الفصل الثلاثون.

الفصل الثلاثون.

قوله تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَ أَنْ يَشَاء اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾.

(وَمَا تَشَاءُونَ):

لقد ظهر أن التعابير في الآيات الأخيرة قد جاءت بطريقة متفاوتة، تتناسب مع طبيعة الخصوصيات التي يراد الإلماح إليها في كل مقام، فقد كان التعبير عن مقام العزة الإلهية، بضمير المتكلم، وبصيغة الجمع: (أردنا)، (بَدَّلْنَا), (شِئْنَا). ثم جاء التعبير عنه بصيغة المفرد، وبعنوان الربوبية، فقال: (إِلَى رَبِّهِ).. ثم عاد هنا ليتحدث بصيغة ثالثة، وهي صفة الألوهية، فقال: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَ أَنْ يَشَاء اللهُ﴾..وكان الحديث أيضاً عن الناس بضمير الغائب: (خَلَقْنَاهُمْ)، (أَسْرَهُمْ)، (أَمْثَالَهُمْ) ثم تحول للحديث عن المفرد: (مَنْ شَاء)، (اتَّخَذَ)، (رَبِّهِ)..ثم عاد أخيراً ليتحدث عنهم بضمير الجمع مرة أخرى.. ولكنه اعتبرهم حاضرين، ووجه إليهم الخطاب مباشرة، فقال: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ﴾..وقد عرفنا بعض السبب في إجراء الحديث بصيغة الغائب المفرد هناك، والسبب في عودته هنا للخطاب لهم بضمير الجمع، مشيراً إلى نفسه تعالى بواسطة لفظ الجلالة.

ولعل السبب في الإتيان بلفظ الجلالة هنا، هو أن تأثير مشيئة الله سبحانه في مشيئة العبد، إنما هو من موقع الخالقية التي تعني القدرة. وذلك يتناسب مع مقام الألوهية بصورة أتم وأوضح..

جبرية المشيئة:

وربما يثار سؤال هنا عن: أن الآية قد دلت على توقف مشيئتنا على مشيئة الله سبحانه، فهل معنى ذلك أن الله هو الذي يخلق فينا المشيئة بصورة جبرية، ولا يبقى لنا اختيار؟! أم أنه يخلق فينا المشيئة، ويبقي لنا الاختيار؟!

وإذا كان ذلك لا يضر بالاختيار، فهل الاختيار سابق على المشيئة، أم لاحق لها؟!

أي أن الجزء الأخير من العلة، هل هو الإرادة، أم الاختيار؟!

وبعبارة أخرى: قد يقال: إن مشيئة الله هي التي توجد اقتضاء التأثير في مشيئة البشر، فليس في إرادة العبد قوة ونشاط وقابلية أبداً إلا بإرادة الله سبحانه، فتكون كالحديد إلى جنب النار، فإن الحديد ليس فيه قابلية الاشتعال أبداً..وقد يقال: إن مشيئة الله شرط لحصول ذلك التأثير، مع توفر الاقتضاء الذاتي في المشيئة البشرية.. وقد تتصور على نحو عدم المانع، أي أن تأثير إرادة البشر متوقف على عدم وجود مانع يمنعها، والمانع إنما هو مشيئة الله.

والظاهر هو الأول، أي أن المشيئة الإلهية هي التي تعطي الاقتضاء لمشيئة الإنسان، وتوجد الطاقة لدى العبد، وتنتج القابلية وتوجدها في مشيئته، وتصبح هذه المشيئة والإرادة مشحونة بالقوة، قابلة للتأثير في إنتاج الفعل الخارجي، ولكن بشرط أن يختار العبد أن تتعلق مشيئته، أو إرادته هو بذلك الفعل. ليكون هذا التعلق بمثابة إشارة البدء، والمباشرة، والحركة المؤثرة..فإرادة الله سبحانه لم تتعلق بالفعل، بل تعلقت بشحنك بالقوة المؤثرة في تحريك يديك، وحصول البصر لعينيك، والسمع لأذنيك، و.. و.. فلما حصلت على هذه القوة اخترت أنت تحريك يدك باتجاه اليسار مثلاً..

فالله يفيض عليك، وأن تتصرف، كما يحلو لك. فالله أوجد المشيئة.. وأنت اخترت تعليقها بهذا، أو ذاك. فلما علقتها بهذا أفاض الله عليه الوجود لأجل تعلقها به، ولو علقتها بسواه لكان قد وجد أيضاً بالقوة المفاضة من قبل الله أيضاً، والتي هي تابعة لمشيئتك أنت.

