الفصل الحادي والثلاثون.

الفصل الحادي والثلاثون.

قوله تعالى: ﴿ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾.

(يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ):

والآن، حان الوقت لإعطاء النتيجة النهائية الحاسمة لكل هذه المسيرة الإنسانية، من بدء الخلق إلى منتهاه. ألا وهي: دخول المحسن في رحمة الله، ودخول المسيء في نقمته سبحانه.

(مَنْ يَشَاءُ):

ويرد هنا سؤال، يقول: إنه برغم أن الله قد وعد من يتخذ السبيل إلى ربه؛ بالجنة وبالنعيم، فإنه تعالى قد علق نيله لهذا النعيم على مشيئته تبارك وتعالى.. فكيف ذلك؟ ولماذا؟!..ونجيب: بأن جميع المخلوقات مُلْكٌ لله تعالى، ولا يستحقون مثوبة من مالكهم على طاعاتهم له، ولكن الله عز وجل قد تفضل عليهم في تقرير أصل المثوبة لمملوكيه..

مع أن له أن يلغي ذلك متى شاء، ويعاملهم بمقتضى مالكيته لهم، وإن كان لا يفعل ذلك، فإنما لا يفعله لأنه لا يخلف وعده، ولوجود مبررات استمراره وشرائطه، لا لأجل أنه لا يحق له ذلك. وإن كان لا يلغي قدرته عليه، ولا حقَّه فيه، لعدم لزوم أي محذور من استعمال هذا الحق، وعدم وجود أي قبح في ذلك الإلغاء، ولا في ذلك الاستعمال للحق..ولكنه ما دام هذا القرار قائماً، فإن العبد يكون مستحقاً لتلك المثوبة، تماماً كما لو أن أباً وعد ولديه بجائزة للناجح منهما، فالناجح سيرى نفسه مستحقاً للجائزة، فإذا حرم منها، فإنه سيرى نفسه مظلوماً، فكيف لو أعطيت الجائزة لأخيه الراسب؟!

ولعل هذا هو السبب في أنه تعالى هنا قد علق إدخالهم في رحمته على مشيئته.. فإن إعطاء المثوبة إنما هو في ظرف بقاء ذلك القرار الإلهي قائماً، فمن اتخذ السبيل إلى ربه، فليس له أن يمن عليه سبحانه، بل الله هو المتفضل عليه، وله عليه المنة..كما أن ذلك يشير إلى استمرار فتح باب الرحمة لمن أراد الدخول فيه، فلا مجال لليأس من روح الله، فإن الطاعة وحدها لا تكفي لإدخال المطيع الجنة لولا الرحمة الإلهية، والتفضل بجعل ذلك القرار، كما أن المعصية لا تمنع من الرحمة، إذا تاب الإنسان وأناب، فإن القرار يبقى إليه، قال في دعاء أبي حمزة:

(لا الذي أحسن استغنى عن عفوك ورحمتك، ولا الذي أساء واجترأ عليك، ولم يرضك خرج عن قدرتك)..وقد يجاب أيضاً: بأن المقصود بقوله: (مَنْ يَشَاءُ).. هو الناس، أي أنهم إذا شاؤوا الدخول في الرحمة، فإن الله لا يحرمهم من ذلك..

ولكن هذا وإن كان محتملاً في نفسه، ولكنه خلاف الظاهر، فإن ضمير الفاعل في قوله تعالى: (أَعَدَّ لَهُمْ) يرجع إليه سبحانه، وهو نفسه ضمير الفاعل الذي استندت إليه كلمة (يَشَاءُ)، ولو كان الضمير يرجع للناس، لكان الأنسب أن يقول: (أعِدَّ) بضم الهمزة، وكسر العين، على صيغة المبني للمفعول..

(فِي رَحْمَتِهِ):

1. وقد نسب الله إدخالهم في رحمته إلى نفسه، ليبين أن عملهم مهما بلغ، فإنه لا يجعل لهم استحقاقاً واقعياً أصيلاً، بسبب مملوكيتهم التي أشرنا إليها.. فإذا تفضل الله عليهم، بجعل المثوبة لهم، فإنهم يكتسبون هذا الاستحقاق بذلك التفضل، فالاستحقاق مرتكز إلى ذلك الجعل، والقرار الناشئ عن الحكمة والتفضل الإلهي، ومعتمد عليه..

