الفصل التاسع والعشرون.

الفصل التاسع والعشرون.

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاء اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾.

(إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ):

إننا نبين ما نرمي إليه ضمن النقاط التالية:

1. إن التأكيد هنا على أن هذه تذكرة، لا يخلو عن لحن تهديد للآثم والكفور.. ولا سيما بملاحظة قوله تعالى آنفاً: ﴿ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾.. وكذلك قوله تعالى الآتي: ﴿ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾..

2. إنه تعالى إنما يريد أن يذكِّرهم بذلك اليوم الثقيل، لكي لا ينساقوا وراء حبهم للعاجلة..

3. وكلمة (تَذْكِرَةٌ) مثل: كلمة: (تمرة)، (ضربة). جاء بها مع تاء الوحدة، ليفيد أنها هي التذكرة الوحيدة المتبقية التي يمكن أن تكون نافعة لهم، فإن لم تؤثر فيهم، فلا مطمع بعدها بهدايتهم، وما إلى ذلك.

فكأنه قال: إنه الإنذار الأخير، والفرصة الأخيرة، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً، وإلا فإن عليه أن يواجه عواقب ضياع هذه الفرصة..أو أنه يريد أن يقول: إنها مجرد تذكرة خالصة، وليس لها أية أهداف أخرى، سوى ما للتذكرة من أهداف. وقد يستظهر أن الهدف هو إفادة هذا من المعنيين معاً..

4. وقد أنث الضمير في كلمة (هَذِهِ) فيحتمل أن يكون بملاحظة كلمة تذكرة..

ويحتمل أن يكون هناك تقدير لكلمة يناسبها ضمير التأنيث، مثل كلمة (الحقائق)، أو كلمة (القضايا).. أو نحو ذلك. أي أن هذه الحقائق التي بيَّناها إنما هي تذكرة..

التذكير، بماذا؟!:

وهنا سؤال يقول: إن كلمة تذكرة، مأخوذة من الذكرى التي تعني أن ثمة أمراً قد مر على الذهن، فما هي الأمور التي يريد الله أن يذكرهم بها هنا؟!

والجواب: أن المناسب للاعتبار هنا هو أن يكون المراد: التذكير بالمعاني والهدايات المركوزة في العقول، وفي داخل الوجدان، والفطرة، ونحو ذلك مما يمكن القول بأنه قد سبقت له به معرفة..والسؤال هو: كيف أصبحت الحقائق المذكورة في هذه السورة، من معارف البشر، جميعاً، بمن فيهم الآثم والكفور؟!..

ويمكن أن يجاب: بأن ما تحدثت عنه الآيات إنما هو أمور يعرفها الإنسان ويدركها بعقله، أو تقضي بها فطرته، أو لمسها ومارسها في حياته..ومراجعة الآيات من أول السورة إلى نهايتها، خير شاهد على ما نقول: فإنها بدأت بالحديث عن خلق الإنسان، وعن رعايته، واستثارة فطرته، وعقله، ليلتفت إلى وجود الله، وإلى صفاته الألوهية، وخالقيته، وإلى دقة صنعه، وحكمته..

وذلك يقتضي وجود هدف، فإن الحكيم لا يمارس العبث..

والهدف يحتاج إلى هداية إليه، ثم إلى إلزام وتكليف بالوصول إليه. كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾..

وذلك يحتاج إلى أنبياء ورسل وأدلاء..

ثم يأتي دور اختيار الاستجابة، أو اختيار التمرد، الذي يستتبع حساباً، وثواباً، وعقاباً، ويفرض بعثاً، ونشوراً.. إلى كثير من الأمور التي يدركها العقل، أو تقتضيها الفطرة، والوجدان، والتدبير، وغير ذلك.

ومن الواضح: أن أحكام العقل والفطرة والوجدان لاتحتاج إلى أكثر من التذكير بها والتوجيه نحوها.