فكما يصح نسبة هذا الفعل إليك، لأنك أنت الذي اخترته.. كذلك يصح نسبته إلى الله سبحانه، لأنه هو الذي أفاض عليه الوجود بعد أن اجتمعت مقتضياته وشرائطه التي منها اختيارك وإرادتك، التي أفاض الله عليها الوجود، فاخترت تعليقها بفعل ما، فوجد، وكان..وهذا هو معنى الأمر بين الأمرين، الذي يقول به الإمامية تبعاً لأئمتهم عليهم السلام..ويشبه ما نحن فيه سيارة لها محرك يعمل باستمرار، فيوجد قوة اندفاع.

فقوة الاندفاع في السيارة موجودة، بسبب وجود الطاقة التي أنتجها المحرك. ولكن السائق هو الذي يوجه هذا الاندفاع بهذا الاتجاه أو ذاك..

فالسائق لولا المحرك لا يستطيع أن يفعل شيئاً، والمحرك لولا السائق، لا يوجه السيارة بهذا الاتجاه، الذي أوصلها إلى هذا البلد بعينه مثلاً..وكذا الحال في الطاقة الكهربائية التي نوظفها فيما نشاء من موارد، مع أن المشرف على المولد يتحكم بنا من حيث إنه يقطع التيار عنا في أي ساعة شاء، كما أننا نحن الذين نختار صرف الطاقة في هذا الاتجاه أو في ذاك..ولو أن إرادة الله تعالى تعلقت بالفعل مباشرة، من دون توسيط اختيار الإنسان، لكان ذلك هو الجبر الباطل بعينه..وأما لو كنت أنت الذي تشاء وتريد، وتختار، مستقلاً في الإرادة والمشيئة، وفي الاختيار، وإيجاد الفعل.. فيكون هذا هو التفويض الباطل بعينه.

وبذلك يتضح: أن هذه الآية الشريفة هي من موارد القاعدة المشهورة التي قررها أئمتنا صلوات الله وسلامه عليهم، والتي تقول: لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين.

ولأجل ذلك لم يأت التعبير في الآية المباركة: (وما تفعلون إلا أن يشاء الله)، فإنه لو قال ذلك، لكانت الآية دالة على الجبر، لأن تعليق إرادة الله بفعلنا مباشرة معناه: أنه تعالى يوجد تلك الأفعال بمحض مشيئته.. وليس للعباد أي دخل في ذلك.

ولكنه لما قال: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَ أَنْ يَشَاء اللهُ﴾.. فإن مشيئته تعالى قد تعلقت بالمشيئة والإرادة للناس التي هي محرك وطاقة وقوة فإذا وجدت هذه الطاقة والقوة والإرادة، والمشيئة لدى الإنسان، فإنه هو الذي يختار أن يعلقها بهذا الأمر أو بغيره. كما قلنا.

وبصورة أكثر إيجازاً نقول: قد يقال: إن المراد بالآية هو: أن للهداية أصولها ونواميسها، والسير في طريقها إنما هو بقرار من الإنسان نفسه.. وهذا القرار لا يأتي قسراً عن الله سبحانه، بل يبقى له تعالى درجة من التأثير في فعل الإنسان وفي مشيئته، من حيث إنه قادر على شل حركته، ومنعه من الاختيار، ومن الفعل على حد سواء. تماماً كما هو الحال بالنسبة للنهر الجاري باتجاه معين، فإن الإنسان يقدر على سد مجراه، ومنعه من مواصلة طريقه، ويقدر أيضاً على تحويل مساره باتجاه آخر..فكأن الآية تقول: إن مشيئتكم تجري على طبيعتها، إلا أن يشاء الله منعها، وتحويلها، أو مصادرتها..وربما يناقش في هذه الإجابة بأنها تنافي ظاهر قوله تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَ أَنْ يَشَاء اللهُ﴾.. الدال على أن مشيئة الله دخيلة في أصل إنتاج مشيئتكم، وأن مشيئتكم لا استقلال لها عن إرادة الله تعالى، بل هي مرتبطة ومرهونة بها، وواقعة تحت تأثيرها، في نشوئها على الأقل، إن لم نقل: نشوءاً واستمراراً.