2. ولم تذكر الآية الدخول إلى الجنة، بل ذكرت أنه تعالى يدخلهم في رحمته. ولعل ذلك لإفهامنا: أن جميع ما ذكر في هذه السورة من خلق، ورزق، وتشريعات، وذكر، ورعاية، وهدايات، وإفاضات متوالية، ما هو إلا تفضلات ونعم منه تعالى. وأن جعل الجزاء، وإن كان يستتبع استحقاقاً بدرجة ما، ولكن تبقى مقادير هذا الجزاء، في دائرة التفضلات الإلهية أيضاً، إذ لو أردنا أن نقيس عملنا إلى كل تلك النعم والفيوضات، فإنه مهما بلغ من الصفاء والصلاح لا يفي ولو بنفس واحد نتنفسه، فضلاً عن أن يتوهم أحد أننا نستحق عليه أي جزاء، فكيف بجنات عدن، التي وعد الله بها المتقين.

وذلك معناه: أن أي عطاء منه لنا إنما هو برحمة منه سبحانه، لا باستحقاق منا له، رغم أنه قد جعل الحسنة بعشر أمثالها، بل جعلها: ﴿ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾(1)..

الدخول في الرحمة الإلهية:

ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن الجنة رحمة إلهية للبشر، لأن الرغبة فيها، والطلب لها، يدعو الناس إلى فعل الخيرات، وعمل الصالحات، وفي ذلك سعادتهم وصلاحهم..كما أن وجود جهنم أيضاً، والخوف منها يدعو الناس إلى التزام خط الطاعة والانقياد. وهو سلامة وسعادة لهم أيضاً..وقد قلنا آنفاً: إن الإنسان لا يستحق بعمله - من حيث هو - أي شيء، ولا تفي جميع أعماله مهما عظمت بجزء يسير من تفضلات ونعم الله وفيوضاته عليه..بل إنما يستحق ذلك بالجعل الإلهي التفضلي، ولكن أمر هذا الجعل يبقى بيد الله تعالى، فيمكن له رفعه، كما أمكن له وضعه.. وذلك حين يوجب استمراره نقضاً للغرض، ولا يكون إخلافاً للوعد، بل يكون متوافقاً مع مقتضيات الرحمة والإحسان..وبما أن الله هو العليم، والواقف على حقيقة، ومدى، وعمق ضعف، ونقص، وعجز، وحاجة هذا الإنسان، فإنه بمقتضى رحيميته يبادره برفع نقائصه، وبسد حاجاته، وتقوية ضعفه، ويزيده من فضله، فيعطيه الجنة، فيقصر عن نيل نعيمها، فيزيده من فضله كمالاً، وأهلية، واستعداداً لنيل ذلك النعيم.. وكل ذلك على أساس الرحمة الغامرة، التي كانت سبباً في الفيض، والحكمة الظاهرة التي هيمنت على المشيئة..وبما أن الحاجة إلى استمرار هذه المعونة قائمة، فإن الجنة تصبح بمثابة الرحمة له، وهي مستمرة ودائمة.. فيدخلها، ويبقى فيها، تفضلاً من الله تعالى عليه وكرماً..

(وَالظَّالِمِينَ):

قلنا: إن أصل جعل قانون المثوبة والعقوبة، رحمة بالبشر، وإحسان لهم..واللافت هنا: أنه تعالى حين أشار إلى العقوبة، أظهر أنه لا مجال لغض النظر عنها، ولا للتساهل فيها.. لأنها عقوبة نشأت عن الظلم، والتمرد، والطغيان، والتعدي على مقام الألوهية..والسؤال هو: لماذا جعل الله الطرف المقابل لمن يُدْخِلَهُم في رحمته، هم الظالمون، ولم يجعلهم الكافرين؟!..