وهذا ما حصل فعلاً هنا.. فإنه تعالى لم يورد ذلك كله كجزاء لا يعرف الإنسان عن حقيقته شيئاً، ويجد نفسه في فسحة من أمر التصديق والالتزام به.. بل أورد له حقائق ونبهه إلى أمور يجدها حاضرة لديه، يحكم بها عقله، وقائمة في عمق وجدانه وفطرته..وحين يكون هناك شيء يراد حفظه، وغاية يراد الوصول إليها، فإن الحكيم يتوسل بما يحفظ له تلك الغاية من الضياع، فتأتي التذكرة هنا لحفظ الهدف الإلهي من الضياع، بالدلالة على مناشئه، وحالاته، والمؤثرات فيه، والمؤشرات له، والهدايات إليه بواسطة الأنبياء، وغير ذلك من أسباب حفظ الهدف الكبير والأهم والأعظم، الذي أشار إليه قوله تعالى هنا:

(فَمَنْ شَاء اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً):

فقد دل هذا التعبير على أن المقصود من كل هذه البيانات - من أول السورة إلى هنا - هو أن يتخذ الإنسان السبيل إلى الله سبحانه..ولتوضيح بعض ما ألمحت إليه هذه الآية الشريفة، نقول:

(فَمَنْ):

1. إنه أتى بفاء التفريع هنا ليفيد: أنه بعد أن أيقظ في الإنسان فطرته، وواجهه بما يحكم عقله، وذكَّره بما هو مركوز في ضميره، ومستقر في عمق نفسه، فإنه يكون بذلك قد جعله أمام مسؤولياته، ليختار مصيره، ومسيره بنفسه، بوعي تام، ومع التفات واستحضار لعناصر القرار..وهذا التفريع بالفاء إنما هو على التذكرة بما تقتضيه الفطرة, والعقل، والوجدان, ويشاهد بالعيان، وليس تفريعاً على الإخبارات التي ذكرت في الآية.

2. إنه تعالى لم يذكر هنا سوى خيار واحد، وهو اتخاذ السبيل إلى الله سبحانه.. وهو خيار من يريد أن ينسجم مع فطرته وعقله، وكل الواقع الذي عاشه، ولمس الحقائق فيه..ذلك من جهة أن أي سبيل آخر، سوف لا يوصل إلى هدف مقبول، ومعقول ومرضي لأي إنسان عاقل وحكيم، بل هو سوف ينتهي إلى ضد المراد، حيث يؤدي حتماً إلى الدمار والبوار..

3. إنه بعد أن ذكَّر الإنسان بما تقدمت الإشارة إليه أطلق له المشيئة لإتخاذ السبيل باختياره، فقال: ﴿ فَمَنْ شَاء اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾، إذ لا موضع للإكراه، لأنه يوجب تضييع الهدف وعدم الوصول..

ومشيئة اتخاذ السبيل هنا تتحقق بالانقياد لأحكام العقل، والخضوع لمقتضى الفطرة، والتسليم لأحكام الشرع..وفي مقابل ذلك يكون الإخلاد إلى الأرض، وعدم الانقياد..ومما يشير إلى أن اتخاذ السبيل إنما هو بالاختيار قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾.. ويشير إليه أيضاً نهيه تعالى عن إطاعة الآثم، والكفور، وغير ذلك مما أشار إلى الضلال والهدى، والوصول إلى الله.

وقد أشار إلى الاختيار في مرتبتين: إحداهما مرتبة المشيئة، والأخرى مرتبة المباشرة وإنجاز الفعل، وذلك يدل على الاختيار بصورة أصرح وأوضح..وكما أن اتخاذ السبيل، يشير إلى الاختيار، كذلك هو يشير إلى حصول المبادرة من نفس الإنسان، ويشير أيضاً إلى أنها بالإرادة، والعمد، والتكلف للفعل.

4. إنه تعالى، لم يذكر هنا الهداية إلى السبيل، بل ذكر اتخاذ السبيل، وذلك لأن الهداية متحققة، ولا يحتاج إلى أكثر من التذكرة بها، ولو لمرة واحدة، فإن ذلك يكفي لأن تحضر الحقيقة كلها أمامه، كأشد ما يكون الحضور..