فالأولى أن يجاب بأن الله سبحانه يفيض الوجود على الإنسان، بكل ما فيه من قدرات، وطاقات، وملكات وغير ذلك، آناً، فآناً، ولحظة، فلحظة.. فيفيض الوجود، والقدرة والحياة، وغير ذلك من مبادئ الفعل التي تجعل الإنسان قادراً على أن يحرك يده ورجله، وينطق بلسانه، ويفكر، و.. و.. الخ.. فيختار هو أن يستفيد من هذه الطاقة التي تقع تحت اختياره، أو لا يستفيد..وهذا نظير ما لو كان هناك مصدر يمدك بالكهرباء، ولك أنت أن تختار الاستفادة منها في التدفئة، أو في الإنارة، أو في تحريك آلة، تمكنك من قتل إنسان، أو غير ذلك، فالمصدر الذي يمدك بالطاقة الكهربائية قادر على قطع المدد عنك في أية لحظة، فيصح أن يقال: لولاه لم يكن عندك نور، ولعجزت عن قتل ذلك الإنسان.. و.. و.. الخ..كما أنه يصح أن يقال: لولا مشيئتك ومبادرتك أنت، لم تحصل الإنارة، ولا القتل، ولا غير ذلك..

ولكن من الواضح: أن تصرفك أنت ليس له أي تأثير على من أعطاك الكهرباء، فإنه محسن في جميع الأحوال، ولا يتوجه إليه أي لوم، حتى لو أسأت أنت الاستفادة من الطاقة التي يرسلها إليك..وهو نظير ما لو أعطاك إنسان مالاً، لتستفيد منه في إصلاح شأنك، أو في معالجة مرض ألمَّ بك.. فإنك قد تصرفه في ما أمرك بصرفه فيه، وقد تعصي أمره فتصرفه في ارتكاب جريمة، أو تحرقه، أو تضيعه..

وفي جميع الأحوال، فإن الذي أعطاك؛ محسن إليك وممدوح.. وأما أنت فالعقاب والثواب متوجه إليك تبعاً لما تختاره..ومجرد علم المولى بما سوف يختاره العبد لا يحتم عليه التدخل لمنعه، ولو بقطع المدد عنه.. فقد يكون للتدخل سلبياته الكبيرة والخطيرة، من حيث إن المصلحة العليا تفرض أن يعطيه كامل الحرية في التصرف بألطافه الواصلة إليه.. لأن الغاية الكبرى لا تتحقق إلا بذلك. إن لم نقل: إن هذا التدخل يعد ظلماً ينافي مقام الألوهية..

خلق الخير والشر:

وإذا كان الله هو الذي يفيض الوجود على إرادة الفاعل، ثم يكون الفاعل هو الذي يختار أن يعلقها بهذه الحركة أو بتلك، والفعل هو نتيجة هذه الحركة، فإرادة الله لم تتعلق بالفعل مباشرة، سواء أكان الفعل خيراً، أم شراً، فلا معنى لادعاء أن الله يخلق فعل الخير، ولا يخلق الشر.. بل الإنسان هو الذي يفعلهما باختياره، ولكن الله سبحانه يفيض عليه القوة والقدرة لحظة فلحظة، وهو يوظف هذه القوة والقدرة لإنتاج حركة هنا أو هناك، يطلق عليها: (الفعل). ثم يسمون هذا الفعل بأسماء تناسب حالاته، وملازماته، مثل: شرب، أكل، تسبيح، صلاة، الخ..

والخير هو الفعل الذي ينتج كمالات، يحتاج أو يسعى إليها الإنسان، أما الشر فهو الفعل الذي يهدم ما بناه الخير ويتلفه. وذلك ظاهر لا يخفى.

(إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً):

ويرد هنا سؤال، وهو: أنه تعالى قد عدل عن ضمير الغائب إلى التصريح بلفظ الجلالة، فقال: ﴿ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾.. مع أن الإتيان بلفظ الجلالة يجعلنا نتوقع أن يأتي بضمير الغائب للإشارة إلى ذاته المقدسة..

وربما يمكن الإجابة عن ذلك: بأنه أعاد لفظ الجلالة ليفيد أنه تعالى قد بدأ كلاماً جديداً، يتضمن قاعدة عامة، يكون هذا المورد أحد منطبقاتها. أي أنه تعالى يريد أن يثبت العليمية والحكيمية لذاته المقدسة على سبيل الإطلاق، ولا يريد أن يقيدها بمورد وفعل خاص، وهو مورد تأثير المشيئة الإلهية في مشيئة البشر..