الجواب: لعل السبب هو: أن الله سبحانه بعد التذكرة لهم لم يترك أمراً، يمكن الاعتذار عن مخالفته والتعدي عليه بالجهل، أو الشبهة، إلا وكشفه، وبيَّنه، من خلال الهدايات التي زودهم بها، وبذلك تصبح تعدياتهم ظاهرة في أنها تعديات على حدود الفطرة، وانتهاك لأحكام العقل، واعتداء على حرمات الله، وفعل يسيء إلى مستقبلهم، وإلى أنفسهم، ويؤدي بها إلى المزالق والمهالك..

وبذلك.. يكونون ظالمين أقبح الظلم، وأسوأ الطغيان..وقد يحاول الإنسان أن يتجاهل مقتضيات فطرته، وأحكام عقله، وكل وسائل الهداية، ويحصرها في زاوية، ثم يسدل عليها ستار التناسي.. ولكن بعد إعادة إظهارها، وإزالة العوائق عن مشاهدتها.. فإنه لا يعود الوقوع فيها كفراً وستراً، بل هو محض التعدي والظلم، والبغي..والتصريح بالظلم والظالمية إنما هو لأجل التنفير من هذا الأمر، الذي تدرك قبحه كل العقول، ويرفضه كل البشر بفطرتهم، بسبب ما له من سلبيات واقعية..

أما الكفر فقد يرضاه الإنسان لنفسه، تحت ستار من الأقنعة التي تنسجها له تأويلات وتسويلات شيطانية، تجعله لا يشعر بالقبح والجريمة، بصورة قوية وظاهرة..ولكنه حين يدرك أن كفره وشركه إنما ينطلق من ظلمه، بل هو نفسه أعظم ظلم وأقبحه، فإن النفيرة منه سوف تتأكد لديه، ولدى كل من عداه..

(أَعَدَّ لَهُم):

ويلاحظ هنا: أنه تعالى بالنسبة للمؤمنين، قال: (يدخل). أما بالنسبة للظالمين، فقال: (أَعَدَّ لَهُم)..فما هو السبب في هذا التنويع في البيان؟!..ويمكن أن يجاب بأنه: لعل من فوائد هذا التنويع في البيان أنه من جهةٍ أراد أن يطلع من يريد أن يتخذ سبيل الغي والظلم، على هول ما يقدم عليه، من حيث إنه يستحث خياله لتصور ما أعده سبحانه له من عذاب، فيرتجف له فؤاده، ويخشع قلبه، فإذا أعاد النظر في كلمة (أعد)، فسيجد فيها ما يشير إلى عدم تنجز الأمر، وإلى وجود فسحة يستطيع من خلالها أن يبحث عن المهرب، والمخرج..

تقديم الظالمين لماذا؟!:

ويلاحظ هنا: أنه تعالى قدم كلمة: (الظَّالِمِينَ) في الذكر، حيث قال: (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ) ولم يقل: (أعد للظالمين)..ولعل من فوائد هذا التقديم: أنه يكون بذلك قد نص على أن ظلمهم هو المؤدي بهم إلى هذا العذاب الذين لهم هذا العذاب مرتين، مرة بكلمة الظالمين، ومرة أخرى بالضمير العائد، وهو كلمة (هم)..

بالإضافة إلى أن هذا التقديم فيه إظهار للحرص على مواجهتهم بذلك العذاب الأليم.. وإفهامهم: أن هذا ليس كلاماً عابراً، بل هناك مزيد التفات، وقصد أكيد، واهتمام ظاهر بمواجهتهم به..وحتى بالنسبة لكلمة (أعد) فإنها تشير إلى أن ثمة مزيد عناية في كيفيات، ووسائل ذلك العذاب، وليس هو عذاب عشوائي يأتيهم كيفما اتفق.. بل هو عن إعداد، وتهيئة، وقد لوحظ فيه سد جميع الثغرات التي ربما تؤدي إلى بعض التخفيف في بعض الفترات، أو في بعض التقلبات..

