن هذا الرأي هو الذي استقطب أنظار الأغلبية من محققي علوم القرآن والتفسير نظراً إلى كونه أقرب الآراء إلى طبيعة الأمور وأوفقها مع القرائن وظواهر النصوص القرآنية، فإن القرآن يطلق على القرآن كله كما يطلق على جزء منه، ولذلك كان للقليل من القرآن نفس الحرمة والشرف الثابتين للكثير منه، فنزول جزءٍ من القرآن - أستهل به الوحي الإلهي في ليلة القدر من شهر رمضان - يصدق معه نزول القرآن في ليلة القدر وفي شهر رمضان.

وتأييداً لهذه الفكرة فإننا نحاول الإستفادة من التعابير الجارية بين عامة الناس حين يقولون مثلاً سافرنا إلى الحج في التاريخ الفلاني، وهم لا يريدون بذلك إلا مبدأ السفر، أو نزل المطر في الساعة الفلانية ويقصد به ابتداء نزوله، فإنه قد يستمر إلى ساعات ومع ذلك يصح ذلك التعبير.

وبعبارة أخرى، أننا نلاحظ صحة هذا النوع من الاستعمال في الأسماء التي تطلق على قليل المعنى وكثيره على السواء كالمطر والسفر وأمثالها بخلاف ما لا يطلق إلا على المعنى بكامله كالبيت مثلاً فإنه لا يصح في العادة أن يعبّر عن الشروع ببنائه بعبارة (بنينا البيت في الزمان الفلاني)، وكلمة ﴿القرآن﴾ كما أشرنا سابقاً تطلق على كلام الله مطلقاً قليله وكثيره، فمن الطبيعي إذن التعبير عن ابتداء نزوله بـ ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ وما شاكل ذلك من التعابير.

ولا بد أن نضيف على هذا الرأي إضافة توضيحية هي أن المقصود من كون ابتداء النزول القرآني في ليلة القدر من شهر رمضان ليس ابتداء الوحي على النبي صلى الله عليه وآله..فإن افتتاحة الوحي المحمدي كانت لسبع وعشرين خلون من رجب على الرأي المشهور وكانت الآيات التي شعّت من نافذة الوحي على قلب الرسول(صلى الله عليه وآله) لأول مرة هي (إقرأ بأسم..إلخ) كما سيأتي الحديث عن ذلك في فصله، ثم أنقطع الوحي عنه لمدة طويلة ثم ابتدأه الوحي من جديد في ليلة القدر من شهر رمضان - وهذا الذي تشير إليه الآية المباركة - واستمر الوحي عليه صلى الله عليه وآله حتى وفاته..وبما ان هذا كان بداية استمرار النزول القرآني فقد صحّ اعتباره بداية لنزول القرآن.


1- نفس المصدر.

2- شرح عقائد الصدوق ص253.