فهو يريد أن يقول: إن هذا التأثير مستند إلى صفة العليمية والحكيمية من حيث هي، ولا يريد أن يقول: إن سبب التأثير هو وجود سنخية خاصة بين هذا المورد وبين هذه الصفات، وليس ثمة ما يثبت وجود هذه السنخية في سائر الموارد..فإعادة لفظ الجلالة قد ألغى هذا الاحتمال الأخير، ولفت النظر إلى وجود اقتضاء عام في هذه الصفات، يجعلها قابلة للتأثير في مختلف الموارد.

ولو أنه أتى بالضمير، فقال: (إنه كان عليماً حكيماً)، فقد يوهم ذلك أن العليمية والحكيمية معاً قد اقتضتهما ربوبيته تعالى.. مع أن الحقيقة هي أن العليمية من صفات ذاته، ومن شؤون ألوهيته تعالى..أما الحكيمية فهي من شؤون ربوبيته سبحانه..وبذلك يكون قد أكد على التوافق والانسجام في كلا هذين الأمرين، في مقام التأثير الفعلي في الأشياء، فلا بد من التوجه إليه تعالى على هذا الأساس..

(كانَ):

وكلمة (كَانَ) قد جاءت لتبين لنا أن صفتي العليمية، والحكيمية، ليستا عارضتين على الذات، وقد اقتضاهما فعل بخصوصه. بل هما من الصفات التي لها ثبوت حقيقي للذات، وهي غير مرتبطة في نشوئها وثبوتها بفعل بعينه، أو بأمر عارض.. بل هي ثابتة له تعالى على الحقيقة، قبل ذلك وبعده، لأن ذلك من تجليات صفات ألوهيته تعالى.

وهذا كقوله تعالى: ﴿ اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ﴾(1).. فإن الله سبحانه نور على الإطلاق، قبل السماوات والأرض، وبعدها.. لا أن نوريته قد اقتضتها حاجة لها كامنة في السماوات والأرض.

(عَلِيماً حَكِيماً):

وقد جاءت كلمة (عَلِيماً) بصيغة المبالغة.. وهي مبالغة من جهتين:

إحداهما: جهة الشمول، من حيث كثرة مفردات العلم الحاضرة لديه تعالى، وكثرة موارده.

والثانية: من حيث إن علمه تعالى دقيق، وعميق، وهو علم حضوري، تكون الحقائق حاضرة لديه تعالى، حضوراً حقيقياً فعلياً.. فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض..وهذه الدقة والإحاطة الحقيقية تقتضي التدبير الموافق للحكمة في كل شيء.. لأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، وهذا يحتاج - بالإضافة إلى القدرة، وسواها - إلى العلم الدقيق، والعميق، والشامل، وإلى الحضور التام، بحيث لا يكون أي وجه من وجوه الشيء غائباً عن الواضع والمتصرف.

فتحقُّق صفة الحكيمية بتمام معناها، وهي من صفات الفعل، متوقف على صفة العليمية، التي هي من صفات الذات، فاقتضى ذلك تقديم هذه على تلك في هذه الآية الشريفة. حيث لم توجد خصوصية أخرى تقتضي تأخير صفة العليمية، وفي جميع الأحوال نقول: إن المناسبة هنا تقتضي هذا التقديم.. فإن الحديث إنما هو عن اتخاذ السبيل إلى الله سبحانه، وعن خلق الإنسان، وعما تقتضيه خلقته ومسيرته في الحياة كلها. وعن حقيقة الوجود المتكامل في كل حناياه وخفاياه.. وفي بدايته ومنتهاه.

يضاف إلى ذلك: أن المشيئة الإلهية، إنما تنبثق أولاً من موقع الإحاطة، والعليمية، ليكون تأثيرها موافقاً للحكيمية.. وقد جاءت العليمية والحكيمية هنا متوافقة مع مقتضيات هذه المشيئة، بصورة واقعية..فاتضح من جميع ذلك، ضرورة تقدم كلمة عليم، على كلمة حكيم..

واتضح أيضاً أن هاتين الصفتين هما اللتان يجب التنصيص عليهما، والتذكير بهما..وأنه لا بد من إطلاقهما، لكي تشملا جميع أحوال النشأة الإنسانية، ومسيرة الخلق والخليقة كلها.


1- سورة النور الآية35.