(عَذَابَاً أَلِيمَاً):

ثم إنه تعالى لم يقل: (أعد لهم جهنم) مثلاً، فإن كلمة (عذاب) زائداً على الأمور الثلاثة التي قدمناها آنفاً، تشتمل على إلماحة رابعة إليهم، وتستبطن الإشارة إلى أعيانهم، من حيث إشعارهم بالألم هم أنفسهم..

وكذلك كلمة (الأليم)، التي هي أيضاً من صيغ المبالغة التي تفيد شدة ذلك الألم، وكثرة توارده على ذلك المعذب..ولو أنه تعالى قال: (أعد لهم جهنم) مثلاً، أو ناراً، فقد لا يلتفت إلى ذلك العذاب ولا إلى شدة ذلك الألم، إلا بعد توسيط وسائط، واستحضار ملازمات ذهنية، قد لا تعطي الإيحاء، ولا تثير الإحساس المباشر والسريع لدى السامع، بأنه هو المستهدف بذلك العذاب، كما هو الحال في كلمتي (عَذَابَاً أَليِمَاً)..

كما أنه ليس فيها إلماحة رابعة إليه، ولا تشتمل على أي تنصيص جديد عليه.

والحمد لله، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين..

كلمة أخيرة:

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..وبعد..فقد كانت تلك نبذة من الكلام حول ظواهر آيات سورة ﴿هل أتى﴾ المباركة.. والتي هي سورة (أهل البيت) عليهم الصلاة والسلام.

ولا بد لنا قبل أن نودع القارئ الكريم من الإعلان الصريح له بأنها محاولة لا تليق بأن تسمى تفسيراً، أو حتى مدخلاً لتفسير هذه الآيات الشريفة.. كيف! والقرآن بحر عميق لا تفنى عجائبه، ولا تنفذ غرائبه، ولا يشبع منه علماؤه. وما علماؤه إلا أهل بيت العصمة، الذين اختصهم الله تعالى بمعرفة كوامنه وأسراره، وحباهم بالتقلب بسواطع أنواره..وكل من عداهم لا يعدو أن يكون متطفلاً، لا يدرك غاية، إلا بمقدار ما يدركه طفل ساذج، يقف على شاطئ البحر المحيط، ليلقي بنظرة بلهاء كليلة، على طَرَفٍ ضئيل من مياهه العذبة.. فإنه مهما حاول ذلك الطفل العاجز أن يجهد نفسه، ويثير كوامن فكره، فلن يكون قادراً على إدراك ما لذلك البحر المحيط من مقدار، ولا على استكناه ما يحتضنه من خفايا وأسرار، أو على ما فيه من حقائق، ودقائق، وما تشتمل عليه أعماقه من غرائب وعجائب.. غير أن الذي جرأني على هذا الأمر هو ثقتي برحمة الله سبحانه، وبلطفه وكرمه، وطمعي في أن لا يحرمني من بركات القرآن، فأفوز منه ولو بنسمة واحدة، يزجيها إلى فواح أريجه، وأسعد بنظرة ساذجة ألقيها على رائع من روائع بهيج نسيجه. وأن ألمح ولو من البعيد البعيد، سبحات نوره الباهر.. وأنال من بركات فيضه الغامر فعسى ولعل، أن يكون ذلك سبباً في أن تشملني شفاعة أهل القرآن الأطيبين الأطهرين، وهم الزهراء وأبوها، وبعلها وبنوها.. فإنه ليس لي عمل صالح أتكل عليه، سوى حبي لهم، ورجاء شفاعتهم، صلوات الله وسلامه عليهم، ورحمة منه وبركات.. وبعد، فليس لي إلا أن أقول لسادتي وموالي - وهم خزان علم الله - كما قال إخوة يوسف: ﴿ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾..

وأما ما آمله من إخواني الأكارم، فهو أن يغضوا طرفهم عما يرونه في هذه الإطلالة من خطأ، وسهو، ونسيان، وأن يتحفوني بملاحظاتهم، وأن يصلحوا بآرائهم السديدة، ونظرتهم الرشيدة، ما أفسدته يد القصور أو التقصير..وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..عيثا الجبل (عيثا الزط سابقاً)

جعفر مرتضى الحسيني العاملي


1- سورة البقرة الآية261.