5. إن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من المبادرة إلى السبيل، والاتخاذ له. وهذا يشير إلى حتمية الالتزام والبناء القلبي، الذي يعطي العمل رونقاً، ويكون التعرض لإنجاز الفعل بدافع من المحبة، لتتناغم الحركة الجوارحية مع المتابعة الجوانحية الحنونة، فيعيشه في داخل روحه، وفي صميم مشاعره وأحاسيسه..فلا يكون العمل روتينياً، خاوياً، وجافاً فارغاً، بل هو حركة مترافقة مع السبحات الروحية، والنبضات الإيمانية اللذيذة والحية.. ليصبح جزءاً من الكيان الإنساني وليسهم في صنع إنسانية الإنسان، فيكون ضميره، ووجدانه، ومشاعره، وعقله، وروحه، وسلوكه، بكل ما لهذه الكلمات من دلالات.. وهذا يتناسب مع كون المقام مقام حث على الوصول إلى الله، والاتصال به، حيث لا يكفي في ذلك مجرد الحركة الجوارحية، بل هو يحتاج إلى حركة القلب والمشاعر أيضاً..ولأجل ذلك لم يقل: من شاء سلك سبيلاً لأن المهم ليس هو مجرد السلوك..

6. وقد قال تعالى: (إِلَى رَبِّهِ) ولم يقل: (إلى الله) ربما ليثير في الإنسان شعوراً بأنه يسير في ذلك السبيل، ليلتقي جهده وسعيه، بتوفيقات، وتسديدات، ورعاية مدبره الذي يعرف أنه القيوم، القادر، الرحيم، والعليم، الحكيم و.. و.. وأن هذه الصفات الربوبية لا بد أن تسهم في إيصاله إلى كماله، وإلى أهدافه السامية، من موقع المحبة والتدبير الحكيم، من القادر، العليم، الرحيم.. لأن المقام مقام طلب وسعي وإعداد للنفس وتأهيلها لمواجهة كرامة الله، ولتصبح موضعاً لرحمته، وألطافه وعناياته، الأمر الذي يفرض إعادة بناء كل هذا الكيان الإنساني وصياغته وفق المواصفات المطلوبة لمن يريد تلك المقامات..ومن الواضح: أن الذي لا بد أن يتولى ذلك، فيعطينا كمالاتنا، ويرفع عجزنا، ويقوي ضعفنا، ويزيل نقصنا، هو القوي، الخالق، الحميد، المجيد، العليم، الحكيم، المدبر، الغني، الحليم، الكريم، الرحيم، المتصف بسائر صفات الربوبية..ولا بد أن يتبلور الإحساس بمقام الربوبية، الذي له هذه الصفات، في مواقع التحدي والذي نواجهه من داخل أنفسنا، بما تجنده ضد هذا المسار، من دوافع شهوية، وغرائزية، يشد من أزرها المغريات القوية التي تحيط بنا من كل جانب ومكان..إن شعورنا بأننا نعيش في كنف مزايا الربوبية تلك، يشعرنا بالأمن، ويعطينا المزيد من القوة والصمود في مواجهة التحديات..فلو أنه قال: (يتخذ إلى الله سبيلاً).. فإن لفظ الجلالة (الله) سوف لا يكون ظاهر الإيحاء بهذه المزايا.. بل إن المعاني الظاهرة لهم فيه، - وهي جليلة وجميلة أيضاً - تحتاج لكي توصلهم إلى مزايا الربوبية، إلى مزيد من التأمل والوعي والتدقيق، الذي قد لا يتوفر لدى كثير من الناس..فاقتضى اللطف والعطف الإلهي مخاطبة الناس على قدر عقولهم، واختيرت كلمة الرب هنا من أجل تيسير وصولهم إليه تعالى، ووعي مقام ربوبيته من خلال نعمه، وألطافه..

7. ويلاحظ: أن الحديث هنا عن السبيل قد جاء منوناً بتنوين التنكير، الأمر الذي يفهم منه: أن هناك سبلاً عديدة إلى الله تعالى.. مع أن السبيل إلى الله تعالى واحد، فقد قال في موضع آخر: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾(1).

قال سبحانه: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾(2).

غير أن التأمل في مجموع الآيات الشريفة يزيل هذه الشبهة، إذ إن الله سبحانه قد قال أيضاً: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾(3).

وذلك معناه: أن اختلاف الإضافة قد أوجب اختلاف التعبير، أي أنه تارة يراد إظهار النسبة إلى السبيل المتصل بالله، والموصل إليه، وحصر النجاة بما كان متصلاً به تعالى، فالمناسب هو الإتيان بصيغة المفرد باعتبار أن الطريق الموجب للنجاة هو فقط ما ينتهي إلى الله، ويوصل إليه دون سواه، فيقول: (هَذِهِ سَبِيلِي).. ويقول: ﴿ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾(4)..وأخرى يراد الحديث عما يوصل إلى غير الله، فهو متكثر بتكثر الغايات والأهداف.. فيُذكَر ذلك بصيغة الجمع، فيقال: (سُبُل)..وتارة ثالثة ينظر إلى نفس ما يوصل إلى الله سبحانه مما قررته الشريعة، فتلاحظ كل واحدة واحدة منها، مثل الصلاة، والزكاة، والصدقات، وتلاوة القرآن، و.. و.. فيعبر عن هذه المفردات بصيغة الجمع، فيقال: (سبلنا)، و(سبل السلام)..ولعله قد لوحظ في ذلك ما ألمحنا إليه فيما سبق، من أن تنوع المستحبات إنما هو من أجل تمكين كل إنسان من أن يختار ما يناسب حاله منها حيث بها يكون سمو روحه، وتصفية، وتزكية نفسه، فلذلك صح التعبير بصيغة الجمع، فإن الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق..

8. وأما لماذا لم يقل: (يتخذ إلى الجنة سبيلاً)، بل قال تعالى: (إِلَى رَبِّهِ)؟!، لأن تحديد الغاية بالله سبحانه، من شأنه أن يحدد السبيل الذي يريد الساعي إلى الله أن يتخذه، حيث يجد نفسه ملزماً بإبقاء هذا السبيل في الدائرة التي يرضاها الله سبحانه.. الأمر الذي يحتم الرجوع إليه تعالى، لتحديد السبيل الذي يرضيه..

9. ثم إن في الآية انتقالاً من ضمير المتكلم الحاضر، وضمير الجمع.. إلى ضمير المفرد الغائب..فقد قال تعالى أولاً: (شِئْنَا). (بَدَّلْنَا). (شَدَدْنَا). ثم قال هنا: (إِلَى رَبِّهِ).. ولم يقل: (إلينا)..

ولعل سر ذلك هو أنه حين كان يتكلم عن التصرف الإلهي، فإن المناسب هو الإشارة إلى مقام العزة والعظمة، وإلى التدبير من موقع الربوبية ووسائله وأدواته على قاعدة: ﴿ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾(5)، التي هي بيده، وطوع إرادته..وأما حين أراد أن يتكلم عن العبد في مسيره إلى ربه، فقد كان لابدَّ من الإتيان بصيغة المفرد، ليكون التوجه إليه هو تعالى دون سواه.. ولأن هذا المسير إنما يعني نفس العبد، وذاته كشخص، ويريد له أن يستفيد من هذا المسير في صناعة خصائصه وشخصيته، وتأهيله لكرامة الله، والحصول على السعادة في الدنيا، والنجاة في الآخرة.. وهذا لا يناسب أن يتحدث عنه ضمن مجموعة أخرى..

ولأجل ذلك خاطبه كفرد وقال: ﴿ مَنْ شَاء اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ﴾.. ولم يقل: (فمن شاؤوا اتخذوا إلى ربهم)..أضف إلى ذلك: أن الفرد حين ينال ميزاته كإنسان، لا تبقى للميزات الفردية تلك القيمة الكبيرة، بل تتساقط الميزات والحدود، ويتضاءل تأثيرها، ويضعف ظهورها.. ويصبح الفرد بذلك أكثر اندماجاً في الآخرين، ولهذا البحث مجال آخر..

10. وهناك نقطة أخرى تحسن الإشارة إليها، وهي أنه تعالى قد ذكر هنا الجزاء، وحذف الشرط، فإن التقدير: (من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً) (اتخذه)، فحذف الجزاء هنا إنما هو لمعلوميته من جهة.. وربما - من جهة ثانية -: لأنه يراد الإيحاء بلزوم التسريع، والمبادرة، حيث لا يراد الفصل بين المبادرتين، وبين الطلب حتى بمقدار أداء كلمة.. بسبب أهمية هذا الأمر، فهو قد بادر إلى ذكر الجزاء، واعتبر المبادرة إلى فعل الشرط، أمراً مفروغاً عنه، لشدة ظهور ضروريته..من جهة ثالثة، وهي الأهم، أنه تعالى: لا يريد لخيار الرفض أن يمر في وهم هذا الإنسان، الميال لجهة شهواته، وملذاته..


1- سورة يوسف الآية108.

2- سورة الأنعام الآية153.

3- سورة العنكبوت الآية 69.

4- سورة الأنعام الآية153.

5- سورة النازعات الآية 5.